Sunday 19th September, 1999 G No. 9852جريدة الجزيرة الأحد 9 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9852


القصة السعودية / دراسة نقدية: 1-3
التشكل التراثي في دفائن الشمري القصصية,.
د, محمد محمود رحومة*

الكاتب القصصي (عبد الحفيظ الشمري) صدرت له ثلاث مجموعات قصصية: الأولى: أبي والقوافل والثانية وتهرأت حبالها والثالثة والأخيرة دفائن الأوهن تنمو ,, وتمتاح هذه المجموعات صورها وموضوعاتها من ذاكرة الأيام المنسية، من دفائن الشمري نفسه، ومفردات الشمري في قصصه المنوعة تبقى واحدة على الرغم من اختلاف موضوعاتها، فالماضي يأسره تماما، بنخلاته وشجيراته بالمراعي والمقهى، الجد والجدة وصورة الأب والبيت القديم والعتبة البالية، بالرمل والعطش، ويجدل الكاتب من هذه التوليفة المتأخرة حكاياته القديمة، ناعيا الحاضر الذي فقدنا فيه هويتنا، باسطا عينيه وقلبه على دفائنه يستخرجها يقدم لها تعاويذ البقاء ويجري لها طقوس المحبة ثم يعيدها الى داخله المكان الأمين الذي تختفي فيه.
واجه الشمري الواقع برومانسية كأغلب مثقفينا وكتابنا، لم يستطع التطلع الى المستقبل وهو مكبل بالماضي، الماضي الجميل رغم كل شيء فهو يمثل المبادىء والمثل العليا، الطهارة، والنقاء، اما الحاضر المرعب الذي نواجهه فقد تاهت فيه معالم الأشياء.
واضمحلت القيم وكادت تتلاشى مع سعار المادة والتكنولوجيا الزائفة التي ازهقت روح الإنسان وصارت الحياة ازرارا في أزرار وحدثت الهزة النفسية التي نعيشها وتفاقمت مع الكاتب المرهف الحس، فبات يحيا بين دفائنه وصار يشكل منها رؤيته ومادته، هل يعد ذلك هروبا ام هو نوع من المواجهة التي تنكفىء على الذات؟ لست أدري، ربما يجيبك المحور الأول من هذه الدراسة.
أما المحور الثاني فيبحث في فسيفساء المكان والتشكيل الجمالي بالدفائن في قصص الشمري، فقد استهوته لعبة الدفائن ودخل في اعماقها واعتصر رحيقها إن كان لها رحيق باق لقد عاد الشمري بمكانه الى الماضي، هجر الواقع مكانيا وقدم لنا تشكيلات لمفردات الدفائن وهي تمثل نتفا في موضوعات قصصه.
المحور الثالث يقدم المفردات العصرية لدى الشمري، وقد تحولت الى دفائن,, لقد ارتدى الشمري دفائنه، وقرر الخروج علينا ومواجهتنا في عصرنا بلغة اخرى قديمة هي لغة الدفائن ومفرداتها.
أما المحور الرابع والأخير وهذا ما تمثله المجموعة الأخيرة دفائن الأوهن تنمو فهو يمثل مرحلة استعادة الذات لدى الشمري، فقد انزاحت الدفائن الى حد ما، وتركت دورها لعصر بل اصبحت الدفائن لديه تشكل لحظة تنوير للحاضر، وبها تصبح الدفائن اضاءة للواقع المعاش هذه محور الدراسة وآمل ان يوفقني الله في عرضها.
أولا: الدفائن: هروب أم مواجهة:
يكشف الشمري عن نفسه منذ الوهلة الأولى في مجموعة (ابي والقوافل) حيث يحيا حياة كاملة مع دفائنه ويشكل منها رؤيته ويرى من خلالها الواقع نفسه, ففي أول قصة تطالعها وفي أول سطر وليس هذا مصادفة تطالعك في هذه العبارة حدقت طولا بالصور التي يأسرها الجدار الصامت منذ زمن (1) تحكي القصة عن أم تعاني من المرض وقد تخلى أبناؤها جميعا عنها ووحدتها، ومع ذلك تتمسك بهذا الاطار الذي يضم صورة قديمة لأبنائها معا
انه الحنين الى الماضي دون ان يمتلك أسبابه الواقعية, ان الأم كما جاء في القصة تحلم بصورة جديدة تسكن ادنى اوجاعها، تغلف الواقع ببهجة واهية المعالم (2) الشمري او الأم مشدود ما يزال بصورة تسكن الجدار الصامت يبحث عن اعادتها الى الحياة وهي جثة هامدة, الكاتب في حالة وعي باللحظة التي يعانيها وبدليل انه أدرك العلاج: الدواء ياسيدي هو استئصال كل العفن من هذا الجسد الطاهر,, (3) ولكن لا الشمري ولا الطبيب ولا غيرهما يستطيعون مغالبة الواقع وتظهير الآلام والعودة الى الماضي الجميل, ان الصورة ستظل احدى دفائن الشمري العالقة في قلبه، لا يستطيع ان يجدها في الواقع او يعيدها الى الحياة من جديد.
لقد رفضت الأم الدواء وأعلنت حكمتها في قولها لقد تنامت بذرة الجفاء حتى اصبحت شجرة كبيرة,, تحجب اعضاؤها ضوء الشمس (4) اكتفى الشمري بالتعليق وآثر الهرب هنا, ولم يستطع ان يعيد للصورة القديمة الباردة حرارتها السابقة أو يستبعدها تماما ويحطمها ويبحث عن الحل, عن ايقاع العصر ويرحب بالدواء - العلم -
وكذلك يفشل الجغرافي في القصة الثانية ياللقدر الميت,, كيف اجد ارضا تلتهم العصافير وتسحق أغصان الرمان حتى اصبح الرماد تضاريس الأرض هنا (5) إن القرية تصبح رمادا (حتى الجبل تدحرجت هيبته وسقطت أكتافه),, يبحث الكاتب عن تضاريس جديدة ومعالم جديدة, إن العلم في هذا العصر لم ينقذ الارض من الزلازل والترمد والخراب اين ذلك من هدوء الزمن الماضي,, ويبحث الشمي كذلك عن مسارب تبدو مشروعة لهروبه.
وبالرغم من الواقع المزري للقرية التي يصورها الشمري في الماضي إلا انه لا يعدم وسيلة لاقناعنا بأن دفائنه هي التي سوف تنتصر في النهاية وتعيش، وسوف تزيح الواقع الجاثم فوق كاهلها، يقول في نبتة الوحل والكسالى (حفرت اصبعه اللعينة تربة الجذور وتمثل هيئتها فيما لو اصبحت هذه النبتة الصغيرة وردة مبهجة الألوان فاتنة وذات رائحة زكية (6) , هول يشكل دفينة جديدة في أرض خربة لم تعد تعطي ولكنه يصر على ان يزرع الورد المبهج فوق فتات الماضي البائس,, الفعل هنا يبدو إيجابيا ولكن لو تأملنا العبارة جيدا لأدركنا انه فعل يحمل الحيرة والسلبية اكثر مما يحتمل التغيير وازالة الصورة الكئيبة, واذا عاودنا النظر في هذه القصة، فالأرض مترمدة والأصابع التي تحفر لعينة لا خير فيها، ولكن الشمري مع ذلك ما يزال يتمثل هيئتها اي يتخيل ويتصور ويهرب من المواجهة.
لقد كاد الشمري ان يضع يديه على مكمن الداء حين قال في القصة نفسها,, ,,, لأنني انفقت زمنا طويلا من عمري وعمر أبي في الأحلام والأماني الوردية المتفائلة، فلما حدث ما حدث لي حاولت ان اتراجع ولكن فقدت الصبر والهدوء والوقار حتى اصبحت بهذه الهيئة المزرية (7) , يدرك الكاتب ان العرب قد استنامت كثيرا مطمئنة الى مجدها القديم ففقدت الحاضر والماضي معا, فهو يمتلك الرؤية لكنه يفتقد الوسيلة, الدفائن معلقة حول رقبته كالتمائم تعوقه عن الحركة.
عن الفعل الإيجابي عن التغيير, وهو مشدود اليها رافع النظرات موزع الهوى بين الحب القديم والواقع المشوش, كيف يتغلب على المشكلة، يقول الشمري على لسان عبدالسلام: ان افضل طريقة للهروب هو الدخول في موكب السائرين الى البحر بعد ان سارت الفتاة نحو النائمين في طرقات المدينة (الأموات الأحياء) الذين يفترشون الأرض ويقتاتون بقايا الطعام بنهم شديد (8) , إن الاتجاه الى البحر الى الغرب الى العلم نوع من الهروب لدى الكاتب ليس مواجهة حاسمة تستحق منا ان نهيىء انفسنا لها, إن الماضي هو الذي يتكلم هنا، والدفائن هي التي تشكل موضوع القصة.
في قصة (النمر الجبلي) يتجسد الخوف الذي يلف أهل الوادي والفزع والهلع الذي يسيطر على حياتهم ومعالم الطبيعة المؤذية ورمضاء تسمى الأرض، مفردات الدفائن هنا تشكل ايضا اللحن الأساس في القصة, يقول القاص يعيش في الوادي المجاور لنا الرجال واطفالهم والدواب، وذوو الهيئات القبيحة (تأكدت بعد انهن نساؤهم).
لا يفصلهم عن وادينا شيء غير معالم الطبيعة المؤذية، وجوههم المشوهة طبيعيا كأشواك شريرة الطلح والقتاد يدخل بين جلودنا والعظام,, (9) هي صورة للواقع الكابي، ولكن الكاتب يمضي معها معتصرا دقائق تفاصيلها يزين بها قصته كنوع من الحلي التي تضعه النساء على جيدهن، بالرغم من بشاعة التصوير وقبح التعبير إلا ان الكاتب يبدو راضيا مسرورا بهذا الكشف الذي اهتدى اليه، ان يصور القبح جميلا, وان يشكل من الدفائن البالية صورا جديدة أخاذة، ان صورة ذوي الهيئات القبيحة اكتشفت بعد أنهن نساؤهن تبدو مضحكة الى حد البكاء, الدفائن تتألق ايضا وتصنع عالمها القصص لدى الكاتب يحاول تسوير الماضي بالاسرار والدفائن ليصنع منها مادة قابلة للحياة بعد ان ظلت ميتة.
والظل,, واحة الأمان من سطوة الشمس، سيدة القسوة كما يقول الكاتب نجده مستباحا من اعدائهم قد وجد الأهالي الظل الذي كانوا يهربون اليه من قيظ الشمس (,, وجدوا فجأة الظل مفترشا بشيء غريب، ادركوا انها في هذه الظهيرة ليست لهم,, فاضت الدموع,, تألموا من هاجس يسكنهم,, (10) .
تبدو الطبيعة معادية للبشر، تشهر أسلحتها في وجه الإنسان، ومع هذا فهناك حب أعمى للأرض,, لا يفسر لنا الكاتب سر هذا الحب سوى انه احدى دفائن الماضي الذي يسري في الدماء, اننا نضع ايدينا هنا على ملمح مهم من ملامح الشخصية السعودية، فهو ذلك الإنسان الذي يعتز بأرضه وبواديه مهما كانت قسوة الطبيعة من حوله, انها ارضه التي كونته من ثراها وأخرجته من حصاها هو مشدود اليها رغم كل شيء لقد تعرف العربي على عدوه واستطاع ان يهزمه استيقظ هذا البغيض المبهم، اصبح كلبا غريبا، ويبدو بليدا وذو هيئة مخيفة,, وعرف الكاتب ما الذي يشوه وجه الارض ويعبث بالظل, انه يدعو هنا الى تنقية الدفينة وغسلها وإعادة بثها, ان الماضي يمكن ان يتجسد في الحاضر لو استطعنا استقطار حكمته واستنطاق دروسه علها تجدي في معركة مواجهة الواقع, هنا ما يزال الكاتب متحيرا يمسك بخيط اليقين ولكنه موزع بين الماضي والحاضر، بين دفائنه وعصره المعاش.
وتشكل الدفائن في قصتي (القارب في القارب) من نفس المجموعة، فالتصوير اسطوري والحدوتة تبدو ضاربة في الرموز التراثية وهي تؤكد الصدام مع الحاضر، والخوف من الماضي في الوقت نفسه، إن البحارة في هذه القصة ينقلون من بين الأحراش اشياء يخفونها وأوراقا قديمة تحملها أيديهم بعناية ورفق,, (11) ,, ترى هل هي الدفائن تتجسد هنا في هذه الصورة؟! من الممكن ان تكون كذلك لأن الكاتب يحيطها بهالة من التكريم انه ما يزال مشدودا الى الماضي، مع ان عينيه على الواقع الذي يواجهه.
ويعاني بطل ابي والقوافل عطش ورمل من جهامة الواقع فيهرب الى الماضي انه يحاول التحرر من عذاب التفكير في تلك الأشياء الضائعة البعيدة,, عن تلك القوافل المهاجرة والأودية ليبحث عن نهار آخر يأويه من حصار الأسئلة والذكريات الدفينة (12) الوادي الذي يجهد الصبي في الهروب منه مع انه يحبه يظل كما هو( لقد ازمع الرحيل وألغى كل فكرة تشده الى هذا الوادي) ولكنه لا يستطيع لقد رفضته المدينة وتركته السيارة لانه صبي صغير، وانطلقت السيارة الكبيرة تتهادى صوب المدينة (13) , لم تصحبه السيارة إذن بسبب او لآخر ولكنه يختار الحل الشمراني ان يظل بالوادي يحاول اخذ دور والده وإحياء الماضي القديم لقد اختار الشمري الطريق,, (إنني افضل ذلك,, لآخذ دور ابي وأهجر السير نحو المدينة التي تغيبه,, وأوغل بالرمل والأودية التي تمتد في عناق الأفق (14) والمدينة لدى الشمري لا تحمل له إلا (سجن أبيه)، انه مكان طارد لا يرحب به، والقرية والوادي احدى دفائنه تنتصر في النهاية, ومرة أخرى هل هذا هروب ام مواجهة؟!
وينقل لنا الكاتب في قصة من أجلها علق الرأس في الهواء , أجواء عرس شعبي، وتنتقل معه الى القرية ونغوص في أعماق التاريخ لنشهد معه عرس جارتنا الصغيرة (15) ان دفائن الخوف من القرية وقسوتها تشكل اطارا لهذه القصة وهو يود التخلص منه اي الخوف بهذا العرس,, (لا نعرف إلا قسوة القرية وشراسة ثورها المبقع ذي الجثة الهائلة (16) ثم ينتقل من القسوة الى الفرحة تفرح القرية بالعرس وأنتشى أكثر منهم (17) وترحل العروس الحسناء التي كان يريدها في الوقت الذي سقطت بقرتهم التي كانت تمنحهم أمانا من العطش، ومع ذلك فهو سعيد لانه (رأى رأس الثور الشرس معلقا في الهواء (18) , وهي قصة تجسد الحيرة، كذلك فقد رحلت العروس مع الحلم بالأمن والخصوبة مما جعله حزينا إلا ان العدو الأكبر الثور الشرس قد علقت راسه في الهواء، هل هي محاولة لتنقية الدفائن وبعث الجميل فيها, انها القرية بسحرها وجمالها، بعروسها الطفلة الطافحة الأنوثة وهي القاسية بعد ان خلت من الحبيبة وهي المتجهمة المتصلبة بعد ان نفقت بقرتهم.
,,, ولكن كل ذلك قد انتهى بتعليق راس الثور في الهواء,, لقد انداح الألم وتحققت النشوة الكبرى بعد مقتل الثور، هذا الثور هو الذي اقلق القرية وزرع الخوف وقتل البقرة ومكن الآخر من الاستحواذ على العروس الجميلة، إذن سوف تعود القرية الى جمالها, هذا ما يتوهمه الشمري وهو يدخل في دفائنه ليشكل منها هذه القصة الرمزية التي توفر لها قدرا هائلا من التأثير.
الدفائن تشكل إذن الموضوع الرئيسي في قصص الشمري ولا سيما المجموعة الأولى التي تحمل عنوان أبي والقوافل ولا ننكر انها تدخل في ثنايا القصص الأخرى وتشكل ابعادها الفنية ولكنها هنا في هذه المجموعة تضع اللبنة الأولى لعناق الكاتب مع دفائنه وقدرتها على ترميز احداثه والالتحام بموضوعاته.
لقد واجه الكاتب قضيته مع الماضي خلال هذه المجموعة وهو يداعبها من بعيد فيما بعد ولكنه هنا يعاني في العثور على الحل, هو يتكلم من الماضي باسم الدفائن التي شكلته وصنعته وكونته وهو يحن اليها الى الوادي البعيد والقرية التي هناك، إلى التاريخ الجميل الذي أسره ولكنه هو أيضا ابن الحاضر يعيش عصره ويدرك ان الماضي لن يعود وان الحاضر جدير بأن نحرسه بعقولنا وقلوبنا حتى لا نتخلف عن الأمم الأخرى.
وبين هذا وذاك تكون مأساة الكاتب, انه كطائر الخفاش لا الطيور عدته من أفرادها ولا الحيوانات جعلته حيوانا ضمن فصيلتها فعاش هكذا معلقا بين الأرض والسماء.
(1) ابي والقوافل ص 11
(2) نفسه ص 2.
(3) نفسه ص13.
(4) نفسه ص 14.
(5) السابق ص 27.
(6) نفسه ص 37.
(7) نفسه ص 38.
(8) السابق ص 45.
(9) نفسه ص 59.
(10) نفسه ص 60.
(11) السابق ص 75.
(12) نفسه ص 94.
(13) السابق ص 101.
(14) نفسه ص 103.
(15) نفسه ص 115.
(16) نفسه ص 116.
(17) نفسه ص 117.
(18) نفسه ص 121.
*عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
ملحق رواد الاستثمـار
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved