Sunday 19th September, 1999 G No. 9852جريدة الجزيرة الأحد 9 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9852


رواية (الحمامة) لباتريك زوسكيند - 1
الهشاشة المهددة بما هو أوهى منها
إبراهيم نصر الله

الذين اتيحت لهم سعادة اكتشاف رواية (العطر) للكاتب الالماني باتريك زوسكيند، انتظروا بلهفة غير عادية ظهور رواية اخرى له بالعربية، بعد ان كان الدكتور نبيل حفار قد فتح شهيتهم الادبية الجمالية عندما ترجم العطر, واذا كان لكل انسان من اسمه نصيب، فان للعطر في اسمها اكثر مما يحمله الاسم، فهي رواية نادرة قلما يبدع كاتب مثلها، انها اشبه ما تكون بالعطر نفسه، تشمه وتنتشي به دون ان تراه، وكقطعة موسيقية من الصعب وصفها.
لا يملك الكاتب الذي يقرأها الا ان يقع فريسة الغيرة، كلما امعن فيها، وكلما اعاده الحنين اليها، لكنها ككل عمل ابداعي فيها من السحر ما في السحر من دهشة، فرغم ان الرواية مكونة من كلمات وجمل وصفحات، الا ان المرء يحار في تلك العبقرية التي كتبتها، وحولت جان باتيست غرنوي تلك الشخصية العجيبة الى نموذج روائي غير عادي وهو يسعى الى كمال جنونه من اجل صناعة عطر معجزة، يذهب هو في النهاية ضحية له، بعد ان يستخدم قليلا منه، حين يشمه المتشردون على ارصفة ضياعهم فيفتنهم الى ذلك الحد الذي يندفعون فيه لالتهام غرنوي حيا (كل واحد كان يريد ملامسته، كل منهم اراد ان يحصل على جزء منه، على ريشة او جناح، على شرارة من ناره الرائعة، مزقوا عنه ثيابه، ثم شعره وجلده، وخلال دقائق كان قد تمزق الى ثلاثين قطعة .
تلك رواية لا تتكرر في حياة كاتبها مرتين، لانها ببساطة لا تتكرر في حياة الادب كثيرا، لكن ذلك لا يمنع اللهفة من ان تحمل القارىء للحلم بعمل آخر بمستوى الاول عبر رواية اخرى بعنوان الحمامة، يطل زوسكيند على قراء العربية ثانية، وبترجمتين مختلفتين صدرتا في دمشق والقاهرة في آن، لينعش الامل في مساحة اخرى من المتعة الجمالية، ويقدم رواية جميلة، لكنها ليست كبيرة، رواية حساسة، تغرف من الغرائبية وادب العبث في بداياتها، لكنها لا تكمل المشوار في الاتجاه ذاته حين تبلغ نهاياتها, يكتب مترجم (الحمامة) عدنان عبدالسلام في مقدمة الرواية اضاءة لحياة زوسكيند فيشير الى انه ولد في امباخ - المانيا عام 1949 ودرس التاريخ في ميونخ، وفي فرنسا قدم اطروحة موضوعها نشاط برنارد شو السياسي والاجتماعي، بدأ بكتابة القصة القصيرة منذ ان كان على مقاعد الدراسة الثانوية، كما كتب للصحافة في اوقات منقطعة, اما قوته اليومي فكان يكسبه من عمله في قسم للعقود والعلامات التجارية، وكمدرب مساعد للعبة كرة الطاولة واعمال اخرى, اما القسم الاكبر من دخله فكانت تدره عليه مسلسلاته التلفزيونية التي كتبها، والتي حسب قوله كانت حاذقة المستوى، بحيث كان من الصعب على قراء التلفزيون ان يرفضوها.
عام 1984 صدرت له (الكونتر باص) وهي عبارة عن مسرحية طريفة وهزلية ذات فصل واحد وشخصية واحدة، تعتبر من اكثر الاعمال عرضا على خشبات المسرح الالماني، كما تم عرضها في كل من باريس ولندن.
العطر - قصة قاتل كانت في الاصل مصممة كقصة قصيرة، الا انها تضخمت وكبرت بشكل عفوي اضطر معها المؤلف للسفر الى (إكس) و(غراس) باحثا عن (الانف الكبيرة) وقد صدرت العطر في اكثر من خمس وعشرين لغة في العالم، وبيع منها ملايين النسخ، وحولت كاتبها الى واحد من اكثر كتاب العالم شعبية، اما هو فانه نادرا ما يظهر علنا، وهو لا يجري اية مقابلات صحفية.
الحمامة
في روايته الجديد يقدم لنا زوسكيند عملا اشبه ما يكون بمونودراما روائية، تقوم على اكتاف شخصية واحدة، تعاني من عزلة هائلة ومن رضى - لم يخضع بعد لاختبار - تمثله حياته الرتيبة التي يعيشها، بما تحقق له من هروب ناجح من مآسٍ مرت في طفولته وشبابه، وتنفتح الرواية على حياته في لحظة ساخنة، لحظة ارتطام هذا الهدوء اليومي الذي يرزح تحته بحمامة تلتصق بباب غرفته ذات صباح، محدثة اثرا مروعا.
(جوناثان نويل تعدى الخمسين من عمره، عاش منها عشرين عاما خلت من اية احداث حتى فاجأته مشكلة الحمامة التي ذهبت بين ليلة وضحاها بالأمان الذي كان يحياه، لم يكن يتخيل ان يحدث له في حياته اي شيء ذي اهمية ماعدا موته وهذا يناسبه تماما فهو لا يحب الاحداث ويكره بشكل خاص تلك التي تهز توازنه النفسي وتحدث فوضى في رتابة يومه).
وهكذا يتحول وجود الحمامة بالباب، الى ذريعة للمراجعة، وذريعة للهرب ايضا، وفي ذلك ما يشير الى هشاشة حياة جوناثان التي - رغم اتخاذها مجرى متوازنا بلا منغصات تذكر - تصبح في اقل من خمس ثوان ريشة في مهب حمامة ولعل الروائي وهو يختار هذا الطير الوديع، قد اراد ان يصعد من حرارة الحدث ويذهب بعيدا في اكتشاف شخصية بطله، اذ لا يمكن ان يبلغ هذا المستوى من المعنى لو ذهب نحو جوناثان حاملا بيده حيوانا مفترسا، ليطلقه في الممر امام غرفة بطله المستوحد فبذا كان يمكن ان يتحول جوناثان الى انسان طبيعي بالكامل، لكن الهشاشة المتمثلة بالحمامة حين تقتحم ذلك الصباح، تنبىء بوضوح لا لبس فيه ذلك الحرص المطلق لجوناثان كي يكون وحيدا ووديعا، كحمامة - ربما - واكثر.
ان جوناثان واحد من البشر الذين لا يحبون ان يقعوا فريسة لاي مفاجأة، فحين يود الخروج صباحا يلتصق بالباب (وبوساطة اذنه كان يستطيع ان يرى كل شيء خارج الغرفة، كان يميز ويعرف هوية كل ضجيج في الطابق كله، يعرف كل طقطقة وكل قرقعة وكل خرير وكل خشخشة، بل اصبح يستطيع تأويل الهدوء) لكن جوناثان ورغم هذه المواهب توقعه الحمامة في فخ هدوئها.
لذا ليس من الغريب ان يكون شعوره تجاه هذا الكائن الذي زلزل قناعاته وثقته بنفسه على هذه الدرجة من العنف، يصف الراوي الحمامة: كانت تميل برأسها الى الجانب وتحدق فيه بعينها اليسرى، هذه العين الصغيرة كقرص مستدير ذي لون بني يتوسطه سواد، ملأته رعبا وهو يتأملها تقبع على جانب الرأس دون حاجب او رموش، عارية تماما، موجهة بلا اي خجل نحوه ومفتوحة على نحو هائل,, لقد ذعر ذعرا شديدا,, وبقفزة واحدة الى الخلف هرع الى داخل الغرفة صافقا الباب، قبل ان تتمكن الحمامة من فتح عينها التي اغلقتها وصل الى السرير حيث جلس وهو يرتجف، ودقات قلبه على اشدها وجبينه بارد كالثلج.
من هذه النقطة يبدأ جوناثان باستعادة حياته، وكأن كل ارتطام مدو بالحاضر هو مفتاح العودة الذي لابد منه لدخول بوابة الماضي، للاحتماء بها او محاكمتها والخروج عليها بالتالي، ان امكن.
وسوى فقدانه لأمه، وهرب الفتاة التي زوجوه بها من بيته ليس ثمة احداث كبيرة، لكن هذين الحدثين هما سكة الحديد التي سارت عليها حياته فيما بعد (وبناء على ذلك، توصل جوناثان الى حقيقة مفادها ان الناس لا يمكن الوثوق بهم او الاعتماد علهيم، وان المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته الا اذا نجح في الابتعاد عنهم).
ان حكمة جوناثان التي توصل اليها كانت كافية كي يعيش العزلة الكاملة التي عاشها لكن العزلة نفسها كان لابد ان تختبر ومن المفارقة ان حياة ثلاثين عاما من التقوقع في الزاوية، يمكن دائما ان تختبر في يوم واحد بين الناس، وهذا ما يقوم به زوسكيند حين يلاحق بطله الذي يتمكن من الهروب من الحمامة، بعد ان تسلح بمظلة ومعطف شتوي سميك وحذاء عال في ذلك الصباح الصيفي الذي ينذر بموجة حر شديدة، ويدفعه عنوة للخارج.
حين يذهب الروائي ببطله لهذا الاختيار، لا يجد الكثير مما يختبره به، فحياة جوناثان نفسها فارغة، فهو يقوم بعمله كحارس كما يقوم ابو الهول بوظيفته، بل انه يحس بالتماهي في اكثر من موقع مع شخصية ابي الهول، لانه يرى - من خلال تجربته - ان الحارس، ومهما كان يقظا ورغم ان مهمته قائمة على فضيلة الانتباه، الا انه لا يستطيع بعد ايام من بدء عمله ان يحافظ على حواسه متيقظة، لذا فان الخدر هو جزء من حياته بل هو عمودها الفقري الذي يمتد من سريره حتى وقفته بباب البنك التي يبدو انه فخور بها، اذ يقوم بعمل احصائية صغيرة يكتشف بعدها انه امضى ما يقارب خمسا وسبعين الف ساعة واقفا في مكانه امام البنك، وهو بذلك قد يكون الشخص الوحيد الذي امضى اطول مدة ممكنة واقفا في مكان واحد.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
ملحق رواد الاستثمـار
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved