Sunday 19th September, 1999 G No. 9852جريدة الجزيرة الأحد 9 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9852


شعرية الصحيح (2 - 3)
رقصة عرفانية تراوغ وعيها الميتافيزيقي!!
محمد الحرز

الاشتباك الشعري بالتصوف، والارتماء في احضانه ، باعتباره تمفصلا ومنعطفا، في تراثنا النثري، بغية التواصل والحوار، اللذين يفتحان للتجربة افقا، يحمل سمات التجريب، والانفتاح ليس على التراث فحسب، وانما على مناطق تفضي الى استكشافات جديدة في طرق التعبير لذا يمتلىء سياقنا الشعري، بما يشبه التضحم في تقارباته متعددة الوجوه للنص الصوفي فهذا الاخير، يشكل منطقة ملتبسة للوعي الشعري، فهو من جهة اولى لازال نصا اشكاليا في عمق تراثنا الفكري والادبي، ومتكلسا في ذهنية الثقافة العربية، الامر الذي ادى - من جهة ثانية - الى عملية تفتيت وتقطيع لسياق النص الصوفي، فبالتهميش تارة، وبالاقصاء والاستبعاد تارة اخرى، وقد يكون الوعي الشعري بتجاربه الابداعية المختلفة، هي محاولة جادة لاعادة الاعتبار لهذا النص، وايضا، محاولة استقطابية، كي يتم التأسيس لنص شعري مغاير في الرؤية والتوجه والموقف.
وكأن النص الشعري فيما يبدو، اخذ على عاتقه اشكاليات النص الفكري، ومقولاته الكبرى، وكأن ما عجز عنه الفكر، اصبح في حكم المتحقق والمتعين في الشعر، لكن المسألة ليست فيما يدعيه القول الشعري بافرازه الصوفي، وانما فيما ينتجه من جماليات شعرية، قادرة على ان تستوعب ليس المفردة الصوفية - فيما هي منتزعة من سياقها - وانما على ما يتضمنه السياق الصوفي من معنى وصورة وذلك في الصحف من شرطه التاريخي، وغير ذلك، تصبح التجارب الابداعية، لاتعدو كونها انحدارا وارتدادا على نفسها قدر اختراقها للتراث الصوفي، وقدر تأسيسها لشبهة القول الشعري، وفق التصور ذاته الذي يعلي من شأن التجربة الشعرية المتدفقة من عمق النص الصوفي جملة وتفصيلا سنقرأ ديوان (رقصة عرفانية) الصادر حديثا عن دار الكنوز الادبية.
-2-
تجترح شعرية الصحيح، منطقة التعاضد الدلالي مع نص التصوف من خلال مستويين من الدلالة:.
1 - دلالة التعاضد اللغوي.
2 - دلالة التعاضد المعرفي.
وهما ركيزتان أساسيتان من ركائز الوعي الشعري الذي ينتجه النص في المجموعة ككل، وقد يتم التواطؤ على استحداث شروخ في بنية السياق التعاضدي ذاته، تفرضه على الشعرية، موجهات ضاغطة، يتسم بها الوعي الشكلاني في منطقة التعبير الشعري وربما كان مرد ذلك، يعود الى ما يحكم التجربة من التباسات غير مستقرة، ولا متطامنة ليس حول مفهوم الشعر فقط، وانما حول القيمة المطلقة التي تحدد علاقة الشعر بالحياة وبالوجود والاشياء والكائن وهذه امور، ينبغي التصالح معها وادماجها في بنية الوعي الشعري، وادراج انعكاساتها، وتجلياتها في الشكل التعبيري الاكثر اختراقا للحظة الزمنية الراهنة، بكل مستوياتها المتعددة والاكثر اقترابا وحميمية للذات فيما هي، تعيد صياغة نفسها في الواقع المعاش اليومي.
- 3 -
فيما يخص المستوى الاول، لاتستعيد مفردة الصحيح حمولتها التعبيرية، من الفضاء الحركي لسياق النص التصوفي، ولا من الفضاء الجسدي لتجربة نفسها في سياقها الخارجي من تاريخيتها الماثلة في الزمان والمكان، وانما يتم ذلك ضمن التراسل بين مفردتين، العلاقة بينهما، لاتنهض على التفاعل المؤدي الى تخصيب الجملة الشعرية، وشحنها بالخيال الحلمي - حسب الفهوم الباشلاري للخيال - ولا تفضي الى توسيع الفضاء الميتانصي للتجربة وانما هناك ما يشبه عملية التعبئة والتفريغ، تحدث بين المفردتين وبشكل آلي بحيث يبدو وكأن النص الصوفي، يستعيد ذاتيته، وكينونته، عبر نص الصحيح، سواء كان على مستوى التركيب اللغوي او مستوى الصورة الشعرية او حتى مسألة الترميز دون ان يمنع ذلك من وجود ازاحات استثنائية بين حين واخر، ازاحات تجعل نص الصحيح في بعض الاحيان، ينأى بنفسه عن انجذابات النص/ الام، وان كان يدور في مداره بشكل ضمني وخفي ويبدو ان الثيمات الكبرى التي حكمت تجربة النص التصوفي هي ذاتها التي تمثلت في لغة الصحيح ، بمعنى ان الابتكار اللفظي في الصياغة والصورة داخل المجموعة لم يطال هذه الثيمات بل ظلت تنتج علاقاتها الدلالية ضمن الاطار العام التي تتسم به الثيمة ذاتها.
وطالما لم يكن هناك اختراق يهدف من ورائه ترحيل المفردة الصوفية بصياغاتها التراثية، ثم وضعها في سياق لغوي تصادمي مفارق، يتسم بالوعي الشعري الاكثر ارتباطا بلحظته الراهنة، فان ذلك يتبعه بالضرورة عدم اختراق لمنظومة القيم الصوفية، وعدم تفكيكها واعادة صياغتها، وفق قناعات اللحظة الشعرية الراهنة يضاف الى ذلك ان اللغة الترميزية داخل اللغة نفسها لم تخضع لتحولات الكائن الانطولوجي للكلمة بوصفه كائنا يقبع في العمق من حركة النص، بمعنى آخر : ان التوظيف/ الرمز لم يشهد انعتاقا - الا ما ندر وفي بعض النصوص - من تأثيرات الاسلوب البلاغي التراثي، ولم يشكل في مجملة، حركة تجادلية، تأخذ من معطيات الواقع، بقدر ما تأخذ من تدفقات الذاكرة التراث، فالحضور هو ذاته الغياب ، والاثر هو ذاته المؤثر، مما يدلل بصورة او بأخرى، على ان الاثر الجمالي للتوظيف الرمزي، حال تناميه ، وحال تدفقه الدلالي - الايحائي ، لا يستقطب في داخله تشكلات الانا الواعية بوصفها الانا التي تحفر عميقا في بنية النص، وفي بنية الذات الشاعرة معا، وإنما - بخلاف ذلك - يتم استحضار الانا العليا - او الانماط العريقة حسب يونغ، بوصفها الانا الحالمة التي تتبع من عمق اللاشعور الانساني المشترك وبوصفها السعادة/ الحرية التي تضفيه الكلمات والذات على العالم والوجود والاشياء، لذلك يفقد نص الصحيح، في بعده التوظيفي بعدا اخر، وهو الكشف عن رؤية للوجود والعالم والكائن ضمن شرطهم التاريخي والحياتي اليومي المعيشي ان لغة الصحيح، تتقدم خطوة من جانب، وتتأخر خطوة من جانب اخر، فهي قادرة على التوظيف والترميز، وفي ذات الوقت عاجزة على ان تقول نفسها، او تعبر عن كينونتها قبالة الوعي الحالي للوجود والعالم، فثمة اشبه ما يكون بالقطيعة بين لغة النص ولغة العالم، اذ ان ما يقوله النص لاينتمي الا الى نفسه، ونادرا ما يفتح كوة، يطل منها على لغة العالم وعلى دلالاته المختلفة ورغم ذلك ، فهناك حضور ترميزي مكثف، لشخصيات لها مكانتها وشهرتها (اي ما يسمى بقصيدة القناع) ليس في التاريخ الثقافي العربي فحسب وانما في تاريخ الثقافة العالمي ايضا مثل (ابن سيناء ، سقراط، عنترة، الهدهد سليمان، بلقيس، هابيل، يوسف، شعريا، ,, الخ) وهذا الحضور، يمتد على ساحات شاسعة من الديوان وربما كان هذا الحضور ، ينسحب عليه، ما قلناه سابقا عن التوظيف والترميز، غير ان التعالق، مع بعض هذه الرموز، سمح قليلا، ان يتسرب الى النص ، الوعي الشعري بالرؤية وبشحنها بالدلالات المكثفة وان كانت مملوءة، بعض الاحيان، بالدلالات السياسية والاجتماعية ، وبالصوت الجماعي ، مثل قصيدة (عنترة في الاسر) الا انه تطور نلحظه ، في قصيدة الصحيح في خطها المتنامي والمتصاعد.
وها تختبر اللغة قدرتها على صنع الوجود، واختراق الكائن - حسب دريدا - واذا كان جاسم، يستمد معطيات صورته الشعرية من مفردات التصوف ذاتها، فانه يزايد على ذلك بالفضاء السردي الذي يتوضع في بنية النصوص بوصفه فضاء يخلق جمالياته بالدرجة الاولى من عنصره الدرامي، ومن ميلودراسيته بالدرجة الثانية، لكنه فضاء لايخلو - في بعض الاحيان - من نثرية، تحكمها معيارية القافية والايقاع من جهة، ومن تباعيات لفظية، تعتمد اجترار المرجع النصي والانحباس في دائرته، ومعانيه من جهة اخرى، بينها ينبغي - كما يقول حاتم الصكر - (ان يقترح الشعر دائما كيفية اخرى متنوعة يصعب احيانا التعرف من خلالها على سلالة النص او جذوره النصية مرايا فرسيس ص 49).
وقد يتقافز الى سطح اللغة الشعرية، ما يصعب معه، التمييز بدقة ، بين ما هو خاص وما هو عام في مرجعيات جاسم اللغوية يصل الى حد التماهي والانحلال، اي ان مفهوم التعالق والاشتباك، يبدو وكأنه سمة حاضرة لاتغادر البناء التركيبي للغة وكأنه - ايضا - هاجس يلازم التجربة حيث يدخل كأحد العناصر الفاعلة في انتاج شعرية التجربة ذاتها، مما يشعرك وانت تصغي الى صوت التجربة، وكأن عدة اصوات حاضرة تتقاطع وبقوة، لتؤكد حضورها بشكل ضمني في معظم الاحيان.
للحديث بقية
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
ملحق رواد الاستثمـار
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved