تفاءل الاقتصاديون بمولد مجلس اقتصادي اعلى يكون مسئولا عن ادارة الشئون الاقتصادية وتنمية الدخل القومي وحسن توزيعه واستخدامه في اكمال مسيرة التنمية العامة، وبدأ بعضهم يتحدث عن آمالهم المعلقة على هذا الكيان الجديد الرفيع المستوى الذي سيقود السفينة الاقتصادية في المرحلة القادمة، وقد تجسدت تلك الآمال من خلال لقاءات صحفية او مقالات اقتصادية او عبر احاديث المجالس العامة التي يرتادها رجال الاقتصاد والتجارة في مدن المملكة.
ويخرج المتابع لما طرح من آراء وآمال بمحصلة مفيدة تشير الى رغبة رجال الاعمال في الحصول على مزيد من التسهيلات التجارية والادارية والفنية في مجالات أعمالهم، فهم يطالبون بتسهيلات في الموانىء والجمارك واستقدام العمالة والخبرات غير المتوفرة والتخفيف من بعض الاجراءات الادارية او الفنية المطلوبة عند قيام المشاريع الاستثمارية في مجال العقار او الزراعة او الصناعة او السياحة، او الحج والعمرة وخفض رسوم الطاقة المستخدمة في الصناعة، ولعل لدى بعضهم افكارا جاهزة يتحدث عنها بارتياح وثقة ويبدي استعداده لبلورتها في مشروع ورقة عمل لدراستها من قِبل الجهات المختصة، ان لم يكن قد قدمها من قبل مرة بل مرات ولايزال ينتظر نتائجها المرجوة.
ولاشك ان تفاعل رجال الاعمال مع هذه الخطوات الاقتصادية البناءة شيء حسن كما ان مطالباتهم بتوفير تسهيلات متنوعة لاعمالهم ومشاريعهم مطلب جيد ويحقق مصلحة عامة ومصلحة خاصة في آن واحد، وكلما عملت الدول في اتجاه تذليل العقبات امام الاستثمارات والاعمال التجارية كان ذلك مدعاة لقيام حركة اقتصادية نشطة ومجال ازدهار عام لتلك البلدان.
ولكن ما نود ان نذكّر به الاخوة رجال الاعمال هو ان لمجتمعهم عليهم حقاً لم يزالوا يترددون في الوفاء به على الرغم من الدعوات الشعبية والتشجيع الرسمي وواقع حال عشرات الآلاف من الشبان الباحثين عن العمل وهؤلاء الشباب هم ابناء هذا المجتمع الذي يعمل فيه رجال الاعمال ويقفون على ارضه ويستفيدون من خيراته وفرصه الاقتصادية في جو آمن ودون ضرائب عالية على الدخل باستثناء رسوم الخدمات المفروضة على الافراد والمؤسسات وهذه النعمة الكبرى التي ينعم بها القطاع الاقتصادي قد لا تتوفر في مجتمع آخر غير المجتمع الخليجي وبالاخص المجتمع الاقتصادي في بلادنا الكريمة بينما توجد دول في العالم الاول تفرض ما نسبته خمسون في المائة على الدخل او الارباح ولديها لجان تفتيش خاصة بالضرائب العامة وتعاقب من يقدم بيانات ارباح غير دقيقة او غير موثقة بعقوبات تصل الى السجن لمدد طويلة، لان تلك البلاد تعتبر ان التهرب من الضرائب جريمة كبرى لا يجوز التهاون معها، وكل هذه الاجراءات غير موجودة اصلا في بلادنا، بل انه حتى نسبة الزكاة المفروضة التي تستحصل عن طريق مصلحة الزكاة والدخل، لا يوجد ما يؤكد انها تستحصل بالنسبة المطلوبة وبدقة على رأس المال من عروض التجارة او غيرها من الاموال الواجبة الزكاة ولاسيما اذا اخذنا في الاعتبار المؤسسات المالية الكبرى التي يبلغ رأس مالها عشرات المليارات من الريالات.
لقد اعلن في الصحف مؤخرا ان الارباح (ربع السنوية) لعدد من المؤسسات المالية المحلية قد جاوزت ملياري ريال وهذا يعني ان ارباحها السنوية قد تصل الى عشرة مليارات ريال في العام الواحد وهذا الامر ليس فيه مبالغة، فقد سبق لي ان قرأت بيانا رسميا صادرا من مؤسسة مالية واحدة فكانت ارباحها لثلاثة شهور هي سبعمائة واربعة وعشرون مليون ريال اي ان ارباحها السنوية تصل إلى حوالي ثلاثة مليارات من الريالات كما ان احدى الشركات الاستثمارية اعلنت ان ارباحها السنوية تعادل اثني عشر في المائة من رأس المال.
وما اردنا الوصول اليه هو ان للمجتمع حقا في العتب على رجال الاعمال والاقتصاد فهو في الوقت الذي يدعم فيه تقديم كل التسهيلات لهم لمزيد من النجاح والتوسع في اعمالهم، لأن ذلك فيه مصلحة للوطن، فان هذا القطاع مطالب من المجتمع بالقيام بدوره نحو تدريب وتأهيل وتوظيف الشبان بجزء يسير من دخله وارباحه الفائضة والتجاوب الحريص مع الدعوة الرسمية (لتوطين الوظائف) وليس مقاومة تلك الدعوة على الرغم من انها تضمنت التدرج في الاحلال بنسبة سنوية لا تزيد عن خمسة في المائة حسب قرار مجلس الوزراء الصادر في هذا الشأن، حتى ان سمو وزير الداخلية رئيس مجلس القوى العاملة قد ابدى عدم رضاه في اكثر من مناسبة عن النسبة التي تحققت في مجال السعودة منذ صدور القرار وحتى الآن!
اننا نأمل ان يكون لوزارة العمل والعمال في هذه الفترة نشاط اكبر في مجال توطين الوظائف بالتنسيق التام مع مجلس القوى العاملة الذي يضم عددا من الوزراء برئاسة سمو وزير الداخلية ومع وزارة الخدمة المدنية لاستقبال الفائض من الخريجين وتأهيلهم لسوق العمل ونلفت انتباه مكاتب العمل إلى ان الواجب عليها عدم التركيز فقط على المؤسسات التجارية الصغيرة التي بها خمسة او عشرة عمال والتراخي مع المؤسسات الكبرى التي يعمل بها مئات بل آلاف العمال من كل جنس ولون، لأن مثل هذا التركيز المصحوب بالتراخي لن يحقق ما ترجوه الدولة السنية من خطوات جادة وواسعة نحو توطين الوظائف ونأمل الا نسمع بعض اصحاب المؤسسات التجارية الصغيرة وهم يرددون المثل الشعبي القائل (ما تطيح السقيفة الا على رأس الضعيفة!) فاذا كان هناك سقيفة ساقطة فالاولى ان تسقط على اكبر الرؤوس لأنها أقدر على التحمل، مع ان السعودة كلها خير للوطن وحتى لرجال الاعمال لو كانوا يعلمون، لأن من النظريات الاقتصادية العالمية التي نجحت في امريكا نظرية رجل الاقتصاد الشهير (روكفلر) الذي كان يملك ذات يوم اعظم مصانع السيارات في العالم، فقد فاجأ (روكفلر) مساعديه بقرار زيادة رواتب جميع العاملين في المصانع بنسبة كبيرة.
ولما راجعه من حوله متعجبين من إقدامه على هذه الزيادات التي لم يطلبها العمال وغيرهم، والتي رأوا انها ستكون على حساب ارباح المصانع طمأنهم ذلك الاقتصادي الكبير بأن الارباح ستزيد ولكن (صبر جميل) وحدث ما توقعه (روكفلر) فقد احدثت الزيادات نقلة في حياة العمال وبدأ كثير منهم يقتني سيارة من سيارات المصنع (بالكاش) او بالتقسيط ويشتري من قطع الغيار ويساهم في النشاط الاقتصادي للمصانع,, وهكذا عاد ما أُخذ منهم مع الارباح لصالح المصانع بعد ان انتقلوا من فئة العمال البائسين الذين يوفرون لقمة العيش (بالكاد) الى فئة المستهلكين من ذوي القوة الشرائية الفاعلة، وازداد نشاطهم وتطور انتاجهم بفعل الروح المعنوية التي صاحبت نقلتهم الاجتماعية فما اروع فكرة (روكفلر) وما ابعد نظره الى الحياة,, وهذه المدرسة يقابلها مدرسة (عجائز الرباط) وهي الدور التي يسكنها بعض العجزة والمقطوعين عن المجتمع، وكل عجوز تجمع صرّة من النقود وتضعها تحت (المخدّة) فلا يراها احد حتى تموت ثم يأتي عمال شئون خدمةالموتى فيجدون الصُّرر تحت المخدة وفيها نقود من جميع الفئات,, وآمل الا يكون بعض رجال اعمالنا في سلوكهم الاقتصادي مثل عجائز الرباط؟!.
ماذا ننتظر وإلى متى؟!
بعد ان كانت الصحافة المحلية بأقلام كتابها ومحرريها، تشكو قبل سنوات قليلة او تنقل شكوى خريجي الثانوية الحاصلين على معدلات اقل من سبعين في المائة مما ادى الى عدم قبولهم في الجامعات، فإن الامر تطور الآن بشكل درامي حاد وازداد سوءا حتى اصبح العديد من الطلاب والطالبات لا يضمنون القبول حتى بعد حصولهم على نسبة ثمانين في المائة وهو شرط الكليات النظرية او تسعين في المائة وهو شرط الكليات العلمية، ولكن الوضع وصل غايته من السوء عندما بدأ المجتمع يتحدث عبر الصحافة عن - تلاعب خطير في القبول- يجعل الحاصل على ست وتسعين في المائة غير مقبول والحاصل على ست وستين او سبعين مقبولا، وذلك على سبيل المثال، وكان آخر من كتب مندداً بهذا الوضع الدكتور الفوزان في جريدة الجزيرة والاستاذ الجارالله في جريدة الرياض.
اما عكاظ فقد نشرت عنواناً حاداً على صفحتها الاولى في اول يوم من العام الدراسي مستوحى من (إعلانات الصيف!) اين تذهب هذا المساء، فجاء عنوانها المعبرّ عن حسرة الذين لم يجدوا مقاعد دراسية في الجامعات جاء هكذا (أين تذهب هذا الصباح؟).
لقد بدأت هذه المشكلة قبل سنوات وطرحتها الصحف طرحا واضحا وقويا ومخلصا وحذرت من مغبة تضخمها ودعت الى وجوب فتح آفاق جديدة لتعليم وتدريب وتأهيل خريجي الثانوية للحياة العملية وانه ليس شرطا ان يتوجه الجميع للجامعات ولكن لا مجيب فالحالة كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي فلو ناراً نفخت بها اضاءت ولكن كنت تنفخ في رماد |
نعم,,ان الذي حصل حتى الآن على ارض الواقع هو ان الرماد قد دخل حلوق النافخين فيه ولم يروا جمرة الامل تتقد بعد، بل ان الوضع كما اسلفنا يزداد سوءاً، لان الجهات المعنية لم تقدم حتى الآن حلولا عملية تذكر حتى اصبح ثلثا الخريجين والخريجات تقريبا محرومين من فرص الدراسة في الجامعات، بل وفي اي مجال آخر من مجالات التدريب والتأهيل المدنية او العسكرية وأضحينا نرى تجمعات شبابية على الطرقات العامة حتى الفجر، لأنهم ينامون حتى الظهر او العصر وقد يوحي لهم الشباب والفراغ بأشياء أُخر!!
اما البنات فهن في البيوت ليلاً وفي الاسواق نهاراً وقد تكون الوسيلة المتاحة لقضاء الوقت الهاتف وما ادراك ما الهاتف؟ والصحون الفضائية وغيرها من الوسائل التي يُقضى بها الفراغ وقد يكون لها تأثير سلبي على السلوك والاخلاق.
وإن المرء ليعجب من هذا الصمت حيال مشكلة اجتماعية خطيرة لابد ان يكون لها ضحايا من الجنسين على الرغم من ان المشكلة تقض مضاجع الآباء والامهات والمجتمع وتصل الى الجهات المختصة آثارها ليل نهار، فماذا ننتظر حتى نتحرك ونعالج الوضع ومن هو المسئول عما جرى ويجري وسيجري؟!