دخلت الكاتبة التشيلية ايزابيل الليندي الحياة الثقافية العالمية بروايتها بيت الارواح عام 1982م بعد ان تجاوزت الاربعين من عمرها، وخلال فترة قصيرة اضحت واحدة من اشهر كتاب وكاتبات العالم لقد دخلت عالم الادب بصورة مفاجئة -تقول- في سن لا تطمح فيه نساء اخريات بأكثر من رفو جوارب احفادهن, لقد اقتحمت الادب اقتحاما وفوجئت بالصدى الذي اثارته كتبي، لاني لم اكن اتوقعه .
وخلال عشرين سنة تقريبا اصدرت ايزابيل الليندي عدداً من الروايات: الحب والظلال، ايفالونا، الخطة اللانهائية، وكتابها الذي حمل اسم ابنتها التي ماتت شابة: باولا، ومجموعة قصصية بعنوان حكايات ايفالونا كما اصدرت مؤخرا كتابا عن الطبخ.
في كتابها باولا الذي تسرد فيه سيرتها لابنتها القابعة في سرير الغيبوبة، تقول ايزابيل الليندي مستعيرة قول ايفالونا - بطلتها: عندما اكتب اروى عن الحياة مثلما احبها ان تكون,, مثل رواية , لكنها حين تتحدث عن كتابة القصص القصيرة بشكل خاص، وتجربتها مع مجموعتها القصصية الوحيدة التي نحن بصددها تقول: في القصة القصيرة كل شيء مرئي، واذا ما اجريت فيها تصحيحات كثيرة تفقد تلك النفحة من الهواء البارد التي يحتاجها القارىء ليحلق, ان كتابة القصة القصيرة مثل اطلاق سهم، حيث لابد من توفر غريزة وممارسة ودقة رامي القوس الجيد، والقوة اللازمة للاطلاق، والعين القادرة على قياس المسافة، والسرعة في الرمي، والحظ الطيب لاصابة الهدف, الرواية تصنع بالعمل، والقصة القصيرة بالالهام، انها بالنسبة الي جنس صعب مثل الشعر، ولست اظن انني سأعود الى محاولة كتابتها، اللهم الا اذا سقطت علي من السماء مثلما حدث في حكايات إيفالونا .
في مجموعتها القصصية هذه التي صدرت بالعربية في دمشق بترجمة لواحد من اهم المترجمين العرب خلال العشرين سنة الماضية صالح علماني ، تفاجئنا الكاتبة بخمس عشرة قصة قصيرة تقلب الكثير من المفاهيم حول طبيعة القصة القصيرة المتعارف عليها، لغة واحداثاً، وسرداً، فتذهب بحرية بالغة لا حدود لها لكي تتجول في ازمنة متباعدة وفي اماكن يفصل بعضها عن بعضها الآخر بلاد ومحيطات، في قصص لا يتجاوز طول الواحدة منها في الغالب عشر صفحات.
واذا كانت صفة رواية الاجيال ظلت حبيسة الفن الروائي وسمة من سمات بعض اشكاله، الا ان ايزابيل الليندي تأتي لتكسر هذا الامر بجرأة فتقدم قصة الاجيال ، حيث يولد جيل ويموت جيل، ويولد جيل آخر بتلقائية مدهشة وغنية، لا فراغات فيها، ولا اختصارات تربك الكتابة او القارىء، تأتي لتكتب قصصاً روائية ، او روايات قصيرة ، ولذا من الطبيعي، وغالبا ما ترد في قصصها بعض الجمل مثل: حين ولج سوء الطالع بيت آل اوريانو ليزرع فيه كوارث متعددة تطلّب جني حصادها انقضاء ثلاثين سنة .
ان القصة الممتدة، هي التي تشكل عماد هذه المجموعة، باستثناء عدد قليل من القصص مثل قصتها الاخيرة في المجموعة من طين خلقنا التي كانت فيها امينة لبناء القصة القصيرة في بعدها الزماني المحصور بحدث حار وفترة لا تتجاوز الايام الثلاثة، لكنها لا تكتب ايضا قصة بمعايير تقليدية، بل ان اهميتها تأتي من كونها مرتبطة بالمقدمة القصيرة للمجموعة، كأنها والمقدمة هما الاطار العام الذي يوحد القصص، ويخرج بها من تنوعها واختلاف اشخاصها، لكي تكون المجموعة بحد ذاتها روائية .
يقول رولف كارييه للمرأة التي يحب، وهي هنا المؤلفة:
- احك لي حكاية
كيف تريدها؟
- احك لي حكاية لم تحكها لاحد من قبل.
واذا كانت القصة الاخيرة هي آخر ما في المجموعة من قصص، فانها في الحقيقة تبدو مناسبة الكتابة التي تسبق حتى المقدمة.
تستعير ازابيل من الف ليلة وليلة حكاية شهرزاد، وتقوم ايزابيل بدورها في زمن مختلف، ومع مستمع مغاير للمستمع الاول، واذا كانت في قصتها الاخيرة تسرد احساسها برالف المذيع التلفزيوني الذي يغطي اخبار كارثة بيئية حقيقية، احدى ضحاياها طفلة في الثالثة عشرة عالقة في الطين لا يظهر منها سوى رأسها، كما تعترف بذلك المؤلفة في مذكراتها: عندما احدث انفجار بركان نيفادو دل رويث المفاجئ انهيارا جليديا انزلق الجبل وغطى قرية بكاملها، آلاف الناس لقوا حتفهم في ذلك اليوم، ولكن العالم يتذكر الكارثة من خلال اومايرا سانتشيث، الطفلة، لقد احتضرت لمدة ثلاثة ايام ببطء مرعب امام المصورين، لقد تألمت منذ ذلك الحين الذي رأيت فيه عينيها على شاشة التلفزيون، ومازلت اضع صورتها على مكتبي، لقد تأملتها مطولاً مرة بعد اخرى في محاولة لفهم معنى عذابها, بعد ثلاث سنوات من ذلك حاولت ان ازيح عني ذلك الكابوس برواية قصتها، اردت ان اصف عذابها، ولكنني كلما تقدمت في الكتابة كنت انتبه الى ان ما اكتبه ليس جوهر القصة, قلبت الموضوع لأرى ان كان بامكاني رواية الوقائع من خلال مشاعر الرجل الذي رافق الطفلة خلال تلك الايام الثلاث، ولكنني عندما انتهيت من روايتها بهذه الطريقة ادركت انني لم اصل الى ما اريده, القصة الحقيقية هي قصة امرأة وهذه المرأة هي انا تراقب على شاشة التلفزيون الرجل الذي يساند الطفلة، ان القصة عن مشاعري وعن التبدلات الحتمية التي عانيتها وانا اشهد احتضارها.
تخرج القصص بعد ذلك من اسر المقدمة ومن اسر الخاتمة ايضا، وتذهب الى ذلك الواقع الشرس لحياة البشر في عزلتهم, ولعل فكرة العزلة واحدة من سمات وفضاءات الادب في امريكا اللاتينية بشكل عام، اذ ان هذا الادب وهو يتخذ العزلة مرجعا نفسياً وجغرافياً له، يستطيع بذلك ان يظفر بأدق احاسيس البشر واعمق هواجسهم، وعلى الرغم من ان كثيرا من شخوص الاعمال يذهبون بعيداً ويعودون، الا ان ذهابهم وعودتهم ما هما سوى تعميق لفكرة العزلة دائما لدى من يعيشها، وزيادة في شراسة طوقها المفروض بقوة الفقر والتخلف والتسلط دائماً.
|