كنا قد اختتمنا المقال السابق بالتساؤل حول دور الامم المتحدة في ظل الظروف الدولية الجديدة من وجهة نظر مؤلف كتاب حتمية القيادة جوزف ناي الابن, وكان ناي من اوائل من نبهوا الى ظهور مشاكل دولية جديدة تتعلق بالتوسع الهائل في التجارة العالمية وظهور مشاكل البيئة والارهاب والايدز وغيرها، ولذا اكد ناي على ضرورة ظهور منظمات دولية جديدة للتعامل مع هذه المشاكل, ولايؤيد ناي التصرف الفردي من الولايات المتحدة،وانما يحبذ ان تتم وتنفذ السياسة الامريكية بالتعاون مع الحلفاء والاصدقاء, ويحث على انشاء مزيد من المؤسسات الدولية الجديدة للتعامل مع المشاكل الجديدة، ذلك ان العمل ضمن اطار دولي يساعد الولايات المتحدة في اربعة اوجه اولاً انها تسهل اقتسام العبء بين عدد من الدول يجمعها هذا التنظيم القائم على عدد من القواعد الثابته، بحيث تجد الدول انه من الصعب عليها التهرب من واجباتها خصوصاً عندما تقف دوله كبرى وتشير الى قواعد واجراءات واضحة ثانياً توفر المؤسسات الدولية التي تقدم المعلومات للحكومات خصوصاً المعلومات المتعلقة بمشاكل عبر الحدود وتتطلب تساعد وتعاون السلطات المحلية في دول اخرى مثل مشاكل الامراض المعدية وتخصيص التردادات الخاصة بالاتصالات والحد من التلوث من الجو والمحيطات، خصوصاً عندما تكشف المعلومات عن مصالح مشتركة جوهرية, ثالثاً انها تسهل العمل من خلال مساعدة القوى الكبرى على منع مصالحها المتعارضة من الوقوف في طريق بعضها البعض, ثم رابعاً ان المؤسسات الدولية تدخل قدراً اكبر من الانضباطية الى السياسة الخارجية الامريكية, فالقواعد الدولية تساعد في تقوية الاستمرارية والنظر على المدى البعيد بخلاف مايحدث عادة في الانظمة السياسية الديمقراطية التي تضع حدوداً وخصوصاً من الناخبين على صانع القرار, ويخلص ناي الى القول ان الانظمة الدولية ستكون جزءاً حاسماً من الرؤيا الاستراتيجية الامريكية في عصر الاعتماد المتبادل.
لكن ليست كل القواعد والمؤسسات الدولية في مصلحة امريكا وليست كل المؤسسات الدولية ستساهم مساهمة فعالة في ادارة المشاكل الجماعية, فبعض القواعد الدولية تتمتع بتأييد اقل من قواعد اخرى، وبعض المنظمات غير فعالة, كما تعاني منظمات دولية معينة من تحولها الى مسارح غير مثمرة لتكتلات تصويتية غير مسئولة, وهنا ينصح ناي الولايات المتحدة بالعمل على اصلاح المنظمات الدولية اما اذا كان ذلك صعباً او مستحيلاً فربما يوجد طرق للالتفاف من وراء المؤسسات المتحجرة كما اسماها ناي, ويطالب ناي بدراسات معمقة لفرز مصالح الولايات المتحدة وفقاً لعلاقاتها مع كل منظمة دولية وربما تريد اميركا اقامة مجموعات اصغر ذات معايير اعلى في العمل الدولي.
ولايمانع ناي ان تقوم الولايات المتحدة بعمل منفرد في بعض الاحيان او بمساندة حليف او صديق واحد لان ممارسة القيادة غالباً ما تستدعي ان يبادر احد ما الى التصرف اولاً, ومع ذلك ينبه ناي فان مثل هذا العمل من جانب واحد يجب ان يبنى ويُنظم على نحو لايمنع الآخرين من الانضمام اليه وان يكون متسعاً مع الاهداف بعيدة المدى التي تريدها الولايات المتحدة للمنظمات الدولية.
ويسترسل ناي في هذه النقطة موضحاً انه يجب على الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية من جانب واحد في بعض الاحيان, ويعتقد ان استخدام الولايات المتحدة للقوة اذا تمت بحكمة فهي قادرة على لعب دور حاسم في الحفاظ على النظام الدولي.
اما استخدام القوة بطريقة عشوائية فقد يصبح عملا باهظ الثمن فيما يتصل بالمصالح التي تسعى امريكا لتحقيقها وحمايتها, ويضرب مثالاً علىذلك بأن محاولات الاستيلاء على آبار النفظ نتيجة لازمة نفطية قد يتسبب بمشاكل سياسية وعسكرية اعمق لكن حضور القوة الامريكية في الخليج كان موضع ترحيب بوصفه عامل استقرار عندما هددت الحرب العراقية الايرانية او عند غزو صدام للكويت بالامتداد الى المناطق المجاورة, ثم ينبه ان اللجوء الى القوة لحسم مشاكل مثل البيئة والقضايا النقدية هو عمل غير معقول كما ان التلميحات باستخدام القوة في مثل هذه القضايا ربما تولد اشياء يتعارض مع اهداف السياسة الامريكية, وهنا يبدو ناي معقولاً نوعاً ما لكنه يعود فيوصي باستخدام القوة في الحالات المتصلة بالارهاب والمخدرات وانتشار الاسلحة واعتقد انه حتى في مثل هذه الحالات لابد ان يكون استخدام القوة بالطرق الشرعية ومن خلال المنظمات الدولية وان تكون موجهة لاشخاص ومنظمات ثبتت ادانتهم بشكل واضح في هذه القضايا.
اما فيما يتعلق بدور الامم المتحدة فلم يتحدث جوزف ناي بشكل مباشر ولكن يفهم من انتقاده لبعض المنظمات الدولية، ان هذا النقد موجه بصفه اساسية الى الامم المتحدة, في حين امتدح ناي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير وكذلك معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية الدولية والتي ساهمت في الحد من انتشار الاسلحة النووية وكذلك وكالة الطاقة الدولية وعدد من المنظمات الدولية الاخرى الا انه ألمح الى ضرورة اصلاح الامم المتحدة اما اذا كان هذا الاصلاح صعباً او مستحيلاً فيجب على الولايات المتحدة التصرف من خلال منظمات دولية اخرى مثل حلف الناتو فيما يتعلق بالقضايا العسكرية او منظمة التجارة العالمية او صندوق النقد او البنك الدولي, ان الكونغرس الامريكي لايزال يرفض سداد حصة الولايات المتحدة المتراكمة والتي تعدت الآن 1,2مليار دولار لحل مشكلة العجز التي تواجهها الامم المتحدة الى ان تقوم هذه المنظمة الدولية بعمل الاصلاحات التي تجعلها فعالة من وجهة النظر الامريكية ويبدو ان الولايات المتحدة تريد تقليص دور الامم المتحدة لكن هل ستنجح في ذلك ام ستثبت الاحداث اهمية هذه المنظمة وقدرتها على الصمود والتوسع.
|