يتقدم فاروق وادي في منازل القلب وشوارعها خطوة خطوة، وهو معني بأدق التفاصيل: ما كان وكيف اصبح، دون ان يكون هذه المرة اي مكان لما يمكن ان يكون, واذا ما تأملنا المساحة التي يتحرك فيها العائد فانها محصورة محاصرة، حيث تتحول رام الله- والبيرة الملتصقتان حد الذوبان الى ما يشبه الحارة الصغيرة التي اطلق عليها في رائحة الصيف اسم حارة الفردوس ولم يكن اسمها في الواقع سوى رأس الطاحونة !!
ان تأمل المسافة بين الاسمين، قد فتح الباب لحل لغز تلك الظاهرة التي تكاد تجتاح السيرة بمجملها لتكون السمة الابرز للاحساس العميق بما يدور في داخل الراوي وهو يستعيد حكايته، ويتتبع تاريخ المكان وزواياه وتاريخ البشر وما آلوا اليه، ونعني بها ظاهرة الحديث عن ضيق المكان او اضمحلاله او تلاشي قامته وامتداده.
عند التحدث عن هذا الجانب كظاهرة، فان ذلك يعني انها واضحة الى درجة لا يستطيع معها - حتى امثالنا- من غير النقاد والدارسين المرور عنها كما لوانها ليست موجودة، لانها تتكرر كلازمة من اول الكتاب الى آخره.
* الان تبدو لك الشرفة نفسها اقل ضآلة مما كانت، واقل ارتفاعا,.
* غير ان الشجر يبدو اقل خضرة واضأل حجما مما كان,.
* بدا لك المكان اكثر ضيقاً,, جدران غرفه تتقارب اكثر، وممره الداخلي الذي كان يتسع للعب كرة القدم، لم يعد يتسع لقدمين تورمتا في طرقات المنافي,.
* تمر من قرب شجرات الكينا التي رحلت في النص من مكانها ذات ليلة حلمية مجنونة، فتجد ان عددها قد تضاءل في الواقع واقتصر على واحدة، تعجز عن العثور على سيقان غليظة مقطوعة، هل سئمت فرحلت الى الابد عن مكانها، ام ان النص هو الذي ضاعف عددها، مثلما بالغ في تطاول اغصانها والوارف من اوراقها.
* تقف امام الدرجات مندهشاً من نص صاغها في المنفى درجات طويلة طويلة وعريضة عريضة تقيسها طولا وعرضا، تعدها درجة درجة، فتجدها اكثر ضآلة,, فلا هي بهذا الحجم ولا هي اعرض.
* تقف مذهولا امام تضاؤل المساحة التي كان يحتلها على اطراف الساحة فرن صغير,.
* عين الماء، تتطلع الى ما تحت قدميك لتتأمل خيط مائها الفقير، المتبقي من ذكرى ايامها,.
* تدخل قاعة مسرح خليل طوطح ,, فيبدو لك اقل رحابة مما كان في تلك الذاكرة,.
ويمكننا هنا ان نورد مقاطع اخرى حول هذه الظاهرة، التي تشير فيما تشير الى ان المكان كالبشر لا يمكن ان يكون سامقاً ورحباً الى بشرط الحرية، بعيدا عن شروط الدخول او العودة اليه .
ولعل هذه النقطة بالذات بحاجة الى مزيد من التأمل.
لكن الملاحظة الاخرى التي تطل علينا من منازل القلب تتمثل في ذلك الرحيل الى زمن يسبق الازمنة الراهنة ويتجاوز شروطها، اذ ما يلبث صاحب السيرة وهو يرى الى ذلك الضيق، ان يرحل نحو ازمنة لم يعشها، كما لو انه يفر من قسوة الواقع التي جعلت الاماكن ضيقة وضئيلة الى هذا الحد.
فاذا كان فاروق وادي قد استحضر الطفولة المفقودة في النص- رائحة الصيف كمحاولة للتخلص من وطأة ثقل المنفى على الروح، فانه في منازل القلب يستحضر ماضي الوطن وتاريخه للتخلص من وطأة الصورة الراهنة للوطن.
ان مفارقة كهذه، بما تحمله من معان، تشير الى ما ذهبنا اليه، من ان هذه السيرة المكثفة، تأبى الا ان تخرج على شروط كتابة السيرة الى فضاء الكتابة الروائية، رغم كل احساسها الطاغي بهذا الضيق.
يستعيد فاروق وادي خطوات المسيح الطفل الذي ضل الطريق عامداً وغافلاً امه ليلعب مع اطفال بيئروت القديمة- البيرة ، ويستعيد مرور عمر بن الخطاب في المكان خلال رحلته للقدس، ومرور صلاح الدين ايضا، يستعيد حكاية الرحيل الى المدينة رام الله - الحكاية الجميلة الاسطورية- من شرقي نهر الاردن، ويستعيد المعارك مع الاتراك والانجليز، يستعيد حكاية منارة رام الله الساحرة ومفارقاتها اذ تواضعت المدن على ان تقام المنارات حيث اقيمت الموانىء المطلة على البحر، وحيث السفن القادمة من عتماته تبحث عن حزمة من ضوء ترشدها الى الامان، وعن هاد ودليل، لكن احداً لم يعرف لماذا تقام منارة في مدينة جبلية !!، يستعيد عهود البراءة الاولى والتفتح الاول على الدنيا كطفل، ويستعيد المكان الحاضر الغائب، وازمنة النضال في ذلك الزمان، حيث لم تكن مكبرات الصوت قد وصلت الى قادة الحركة الوطنية، غير ان اصواتهم كانت قوية، جميلة، وشديدة الوضوح !!, يستعيد الشارع والساحة والمدرسة واللوحة الاولى التي رسمها والقصة الاولى التي كتبها، والمجلة المتواضعة التي اصدرها مع زملائه، فصودرت، يستعيد صورة المعلم الاول في ازمنة لم تكن بداياتها تشير الى مثل هذه النهايات بوضوح كان يمكن ان يرى القلب من خلاله مصائر منازله!!!
ولا يراوغ الكاتب وهو يمضي نحو اعترافاته الصريحة، تلك التي خبأها في النص بكذباته البيضاء، فكأن الواقع الذي يقف معه اخيراً وجها لوجه لا يحتمل براءة وطيبة اي كذبة بيضاء نقولها لننجو قليلا من منافينا، بعد ان وقعنا بهذه الطريقة في مآسي اوطاننا.
يتقاطع في هذه السيرة مكان غائب بحضوره، ونص حلمه ووصفه عن بعد، وحاضر لا يرحم وهو يعيد الحلم الى واقعه، بحيث يغدو الامر برمته بحثا عن زمن ضائع لا يستعاد الا ليرثى.
لكن ما يسجل لفاروق وادي انه وعبر هذا التدفق الهائل من العذابات، ينجح في ان يجعلنا جزءا من المكان، نسير فيه ونتتبع خطوات طفولة هذا المكان وسير ساكنيه، نعرفهم ونعرفه، ونهتدي اليه رغم كل ما مر به وعليه من حكايات، وما تركته آثار اقدام الغزاة من آثار فوق ارضه.
كما يسجل له انه استطاع كتابة سيرة تمحو الذات، حتى وهي تستحضرها، وتسخر منها، وتتجول بتواضع في الماضي والحاضر، بعيدا عن ذلك النوع من السير الذاتية التي تستحضر انتصارات صاحبها، كما لو انه -لفرط كرمه- يريد ان يعوضنا عن هزائمنا التي لم يستطع او نستطع تحقيقها.
اما الكلمة الاخيرة التي يمكن ان تقال هنا، فتتعلق بتلك الفكرة التي تبنتها مجلة الكرمل حين خصصت بابا جديدا، بتكليفها لعدد من الكتاب الفلسطينيين بكتابة حكايتهم مع المكان- مكانهم الاول، وقد كانت هذه الفكرة على درجة كبيرة من الاهمية، بحيث اعطتنا بصورة مباشرة او غير مباشرة في النهاية، كتابات موسعة، تجاوزت حدود المقال فأضحت كتباً، كان من بينها هذا الكتاب، وكتاب الشاعر مريد البرغوثي رأيت رام الله وكتاب القاص محمود شقير الذي صدر مؤخرا ظل المدينة ، وغيرها لاشك قادم.
|