* في الطائرة:
هطل التاريخ بالوجد، وسالت شعاب المسرات الداخلية، جاءت الافاق البعيدة,, من عمق الماضي,, الماضي البكر:
نحن فوق,, في السماء,, على سنام حديدي طائر,, كان بعيرنا يئز، واعلن حاديه اننا على الميقات,, تمنى امنياته الطيبة,, ياله من رجل كريم: انه يسوق امانيه للكل,, حتى لاولئك الذين لن يعتمروا,, حتى ل طوني الناعم,, حليق الوجه الذي كان يرتب كرت التعارف في مظروف ورقي انيق، ومعطر، ويمده -بهدوء المحترف- الى الفتاتين القابعتين خلفه بجانب النافذة,, اللتين كانتا تطالعان رقص البحر الاحمر، حيث تمتد جدة تحضن بحرها، او هوالحاضن,, ربما تنظر الفتاتان الى احلامهما على وجه الماء في هذا المدى الكبير، والواسع، قبل ان تضمهما مساحات الغرف مع احلامهما.
طوني يبتسم- بعد ذلك- في وجهي مباشرة، ويداري نظراتي، قائلا:
* الحمد لله على السلامة!
اتمتم له برد مقتضب، واخذ بطاقة اسمه دون ظرف انيق، فهو يبحث هذه المرة عن اية صفقة تجارية ابتسم له، قائلا في خاطري: الم تجد يا طوني غير من يكتب كلمات مثل هذه لتعطيه بطاقتك,, على كل انه قانص فرص من اي نوع، ولم يجد مني غير وجه جهم دار على كل صحف الطائرة,.
في مقاعد اخرى كان صديق يداري هدوءه.
* المسجد الحرام:
من جدة الى مكة المكرمة حيث، اخذتنا مهابة الحرم، عن حجم الغرف الصغير في الفندق الذي قيل لنا اسكنوا فيه,.
يالها من جلسة رحبة، وواسعة تلك التي جلسناها في صحن الحرم المكي الشريف,, قبيل المغرب,, كانت سكينتها تأخذنا في يقظة خاشعة,, وصحو حالم، نوشك ان نعتقد انه موصول الى مالانهاية و كنا نود ان يكون كذلك، لكننا كنا نراه كحلم، كان العالم، والمشاغل والهموم,, والدنيا,, الدنيا، قد ابتعدت، وحلق مكانها حمام هادىء، طوف فينا بآفاق فضاء ممتد حتى السماء,, لم يوقظنا من سبات تسابيحنا غير أذان المغرب!
خارج الحرم المكي الشريف، لا ترى غير رقع صغيرة من زرقة السماء او بياضه,, انها البنايات الطويلة التي طردت الهواء من كل هذا المدى,, لم نعلق على مرافقنا الذي قال انتم تمشون الان في اغلى متر في العالم، قلت في خاطري مرة اخرى: لماذا يقول لنا مثل ذلك ونحن غير عقاريين!!
* محمد الثبيتي:
في اقصى مكة، في حارة ضيقة تشبه حارات الدمام القديمة القزاز- الكهرباء- الدواسر- ونوعا ما العدامة, كنا ندلف الى بيت رجل عملاق، غطى مساحة الوطن بشعره، وملأ الساحة العربية بلمعان ديوانه التضاريس الان وقد عرف، فقد انطلق صوته قائلاً:
(انت والنخل فرعان
انت افترعت بنات النوى
ورفعت النواقيس هن اعترفن بسر النوى
وعرفن النواميس
فاكهة الفقراء
وفاكهة الشعراء,,)
كنت وصديقي الشاعر المختبىء بالصمت علي الخزمري ، نهز رؤوسنا طربا على عادة العرب,, وكان الثبيتي يمتح من صفاء لغته الغنائية الجميلة، منشدا بصوت كأنه قادم من عل:
انت والنخل طفلان
واحد يتردد بين الفصول
وثان يردد بين الفصول:
اصادق الشوارع
والرمل والمزارع
اصادق النخيل
***
اصادق المدينة
والبحر والسفينة
والشاطىء الجميل
تسري الدماء من العذوق
الى العروق
وتنتشي لغة البروق:
اي بحر تجيد؟
اي حبر تريد؟
سيدي لم يعد سيدي
ويدي لم تعد بيدي
قال:
انت بعيد كماء السماء
قلت:
اني قريب كقطر الندى
المدى والمدائن قفر وفقر
والجنى و الجنائن
صبر وصبر
وعروس السفائن
ليل وبحر
ومداد الخزائن شطر وسطر
قال:
ايها النخل
يغتابك الشجر الهزيل
ويذمك الوتد الذليل
كانت اناشيده تتواصل، وكان هذا هو الشعر فأكثر منه يا محمد، وزدنا,, زدنا,.
كنا نتحاور انا وصديقي ونحن نسير في حارة الشاعر، وكأننا نبحث عن الشجر الهزيل، او الوتد الذليل
* كاره الأوامر:
وصلنا الى الشوارع الواسعة المضاءة، والسيارات المسرعة، حاملين نقاوة الشعر من منبعه توقف امامنا رجل طاعن يركب سيارة اجرة طاعنة، وقال:
اركبوا!
هل ستأخذنا الى فندق؟!
الى حيث تريدون!
فندقنا في اطراف مكة، وعمر سيارته يقول إنها لن تتعدى نهاية الشارع، لكننا لم نستطع ان نفر من لمعان عينيه الصغيرتين البريئتين، ولغته الخالية الا من الصدق، ركبنا، وبدأ مشوار حديثه الشيق حتى الوجع، قال فيه:
انه يكره الاوامر، ولذلك فقد فصل نفسه من الحرس,, وحكى لنا المحاورة الطويلة التي دارت بينه وبين الضابط عندما، قال: كنت ارتجف عندما أراه قادما خوفا من ان يصدر لي امرا، فأعصيه,, لم اطلع احدا في حياتي غير ربي، وابي,, وضعت البدلة ، والحزام، و البسطار في كيس، وسلمتها الى زميلي وخرجت، ولم اعد حتى اليوم!
كم كان عمرك وقتها؟ حوالي العشرين!
هل لديك اولاد الان؟
الحمد لله: اربع بنات، وولد لا يحب المدرسة!
لماذا يا عم؟
باله في غيرها!!
ولم يذكر لنا ماهو هذا الغير؟!، سألته:
والبنات؟؟
لا ينمن حتى اعود انا وسيارتي آخر الليل!!
وهل يدرسن؟
نعم,, كلهن,, لكنني افرح اذا غابت احداهن عن الدراسة في اي يوم!! لماذا يا عم؟
اسلم من مصروفها في ذلك اليوم!!
خيمت غيمة سوداء على الطريق حتى نهايته,, وصمتنا ثلاثتنا حتى وصولنا، كنت في خاطري اقول ربما كان يجهز عذرا الان ونحن في آخر الليل لاحدى بناته ربما وعدها ان يحضر لها شيئاً لا يستطيع ان يوفره بحصيلة اليوم,, ربما,, ربما,.
* في جدة:
اهدى الصديق عبدالعزيز مشري صديقي ثلاثة من كتبه، كتب عليها شيئا ما، ثم سلمها اياه بناء على طلبه، شربنا شايه، واخباره، وحديثه، ثم توجهنا الى حيث يبرك الجمل الحديدي الطائر، امتطيناه، وسرنا مع الركبان ننشد آخر ما قاله الثبيتي:
يا طاعنا في الناي
اسلم، اذا عثرت خطاك، واسلم اذا عثرت عيون الكاتبين على خطاك وما خطاك؟!,,
* مابين الاقواس مقاطع من قصيدة محمد الثبيتي مواقف الرمال وموقف الجناس الفيصل العدد 296
|