في الثاني عشر من اغسطس الحالي احيا العالم ممثلا في الأمم المتحدة ذكرى مرور خمسين عاما على ميلاد اتفاقات جنيف المتعلقة بحماية ضحايا الحرب، وهي الاتفاقات التي تبنتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وأقرت في مؤتمر عقد بمدينة جنيف في الفترة بين 21 ابريل و12 اغسطس من العام 1949, الاتفاقية الأولى من تلك الاتفاقات عنيت بتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة بالميدان, والاتفاقية الثانية مخصصة لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار, والاتفاقية الثالثة تتعلق بمعاملة أسرى الحرب، اما الاتفاقية الرابعة فتتمحور أحكامها حول حماية الأشخاص المدنيين في أوقات الحروب.
وقد ألحق بتلك الاتفاقات فيما بعد بروتوكولان اضافيان لحماية الأشخاص المدنيين ضحايا الحروب في النزاعات المسلحة، الدولية منها والداخلية, تتضمن تلك الاتفاقات مبادىء إنسانية غاية في النبل والسمو، فهي توجب احترام وحماية الجرحى من ضحايا الحروب في البر والبحر، وتحظر الاعتداء على حياتهم وتعذيبهم وتركهم عمدا دون رعاية كما تفرض ضمان حق جمعيات الغوث والمساعدة وكذلك الأهالي في مساعدتهم, كما انها تحدد لأسرى الحروب مركزا قانونيا مميزا يقتضي تحسين ظروف حياة الأسير سواء في معسكر الأسر أو بمكان الاعتقال - وذلك من حيث المأوى والغذاء والملبس والظروف الصحية وعدم التعامل معه كمجرم، بل كإنسان قادته الظروف الى هذا المصير,, اضافة لذلك تهتم اتفاقات جنيف كثيرا بحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب فهي تحظر الاعتداء على حياتهم وسلامتهم البدنية ولاسيما التعذيب والتشويه كما تحرم أخذهم كرهائن، او نفيهم او تجويعهم أو ترحيلهم قسرا، او الاعتداء على كرامتهم الشخصية والتعامل معهم على أساس تمييزي، وكذلك إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات ضدهم دون حكم تصدره محكمة مختصة, وتحظر الاتفاقات والبروتوكولان الاضافيان ايضا القيام بأية أعمال عدوانية ضد أماكن العبادة او الآثار التاريخية او الأعمال الفنية، كما تتضمن تدابير خاصة لحماية الأطفال والنساء.
المؤكد ان اتفاقات جنيف بما تضمنته من أدبيات ومبادىء إنسانية تمثل إطارا قانونيا مثاليا لجهة صيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وعدم الحط من قدره, لكن الملاحظ، ومن خلال استعراض سريع لصفحات تاريخ النزاعات المسلحة في الخمسين سنة الماضية، ان ثمة هوة عميقة بين ما هو واقع من ناحية، وما تنشده الاتفاقات من ناحية أخرى، لدرجة تجعل كثيرين يصدرون دون تردد حكما مؤداه ان هذه الاتفاقات ليست اكثر من مجرد إطار قانوني هو أقرب الى الصفة النظرية منه الى ان يكون برنامجا عمليا يراد له التطبيق على أرض الواقع (!!).
الواقع أن وجهة النظر هذه لا تخلو من الحقيقة إن لم تكن هي الحقيقة ذاتها, فذاكرة التاريخ لا يمكن ان تنسى الفظائع والأعمال الوحشية التي كان الإنسان البريء هدفها وضحيتها الأولى.
فها هي إسرائيل الكيان المغتصب المحتل لفلسطين تثبت كل يوم والآخر انها وصلت الى درجة عالية من المهنية والاحتراف لا يضاهيها فيها أحد من حيث انتهاكها وخرقها لأحكام ومبادىء جنيف، وذلك من خلال سلوكها وتعاملها اليومي مع الإنسان الفلسطيني على الأرض الفلسطينية وخارجها فتهجير الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين ونفيهم وتدمير منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم وتقتيلهم فرادى وجماعات، وتعذيب الأسرى والتنكيل بهم وممارسة الاشغال الشاقة ضدهم، وإنكار حق العودة لنحو خمسة ملايين لاجىء فلسطيني, كل هذا أضحى سياسة ثابتة لكل حكومة إسرائيلية، لا فرق في ذلك بين الليكود والعمل, الممارسات الإسرائيلية لا تقف عند حد هدر حقوق الإنسان الفلسطيني ومصادرة أرضه فتدمير دور العبادة وانتهاك قدسيتها أضحى هو الآخر هدفا مبرمجا للسياسة الصهيونية ولا يغيب عن الذهن في هذا السياق المحاولات العديدة لمجموعات يهودية متطرفة لدخول الأقصى الشريف بهدف تدنيسه وبث الرعب بين المصلين فيه، بما في ذلك إطلاق الرصاص، والتي بلغت ذروتها من حيث الهمجية والعبث بمحاولة حرقه قبل ثلاثين عاما (21 اغسطس 1969) من قبل مجموعة من العصابات الصهيونية وبتواطؤ واضح من الحكومة الإسرائيلية.
نموذج آخر على عدم المبالاة بمبادىء شرعة جنيف، ذلك ما أقدم عليه إرهابيو صربيا بقيادة المجرم الأكبر سلوبودان ميلوسوفيتش في حروبهم الظالمة ضد مسلمي البلقان, مع اندلاع حرب البوسنة، لجأ مجرمو صربيا الى استعمال كل وسائل البطش والعدوان ضد المدنيين العزل البوشناق وكان الهدف منذ البداية تفريغ الجمهورية من سكانها المسلمين ان تقتيلا وإن طردا وتهجيرا, هكذا وخلال سنوات الحرب الثلاث، بلغ عدد القتلى ممن لا ناقة لهم ولا جمل، أكثر من ربع مليون، بينما تجاوز عدد اللاجئين المليون لاجىء، ناهيك عن تنفيذ سياسة الأرض المحروقة التي أفضت الى تدمير آلاف المنازل والمساجد والكثير من الأعمال الفنية والمراكز التاريخية, هذه السياسة تكرست أيضا في مواجهة البان اقليم كوسوفا وقد بلغت الأعمال العدائية ضد سكان الاقليم ذروتها اوائل العام الحالي، وأدت الى مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء على أيدي القوات الصربية، ولجوء أكثر من مليون شخص الى الدول المجاورة ولم تتفاعل القوى الكبرى مع هول الكارثة الإنسانية إلا أخيرا ليتم إيقافها بتدخل حلف شمال الأطلسي,مثال آخر على تجاهل مبادىء جنيف والضرب المتعمد بها عرض الحائط، ذلك ما حدث مطلع عام 1994 باندلاع الحرب التي دارت رحاها في رواندا بين قبيلتي الهوتو والتوتسي وامتدت نيرانها الى بوروندي المجاورة، ومن ثم الى زائير (الكونغو الديموقراطية حاليا)، وهو ما أدى الى مقتل نحو مليون شخص وتهجير مئات الآلاف، بسبب التنازع القبلي على السلطة او التخلص منها.
ما سبق يمثل بعض أهم حالات الحروب العالقة بالأذهان والتي قفز فيها صانعوها مع سبق الإصرار والترصد على شرعة جنيف، مع ذلك فلا ينبغي أن ننسى او نتناسى في هذا السياق مجازر الخمير الحمر في كمبوديا ولا ما يتعرض له الأكراد في العراق وتركيا على سبيل المثال ولا الوضع الإنساني المأساوي في الصومال الدولة التي وصفها تقرير حديث صدر عن الأمم المتحدة بالثقب الأسود .
الصورة القاتمة لواقع الحال الدولي في التعامل مع ضحايا الحروب اسهم فيها كل أعضاء الجماعة الدولية، وبالذات القوى الكبرى، كما أن منظمة الأمم المتحدة كهيئة دولية أخذ على عاتقها صيانة حقوق الإنسان لا تخلو هي الأخرى من المسؤولية, في أزمة البلقان على سبيل المثال، كان التخاذل عنوانا واضحا للسياسة الدولية في التعامل مع جزاري بلجراد، وقد استمر ذلك حتى بعد توقف الأعمال العدائية، فرغم صدور الحكم بالقبض على الإرهابيين رادوفان كاراديتش رئيس ما سمي بجمهورية صرب البوسنة ورئيس أركانه المدعو أراتكوميلاديتش إلا انه لم يتم القبض عليهما حتى الآن رغم ان الأمر لا إشكال فيه لو توافرت الإرادة السياسية، اما الرأس المدبر لكل الفظائع المرتكبة هناك سلوبودان ميلوسوفيتش فلا يزال يتربع على هرم السلطة في يوغوسلافيا رغم توجيه الاتهام إليه رسميا من قبل محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغوسلافيا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية, تردد الجماعة الدولية في ايقاف سلوك العداء والانتقام المتبادل كان سببا مباشرا لما آلت إليه الأمور في رواندا وبوروندي والكونغو وقد جاء ذلك على لسان الرئيس الامريكي بيل كلينتون خلال زيارته لأوغندا المجاورة لرواندا العام الماضي باعترافه ان تردد واشنطن وباريس في نشر قوة السلام ساهم في وصول عملية الإبادة الجماعية الى تلك الحالة وذلك ما قام به أيضا كوفي أنان في زيارته الى رواندا في شهر مايو من عام 1998، والذي عزا عدم تدخل الأمم المتحدة الى غياب الإرادة السياسية لدى المجموعة الدولية, ولعل بارقة الأمل الوحيدة التي تسهم في رد جزء من الاعتبار الى شرعة جنيف فيما يتعلق بتلك الأحداث الحكم الذي أصدرته محكمة الجزاء الدولية الخاصة برواندا بالسجن المؤبد على رئيس الوزراء الرواندي السابق جان كامباندا لدوره في الإبادة الجماعية التي تعرض لها السكان من قبيلة التوتسي, الحالة الإسرائيلية في التعامل مع سكان الأراضي العربية المحتلة، ربما كانت الأغرب وبالذات لجهة ردود فعل القوى الدولية المؤثرة وكذا المنظمة الدولية على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لاتفاقات جنيف، وقد ظهر ذلك جليا في لغة الخطاب الذي ألقاه الأمين العام للمنظمة في جنيف بمناسبة مرور خمسين عاما على إقرار الاتفاقات وذلك من خلال إهماله المتعمد الإشارة الى الأراضي العربية المحتلة في فلسطين كإحدى مناطق العالم التي لم تحترم فيها أحكام شرعة جنيف, السيد كوفي أنان في سلوكه هذا الذي يبدو أنه يرغب من خلاله عدم تكرار (غلطة) سلفه بطرس غالي، بما يسمح له بالتمديد في منصبه لفترة قادمة يسهم وبصورة مباشرة في رسم صورة غير ذهبية لفعالية اتفاقات جنيف في يوم الاحتفال بيوبيلها الذهبي !! لذلك فمن المنطقي جدا ان تظل صورة مناسبة الاحتفاء الخمسيني هذه أقرب وبحق الى الذكرى منها الى الاحتفال!!
* كلية الملك فهد الأمنية