(1)
غابَ عن قومه ينادي النِّياما ورأى في مساره ما تسامى ورنا للوجودِ في صفو فجرٍ يوقظ الحُرَّ إن أراد القياما ورأى البشرَ في مناجاة وردٍ ينثرُ الشوقَ والهوى والخزامى غسل الصحو ما روته الليالي في سواد الخباءِ بين الأيامى قال: مالي أرى الحياة صراعاً ولماذا الأحياءُ فيها يتامى وإلام الخلافُ حول قديمٍ أو جديدٍ لا يستحقُّ الهياما,. ومتى نبلغُ الفضاءَ جميعاً ننشدُ الوعي والروى والسلاما ونغني في دوحة الحبِّ لحناً يعشقُ الصبح مركباً مقداماً حينها تختفي غلالاتُ عقلٍ لا ترى في السديم إلا القتاما |
(2)
** يتوهمُ مَن يظن الانتماءَ دائرة مغلقة تفرض على المنتمي الارتماء في وسطها واغلاق اي منفذٍ داخلٍ إليها أو خارجٍ منها,,!.
** وهنا يطرأُ سؤال مهم سبق أن طرحه محمد عابد الجابري في تكوين العقل العربي حول العامل الحاسم في تحديد الانتماء، هل القضية أم الذهن وبمعنى أوضح، فهل الاهتمام بموضوع معيّن هو الأساس في التحديد ام هو التفكير من خلاله,,؟.
** لكم ان تجيبوا كما أجاب، ولنا - معكم ومعه - ان نحاول قراءة هذا المحور بأسلوب عملي -أو إن شئتم براغماتي ومن خلال دليل واضح يُجمل الأبعاد المختلفة للموضوع,,!.
** تصوروا أنكم أمام نتاج كبير لاستشراقي ذائع بحثَ في الثقافة الإسلامية فأوفاها دراسة وتمحيصاً، وأصبحَ مرجعاً في فروعها وأصولها,, فهل يمنحه ذلك الحق ليصبح مثقفاً إسلامياً ؟,, بالتأكيد لا !.
** وبالمثل، فأنتم أمام مثقف عربي اهتمَّ بالفكر الغربيِّ ونقله وحاكمه، وتخصص في جزئياته عبر توجهٍ عروبيّ فهل يُنفى من المدار الإسلامي إلى المدار الآخر لمجرد اطّلاعه المعمّق المتوسع في مدارات أجنبيَّة ,,؟! طبعاً,, لا !.
** هنا نخلص إلى رؤية جليّة وهي أن الأساس ليس مادة الدراسة بل أسلوب التفكير ، وأن الأهم من إثارة المسائل طريقة علاجها ، وأن العربيَّ سيأخذ هويّته من وعيه بأبعاد الحكم وليس من منصة المحاكمة ، وهو ما عناهُ الجابري حين أكد أن التفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها,,!.
(3)
** نُصدم كثيراً بأرتكاريَّة الوجلين من التواصل مع الآخر حرصاً على اكتفاء او استمتاعاً بانكفاء ، لتظهر أصواتٌ قويَّة مؤمنة بأن لدينا كل شيء لا نحتاج معه إلى قراءة الوجوه المختلفة التي ستبدو كالحة باسرة تؤذي مشاعرنا وتسيء إلى شعاراتنا !.
** معهم حق في جانب من هذا التخوف أو تلك الحساسية إذا كان تأمل الملامح يستلزم تمثّلها ، أو إذا تطلب الاقتراب منها نأياً عن الوجوه المسفرة المستبشرة التي اعتدنا حبّها وحدبها,,!
** معهم حق لولا أن الأمر مختلف فالتجربة الإنسانية مُشَاعٌ نستطيع الأخذ منها والرد عليها دون ان نُضارّ في جذورنا وامتداداتنا ,,!.
** هل نتفق - الآن - على أن ما يُثار بين آنٍ وآن من رجم لمفكرين كلُّ ذنبهم أنهم فهموا ما استغلق على بعضنا وتحاوروا مع ما عجزنا (أو نفرٌ فينا) عن محاورته جهلاً بلغته، أو وهماً بخطره، او تحجيماً لمسافات إبصاره,.
** هل نتفق على أن في ذلك شيئاً من الخطل ؟! وهل نستطيع فتح النوافذ دون ان تدهمنا العواصف والقواصف ؟.
** لا تثريب على من أجاب بنعم كما هو لمن اقتنع، بلا ، فالمهمُّ أن نتطارحَ الرأيَ دون أن نتعرض للنوايا أو نُزايد على انتماء أو ارتماء !.
** هنا تظلُّ المرجعية الثقافية الفيصل في تحديد وتجديد الهويّة، وهي - إن شئتم - مزيج من ثوابت موروثة، وأُطُر معرفية واجتماعية تضع المستقبل كما الحاضر مثلما الماضي داخل معادلة الفعل والتفاعل ,,!
** هذه هي مقدمة الحكاية، ولكم أن تقدِّروا تفصيلاتها ولنا في هذه الأربعاوية أن نثير بعضاً من تداعياتها,,!.
(4)
** لا جدل في أننا افترقنا إلى مجموعة من الفئات التي ينتصرُ كلٌّ منها لفريقه كما يفعل عاشقو الكُرة ولنخسر من ذلك وحدة عضوية يتكامل أفرادها ورموزها كما يفعل لاعبو النادي الواحد,.
** دعونا نَعُد بالذاكرة إلى بدايات القرن حين ساد صراع فكري طويل بين مجموعة من الرموز الثقافية العربية الكبيرة، وتاه المتابع - في حينه وبعده - متسائلاً عن مكمن الحقيقة أو منطق الحق وخرج جيل متميّز يرفض هذا او ينتصرُ لذاك لمجرد أن قراءاته قد توجهت نحو ناحية أو زاوية معيّنة، وربما لا تُتاح لهم الفرصة لاحقاً لإعادة القراءة,,!.
** حدثَ هذا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها ولا يزال جيل بل أجيال تتعايش مع اختلافات الرأي وكأنها - لتوِّها - قد أُثيرت، وكأنهم - لتوِّهم - قد أثاروها,,!.
** صاحبكم واحدٌ من أولئك الذين اكتفوا بالعناوين ليحسب نفسه - بعد ذلك - في خندق فلان، وضد فلان رغم أنه فهم الأول، وجهل الثاني، وظل كذلك غير عابىء بالبحث في خلفية المناوءة أو مواجهة الانتصار ,,!.
** لا حاجة لعرض أسماءٍ معيّنة فهي معروفة أولاً ، ولكيلا نقع في إتيان ما يُنهى عنه من الاكتفاء باستعراض عابر قد يثير - مجدداً - حواراً أصمّ لن يتجاوز الموجز إلى التفاصيل,,!.
** ولمن يودُّ إفاضة الرجوع إلى قائمة الكتب التي أعيدت طباعتها في الفترة القريبة بمبادرات مؤسساتية (لها أهدافُها دون ريب)، وسوف يدرك أن الفجوة ليست كما يظن، وأن الفوارق الفكرية لا يمكن ان تصل إلى حدِّ القطيعة أو درجة الاتهام !.
** وإذن فقد خسرنا بسبب أحكام جاهزة سيقت فتلقفناها، ولو أعدنا استقراءها، والتعرف على اثباتاتها ومنفيّاتها لربما بدت لنا صورٌ أخرى أقلُّ عَتامةً إن لم نقل أكثر إشراقاً ,,!.
(5)
** قرن يوشك أن يمضي، ولانزالُ حيثُ نحن ، إذ لا نعرف سوى ملامحنا ولا نقرأ غير كلماتنا ، ولا نصفق بل ولا نُصغي إلا لمن يعزف على أوتارنا ,,!
** في الستينيات كانت المحاور السياسية هي أساس التصنيف وغرق جيل ذلك الوقت في التطبيل لجماعة وانتقاد أخرى، وساد صخبٌ حاد انقسم بسببه الناس وتاه الحوار ,,!.
** وتبحث عن الفوارق من خلال النتائج - بعد أن مضى ذلك الزمن - فلا تكاد تبصر سوى أعينٍ غشيت فرضيت أو سخطت، ولم تدرك أن الموضوع كُلَّه تلاعب في شعارات وتحريض لشعور,,!.
** وجاءت السبعينيات والثمانينيات وكان المنطلق نظرةً ثقافية مختلفة لمعنى التجديد والتقليد في الحركة الشعرية بشكل خاص، وأضحى التفعيليُّ خصماً للتناظري ، وجمهور هذا معادياً لجماهير ذاك، وبالعكس، وبُحّت الأصوات الغاضبة من بعضها، ولم يتورع فئامٌ عن تخوين فئام ، وتناسوا أنه شكل لا مضمون وطريق لا رفيق ، وصار السجال ذا طابع عدواني ، وانفصل ذلك الجيلُ ، ولم يبحث عقلاؤهم في مشروعية الخلاف والاختلاف على الإطار حين لا يمس الصورة ,,!
ولا نزالُ مختلفين معهم وبسببهم دون أن نعي أننا لا نعرف لماذا ، وإلى متى ,,؟!.
** وهكذا فالتسعينيون ليسوا بدعاً حين تجاوز الخلاف منطق اللسان إلى اليد وطغى البارود على العود ، ولم يدرِ الصابرون كيف ندرأ خلاف العنف بحوار اللين واللطف ، وأضحى بعضٌ كارهاً بعضاً دون أن ينبعث ذلك من مرجعيّة حقيقيّة تدعُ الحساب ليوم الحساب اقتناعاً بأن الحوار لا يمسُّ ما جاء قطعيّاً في نقله وعقله ودلالاته رافعاً راية: الحوار دون الصراع، والجدل بكلِّ الثقة الطيبة والظن الحسن فالله - جلّ شأنه - هو علاّم الغيوب,,!.
(6)
** حين عاد ميخائيل نعيمة إلى قريته بسكنتا في عام 1932م قال:
* منذ عشرين سنة أدرتُ وجهي إلى البحر، وظهري إلى صنّين واليوم صنّين أمامي والبحر ورائي، وأنا بين الاثنين كأني في عالم جديد، وكأني ولدت ولادة ثانية .
زاد المعاد/ ط3، ص 29
** ولا نزالُ - رغم مرور سبعين سنة - بين مديرٍ ظهره وموَلٍّ وجهه دون أن نمزج الأمام بالوراء ، وننظر إلى اتجاهين بعينين فربما رأينا الصحراء في لوحة البحر ، والبسمة في افترار الثغر ، والحكمة في انفلات قيد، والهزل في صرامة جد ,,!.
** لنختلف دون أن نفترق، ولنتحاور من غير أن نتدابر ولنؤمن أن لا مصلحة لأمةٍ تروم النهوض في انشطار عقلها وتصادم عقلائها,!.
** إن استمرار الجدل باللغة ذاتها التي خاطب فيها السيد أحمد عبد الجواد ابنه كمالاً - كما تخيل نجيب محفوظ في الجزء الثاني من ثلاثيّته (قصر الشوق) - هو أخطرُ ما يواجه الأمة وهي تستقبل قرناً جديداً يتسابق فيه القادرون على الإبحار في فضاءِ التطور,, إذ بدون أن نتيح المجال لتكافؤٍ ذهني يقدِّر إمكانات الفهم والتفاهم فسوف نُساءل عن الأسباب ونحاسب على النتائج ,.
** التاريخ لا يغفو,, وإن غفل المؤرخون,,!.