Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


تلويحة
الصعلكة أيضا
عبدالعزيز مشري

قلت في تلويحة الأسبوع الذي مضى: إن للصعاليك صفات جدية ومعنوية وسلوكية, وأظن أنك وبصورة تثب الى ذاكرتك المتصورة لن تجانب اعتبار الصفة الجسدية نوعا من القدرات الخارقة أبلغ ما بها العضلية غير ان هذا بعيد جدا عن الصحة الموافقة لموضوعية الحال,, فالصفة الجسدية المذكورة تعني تحديدا (القدرة على العدو) وهذه القدرة حسبما ذكرت في مواقع عدة,, تتجاوز في نفاذها سرعة الخيل، فقد كان السليك بن السلكة من أشهر الصعاليك عدوا، وكذلك كان السنفري صاحب لامية العرب ولا أدري لماذا اعتبرها المستشرق بروكلمان من أكبر ما كتبه او قاله العرب في الشعر، لماذا بلغت مبلغ المنافسة من قبل فارس الى حد جعلهم ينسبونها اليهم على لسان خلف الأحمر ؟ وربما أكون مجانبا لواقع الاستنتاج الذهني للمفاخرة بهذه القصيدة او لاصرار المستشرقين على شهرتها,, فمن موقف المتعجب هذا,, فانني قد أرى في هذه المبالغة انهم رأوا فيها جلافة العربي وبداوته المتأخرة في العيش والتعامل وقسوة البيئة المنعكسة على السلوك والطباع، وبالتالي اعتبار العرب في الأصل قوماً غير جديرين بالمدنية التي تكون بؤرة التجمع الحضاري وهكذا بدا ذلك في فخر واعتزاز شديد تجاه اشعارهم وعلى رأسها اللامية لكنك في غير وسوسة تستطيع ان تستعرض بسهولة تاريخ المدنية في التاريخ العربي الإسلامي ودلائل العمارة والمواطنة ومراحل نتاجهم الفكري والترجمي والثقافي عموما، سأكون جاهلا لو قلت ان الحملة عل كل مستشرق هي عين الحقيقة، ففي هذا جنح متحامل، وفي المفاخرة التي تجري مع الخيل ياشقرا نوع من الخبل التطبيلي!
***
ان الصفة العضلية في الصعاليك فكانت أشد ما يمكن وصفهم بها,, (إذ كانوا جميعا وحسبما تثبته أشعارهم وما يروى عنهم) يتميزون بالخفة والنحول الشديد وضعف البنية وقلة اللحمة بضم أوله لكنهم برغم كل الافتراضات المأخوذة عن معطيات البيئة الفقيرة,, لم يؤثروا أنفسهم ويقدموا لوعة بطونهم على المكرمة، وإنا يفكرون ببطون الجوعى الآخرين وفقرهم وحاجتهم.
فهل تستطيع معي ان تستنتج قيمة عالية حضارية إنسانية تختار لها مسمى عادلا لو علمت بأن عروة بن الورد كان اذا نزل القحط بقوم فتجهزوا للرحيل تركوا المريض والعاجز خلفهم ورحلوا، حيث كان سيد الصعاليك يجلب لهم الطعام والرعاية حتى يقدروا على القيام فينضموا الى قومهم وقد اغتنموا أو برئوا دون ان ينال منهم عروة قشة ولا بعيرا، او حتى يعرف من هم، وإنما لكونه مر بهم في طريقه,, أقول: ماذا تسمي هذا؟!
إنك لو اعتبرت الصعلكة نزعة إنسانية لمجرد الإغارة على أموال وأنعام الطبقة الغنية المتميزة في زمانها,, فانك ربما تكون جانحا نعفوك اذا قلت لك إن الحكم بهذه المسلمة دون معرفة المسببات التربوية والطبقية وعوامل ذاتية أخرى تتعلق بكل فرد تصعلك حينها، ذلك لأنهم على اختلاف مشاربهم الذاتية المختلفة,, كانوا من أشد الذين تمسكوا بالقيم والسلوك والأخلاق المتعارف عليها في زمانهم، فهم كرماء الى حد الموت فقد روي ان أبو خراش وكان صعلوكا عداء يسبق الخيل فقد ظفر بجوادين عرضهما الوليد بن المغيرة لمن يسبقهما في السباق وكان أمرا شبه مستحيل فسبقهما ابو خراش ,, ولعله جاء مخضرما.
كرمه اودى بحياته,, حيث نزل عنده ضيوف من اليمن في الليل فذبح لهم شاة وبينما هو يهيئها قرى لهم احتاج للماء فأشار عليهم باحضاره من مكان قريب,, لكنهم تمنعوا فقام بقربته فملأها وحين هو عائد في الظلام اصابته حَّية في قدمه,, غير أنه تماسك لكيلا يكدر عليهم الاضافة حتى أكلوا بات يجاهد السم في جسده حتى الصباح حيث وجدوه صامتا ميتا,, فقاموا ودفنوه ثم رحلوا!
ويجدر بي الآن ألا أذكر ما قاله سيدنا عمر لما علم بذلك ولعله ليس مكانه والاستشهاد هنا حول صفة الكرم التي ترتبط ارتباطا إنسانيا خالصا تقع فعلته دون شك على الآخرين ولسنا في مداراة,, فقد كانوا يبذلون اقصى حيلهم وهمتهم وإرادتهم وقوتهم من أجل الحصول على الحيوانات التي تقترب لترد الماء فيجرونها وهم حفاة مسافات بعيدة لكي يطعمون بها الفقراء والجوعى، فلا يمكننا القول بأنهم يبحثون عن المجد بالمديح، ولم يذكر في اشعارهم انهم نافقوا من أجل الحصول على المال او الغنائم، او أنهم كانوا يقفون لاستجداء او الشحاذة.
لا تقل ان الصعلكة نزعة,, لعلك لو علمت (في هذه العجالة) أنهم كانوا يفاخرون بقوة تحمل الجوع والطوى,, الى حد يقدم أحدهم الطعام لغيره، ويذهب ليملأ بطنه بالماء الذي تبقيه الأمطار بين الصخور!
***
سيجد المتتبع أن شعر الصعاليك لم يوظف من قبلهم كمصدر رزق -وبالتحديد كمصدر اقتصادي تبلغ فيه الصناعة مكانها إلا في العهد الإسلامي حيث لم يعد ثمة مكان مفتوح لمزاولاتهم حيث تمت الاستفادة من خبراتهم وذكائهم وقوة شجاعتهم في المواقع وفي هذه المسألة نظر قد يطول.
***
لست في إنشاء دراسة تقييمية عن الصعاليك واحوالهم وأعيب على قلمي ان كنت قد اجهدتك بقراءة هذه الإشارات المضغوطة,, لعلني أتصورك تومىء اليّ بسؤال فيه جواب لا أقدر عليه على هذه الهيئة مالنا ولهم؟
لكنني وإن كنت اشاطرك السؤال بطريقة أخرى مغايرة او على الأقل تتناسب مع واقع زماننا ومكاننا الفعلي والإعلامي والتكنولوجي,, كأن اقترح في سؤالي إجابة مثالية جاهزة لا تخطر على فكر عاقل مثلك,, كأن اقول:لماذا لا يتخلص هذا العالم من الفقراء ومشاغباتهم، فيلقيهم الى البحر,.
ألا يشكلون أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، يضاف اليهم عدد غير معلوم من الفلاحين، وآخر دون مستوى خط الفقر من المسخبيين والمتربيين والمهجرين والمطرودين والمصادرين,,
وكل أهل ال إين إين,,, ولا الضالين آمين.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved