Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


ارتحالات الجسد والروح 5 - 5

جاء دوري بعد انتظار,.
دحجني (ابوعبده) بنظرة فهمت منها ان عليّ ان أدخل الى غرفة التطين، فالعدد يتزايد لبسني الطين وخرج,.
ادخلت ابهامي في بلاستيك، يلف به جسدي, لأبقى ثابتا في مكاني,, دون ان اتزحلق الى اسفل,, قرأت آيات قرآنية، وهوجست بقصائد نكد, ولم ابك طبعا كما يطلب مني (ابوعبده) ساخرا في كل مرة انتظرت نصف ساعة في الطين الزمن الذي يحدده لي,, ولم يأت ليخرجني من هذا الجحيم ظننته نسي، فالعدد اليوم كبير والناس يملؤون المسابح والبرك المائية المجاورة لغرفة (التطين).
لم اعد اطيق البقاء مغموسا جسدي في الطين,, عيناي وحدهما اللتان مسموح لهما بالحركة, تتحركان في محجريهما دون ان اجرؤ على فتح جفني.
يئست من مجيء (أبوعبده) ليخرجني من هذا الطين, الذي دسني فيه فتزحلقت من السرير ووقفت بباب الغرفة,, تمنيت لو كان في الغرفة مرايا لاشاهد قامتي الجديدة بالطين سمعت اصوات المرضى حول البرك وفي المسابح المجاورة لغرفتي,, خشيت الخروج بهذه الحال لأعبر الى غرفة الغسيل, فقد حذروني في مرات سابقة لئلا اسقط نفسي في المسابح بالطين,, ولئلا افجع المرضى الآخرين الذين ليس لهم علاج بالطين مثلي,, فكرت بالوقوف في البلكونة القريبة من غرفة (التطين) لأشاهد الناس في مدخل الفندق ويشاهدوني,.
ظللت لدقائق واقفا انتظر وصول (ابوعبده), ليساعدني كي اغتسل من هذا الطين.
واخرج.
لكنه لم يأت,.
فعلت ما حذروني منه,, لففت منشفة على وسطي فوق الطين وخرجت الى غرفة الغسيل, اغتسلت نظفت جسدي من الطين وفي الطريق سلمت على الرجل الأمريكي العجوز مفتول العضلات, حاول يشاكسني كالعادة, فلم استجب لمداعباته,, ولم أدر لماذا,؟ وقد رأيته البارحة يرقص في الحفلة التي نظمها الفندق لنزلائه,, بينما كانت (السمكة)البشرية زوجته خامدة رفضت محاولات جلسائها على الطاولة جعلها تهز طولها وسط الحفلة, وبدأت منقبضة تكثر من تدخين سجائرها.
وبقرب هذا العجوز الذي اتعبته ركبه,, يتداوى في النهار ويرقص في الليل,, شاب فلسطيني من القدس يعاني من جلطة في الدماغ سببت له شللا ترافقه والدته الخجولة وهما جيراني في الغرفة المقابلة,, توصيني دائما لكي اهتم به في الاماكن التي لا تستطيع البقاء فيها في وسط رجالي,, ولباس غير محتشم, لكنه يرفض مساعدتي له بعناد لم أعرف له مبرراً.
كان القرف مسيطرا عليّ , ولم احتمل مداعبات ومشاغبات ونكات الرجل الامريكي العجوز، اومأت للشاب وقد حان وقت صلاة الجمعة ولا بد ان اتهيأ بسرعة فخرجت.
وحول المسجد كان العدد كبيرا, وفي الداخل كان عدد المصلين قليلا,, وبعد الصلاة وقبلها احتفالات يبدو أنها من بقية ليلة البارحة، وحول بركة المغارة حشد بشري, جاءوا من القدس ومن عمان والرياض ومسقط والكويت ومن اماكن متفرقة من الوطن العربي كلهم ينشدون العلاج وربما للسياحة, لكن في (ماعين) لا شيء غير هذا الماء الحار يتدفق من جبال جرداء ولا شيء يغري بالبقاء ابدا.
بعد الصلاة كانت حالتي النفسية رديئة جدا لم اسمع طويلا كلام (ابوحسن) مؤذن المسجد يحاول دفعي لاقناع (ناصر) ليصلي وكان منكبا في دكانه يباشر طلبات الذين وفدوا هذا اليوم, لذا دخلت فورا الى المغارة وتناسيت رغبتي وحبي للضجيج والحركة والكلام.
حالتي اصبحت غير مشجعة للاستمرار في العلاج، ولن اظن انني سأبقى شهرا هنا, كما يريد طبيبي الذي لا يقل انفعالا عني، ونفسيتي تزداد سوءا، وقد اخطرني (ابوعبده) بهذا حينما لاحظ امتعاضي وتذمري (شوبك يازلمة,,؟) وربما يؤنبني اذا اكتشف, ولا بد انه عرف انني انسحبت اليوم من غرفة (التطين) من غير ان يخرجني لكن هيهات,,!! لقد مللت بما فيه الكفاية ولدي اسبابي الروح والجسد متلازمان, في الفرح والشقاء, فهذا العجوز يرقص في الليل وفي النهار يدلك ركبه المتعبة، وزوجته (السمكة) البشرية تقضي نهارا بكامله, تعوم في مسابح (ماعين)، واذا جاء الليل اختفت,, او بقيت وحيدة منقبضة لا شيء يعنيها مما يحدث حولها وليس امامي سوى حقائب السفر تنتظر استعادة حيويتها ولا بد في النهاية من الخروج.
وكان ايضا لا بد من لقاء الفرنسي (جيم) قبل المرور على (شيك آوت,,) رتبت في ذهني اسئلة عن العلاج والاسر والاطفال والسياحة والاستثمار والفقر وخرجت من مكتبه بعد ان رتب لي موظف الاستقبال (شيك آوت,,) وحجز لي سيارة تنقلني الى عمان عبر منعرجات وطرق جبلية اقسى من تلك التي مضيتها في طفولتي الجنوبية قال سائقي ونحن نصعد جبال (ماعين) مغادرا:
- هيه ,, هيه أنوار القدس,, هيه بحيرة طبريا,,!!
لم اكن اود ان يثيرني اكثر,, تذكرت ان شيخي حرم عليّ تراب (البحر الميت), يعني الطين الذي يغرسني فيه (ابوعبده) صباحا ومساء.
ومروا به خفافا,.
عمان لم تعد تستوعبني
نسيت كل شيء,.
ويتحدثون عن حي الصويفية,, .
وقد اتعبني فيه المشي,.
فيه جبال ومكتبة المستقبل التي لم تفتح والثراء,, وبنت ضائعة لم تدفع الحساب,, وابراهيم والاجنحة الذهبية,, والطفل الليبي المريض.
و(أساطير,, جارودي), التي لم تأت.
عمان لا تشبه كل المدن لكن من الناس يمكن ان تبني عليها الثبات, حاولت الحصول على رحلة هذه الليلة للرياض,, باءت محاولاتي بالفشل, ولم يكن بالأمر الهين فليس كل امنية ممكنة ووجدتني اخرج فجأة (!!) من بين منفذي (نصيف - جابر) في الرابعة صباحا,.
ولم يرد سائقي (أبوعامر) الفلسطيني, ندخل الى عاصمة الامويين كما دخل صديقي (اياد) وليس ابني.
لا اله الا الله
وحده لا شريك له
له الملك وله الحمد
يحيي ويميت,.
وهو الحي الذي لا يموت
وهو على كل شيء قدير.
وفي دمشق التي تبدو انوارها الآن امامي مشعة تتثاءب بعد ليلة مليئة بالفرح والسهر,, وحي زمان (ابورمانة) والزبداني والورود والكتب واطباء الاسنان والحميدية,, والسوق السوداء والكتب والحكايات.
امامي ليلتان أقضيهما في دمشق,, وهما بالتأكيد لا تكفيان,, فماذا أفعل؟!
الاولى بعيدا عن سريري,, وشقتي, وحقائب سفري وكتبي الجديدة وحي (العباسين) بكامله.
وشغالتي الشابة ام الحكايات (جوليا) قضيتها مع (دموع) القهر, في مخيم فلسطين على الشموع حتى الصباح,.
ودمع لا يكفكف يا دمشق,, (!!)
ثلاث ليال لم أنم بعد.
وسأذهب للرياض غدا على سهر,.
بذات اللعبة سأختم بالليلة الاخيرة فكم من المؤجلات تنتظرني,, فحيث يقبع فلاسفة الفكر والايمان,, هناك صديقي التونسي (ضليل) وجد وهوى (ابن عربي) في جامع الاربعين وجبل قاسيون وحيث قتل قابيل هابيل بلهجة (برشا) شامية يحدثني.
- هاكا,, هذا سيدي جبرئيل يرفع الصخرة,, ألم يبارك الله في شامها ويمنها,(!!)
وبعد صلاة العشاء كنت ابحث عن حبل (خيط) اشد به وثاق حقائبي الثقيلة في شارع ضيق.
في حي (العباسين) وقد اصطفت على جانبيه دكاكين عتيقة وشاب فاره القامة ذو ضفائر وذقن حمراء واسنان ناصعة البياض يفتح عددا من ادراج دكان المفاتيح الصغيرة ليبحث لي عن هذا (الخيط) الذي سيلم حقائب سفري مع بعضها فلم يجده في البدء,, ويقيني ان هذا (الهيبي) الذي يصر على اعطائي هذا (الخيط) يبحث في فراغ خرجت الى دكان آخر, وصوته يلاحقني ليستدرجني في الكلام,.
- الأخ سوداني,؟!
لم أجب فقد استهوتني اللعبة معه فجسدي شوته شمس ومياه (ماعين) وصار داكنا وبدلتي (الرياضية) السوداء لم تتغير فقط يوم واحد لبست فيه الثوب في صلاة الجمعة, وقد صرت على عتبة باب دكانه خارجا فقلت.
- نعم ,,!!
انتقلت الى دكاكين اخرى في الشارع, الضيق ابحث عن حبل اشد به حقائب سفري.
سمعته يضيف:
- سأجده فورا اول ما تخرج,, انت من شمال السودان ام من جنوبه,,؟!
كنت قد انتقلت الى اكثر من دكان من الدكاكين الصغيرة العتيقة,, اسأل ان كان فيها خيط يصلح لأربط به حقائب سفري,, ظل الشاب يبحث في دكانه الصغير عن هذا (الخيط), وبعد خروجي بلحظات وجد الخيط المزعوم لينطلق في اثري صائحا والخيط في يده.
- يا أخ,, يا أخ,!!
التفت أراه قادما اليّ بهامته الفارهة واسنانه الناصعة البياض وشعوره الحمراء الطويلة,, ودون مقدمات قبلته واخذت منه الخيط قال:
- قلت لك سأجده,, سأجده,,!
أخذني معه الى دكانه الصغير الذي صار يبعد اكثر من عشرة امتار وعدة دكاكين وفي دكانه الصغير في ذات اللحظة قدم لنا احدهم زجاجة مرطبات باردة,, فحاولت الاعتذار لكن الشاب كانت ابتسامته تغري اكثر قال:
- هذا نصيبك يا اخي,,!!
كان الشاب الذي جاء لنا بزجاجات المرطبات يطلب صرف (1000) ليرة, فأخرجت له المبلغ من داخل بدلتي السوداء وصرفت له رأيت الشاب تتسع ابتسامته بدهشة.
- لقد رأيتك امس تتسوق هنا في بدلتك السوداء هذه,, وظننت انك اخ سوداني,, فلماذا تتنكر,,؟!
أيقنت في قرارة نفسي ان هذا الشاب ذو الشعر والذقن الحمراء والاسنان الناصعة البياض والقامة الفارهة,, مد لي الآن (خيط) سهرة الليلة الاخيرة,, نقضيه معا,.
وفي اول الليل قلت له: (هذه قصة رحلتي,,,) ضحكنا معا,, فلست وحدك, (ابوحسن) مؤذن مسجد (ماعين) حيث كنت اتطين في (البحر الميت) وحيث نهاني عنه الشيخ لنجاسته,, لبست ثوبا لمرة واحدة اصلي فيه وطلب مني (ابوحسن) اصلي بالمصلين.
(وباسم) دلالات العقار سألني (أنت صعيدي - سوداني - ليبي - يماني,؟!) ورجل عراقي اشتريت منه اربعة ازواج احذية يبيع بجوار مسجد الفاروق,ارتعشت يدي في يديه وانا اهمس في اذنه (أعرف بغداد الجميلة,, عشت فيها ثلاثة وستين يوما,, كل يوم في ثوب,,!!) ووضعت في يده (دنانير) اردنية بقيت معي حلف بالطلاق ليعشيني في بيت احدى زوجتيه وطبيب جراح لبناني راهنني على شراء حقيبة سفر بنفس السعر الذي اشترى به قائلا: (يا عم,, انتم ما بتهتموا ع التفاصيل,, بتأخذوا بدون تفاصيل,,) وكذلك فعل معي سائق (درزي) بادرني بقصة ذاق فيها شقيقه المدرس في اليمن مرارة الغربة ومعاناة عدم تقبله هناك بسهولة اضطررت ان انسج له قصة وهمية لحفار آبار في قريتي (المزعومة), بعد ان ميزت صلابة لكنته قلت عاش نفس المعاناة وعدم الثقة في الغريب بسبب النساء , ولم يكن حفار الآبار غير مقاول (درزي) بنى لي فيلتي في (الرياض),.
تمدد الشاب وضحك حتى بانت اسنانه الناصعة البياض وقال:
- قبل ان نربط حقائب سفرك بهذا (الخيط) الذي جمعنا,, دعنا نصلي صلاة العشاء,, وهاك هذا الخاتم الذهبي بشارة,, فهو لك,, (؟!)
وحكي لي قصة اشبه بالخيال قبل ان يجد هذا الخاتم في طريقه,.
لم اكن قد نمت في شقتي, ولم اكن اطيق البقاء فيها بل ان كل شيء مقرف هنا كرهت البقاء في الشقة ولم اعد اطيق بقاءها.
حاولت ان اغفو مرات على الكنبة, منذ الساعات الاولى لمجئي وها أنا منذ ثلاثة ايام لم ارتح في نومة مريحة كهذا التلفون الذي لم يهدأ سألت نفسي وقد حدثت المفاجأة (!!) ماذا افعل,,؟!
لم اجد غير حقيبة سفر استخرج منها شرشفاً افردته لنصلي.
ومضت ليلة ,, قبل صلاة الفجر كان الشاب خارجا للصلاة,.
ظللت في شقتي ينازعني التعب والنوم والحيرة فكرت في البقاء ايام اخر.
ذهبت في حلم استعيد قصة اولئك اليهود الذين جاذبوا (اياد) بلغة فرنسية وبسخرية يهزؤون من سرواله الاسود.
يسبح في ماء (البحر الميت) وكان يفهم لغتهم التي تخصص في آدابها ويرفع لهم شارة النصر فجأة (!!) سألني
- ألست بين اولئك الرجال الاربعة ألست انت الذي صحت فرحا:
- أحد ,,, احد.
هززت رأسي في الحلم نافيا لم اصل للبحر الميت من قبل ولم أرك كنت قد تهاويت مكاني وذهبت في نوم عميق ايقظتني منه قبل موعد رحلتي بوقت قليل ضربات عنيفة على الباب.
التفت الى جاري في المقعد المجاور بين الارض والسماء,, سحاب ابيض تحتي لا يحجب قراءة تضاريس وجه الارض,سألني:
- قائد الطائرة عتيبي ,, (؟!)
لم اجب لم اعلق فقد صار خلفي ونحن معا في مقاعد المدخنين الفارغة,.
سمعته يتذمر (لبوزواح من ها البلد,, ما يؤخر الا مشاكل,,!!) عرفت اننا ندخل أجواء اشد حرارة وسخونة,.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved