Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


الشعرية المعاصرة
طالب هماش

ربما كانت الشعرية المعاصرة برمتها تنطوي بين دفتي كتاب الفقد الانساني بمفهومه الأشمل, هذا الفقد المتعلق بالحرية كفعالية انسانية وبالضمير الاجتماعي الذي يترك السحق نتيجة للممارسة غير الطبيعية لمستويات الوجود والعيش، والفهم العميق للحياة المعاصرة، والانتماء اليها.
لذلك نحن واجدون القليل من الشعر فيما يطرح الآن من نماذج نتيجة لقلة من فهموا الحياة أو عاشوا بالقرب من نواتها الحقيقية، أو انتموا اليها بأصالة.
ان الذين اعتقدوا ان الحياة حركة وايقاع مستمر في مظاهرها المتعددة لم يفطنوا للجانب السكوني - التأملي فيها,, وما اكثر اللحظات التي نقف فيها متأملين، مصغين الى دقات جدران السكون اضافة الى حاجتنا المستمرة الى الهدوء والسكينة.
فالحياة عمل ونشاط في النهار وتأمل وسكينة في الليل لذلك قال الشاعر الرمزي ييتس : ان الأعمال العظيمة تنتمي للتأمل لا للفعل, حيث ان الحقيقة الوجودية تكمن في الباطن لا في الشكل الخارجي وربما كانت لافراح الناس واتراحهم صبغة التكون المادي الا انها لا تستثار الا بتلك اللغة التي تحمل في نباضتها الأمل واليأس الروحيين, والاقتراب من هذه المنطقة الحساسة بريشة الشعر ليس بالأمر السهل.
فأن تقف وحيداً في مهب الريح ولا تجد صخرة ترخي عليها تعبك الطويل,, ان تضيعك البساتين اخيراً، وتجعل منك الغيوم شريدها الضليل، هذا ما يحيلك الى لحظة الفقد ويفتح امامك ثقب العدم الأسود لتحملق فيه كالمشدوه، او كالكوكب الباكي على سفح الأفول, ان لحظة الاغتراب ما تزال عالقة بقوى الطبيعة، هذه القوى التي تجعل من النفس توأمها الجريح في تقلبات الطقس النفسي والشعري، وبقدر ما سيطرت قوة العلم على مراميز الطبيعة بقدر ما حاول الشعر ايجاد المسافة الفاصلة والضرورية لميثولوجية هذه المظاهر وتجلياتها في الاساطير,, العلم يتقدم باتجاه السيطرة,, والشعر يتراجع لصالح الأسطورة والحنين الى هكذا اجواء غنية بالرمز الميثولوجية في ظاهر العلاقات القائمة بين الشيء والذات, فهذه القصاصات البيضاء والتي تترسب شيئاً فشيئاً في فضاء النفس يبقى الشاعر صيادها الحزين,, هذه القصاصات هي مفتاح الألفة مع المكان والزمان، انها تمثل رموز ذاته في تحققها الأسمى,, في ملاحقة هذه الذات لكل ما يرحل ويذهب ويضيع بدون وداع, ان لحظة الفقد لها ما يكررها دائماً والشاعر ليس الا غريبها المبعد، والمتأمل من فوق صخور الغروب يتبعها من خريف الى خريف لتلقي به على جذع الحداء وكأنه المطهر الوحيد لروحه,وأكثر ما تتجلى اسلوبية الشاعر في التساؤل المرير ولغة الندب والتأسي والتأوه,, انها لغة الحسرات البعيدة والايهامية ايهامية الذات التي تعي حقيقتها وتنكرها في آن معاً لعطاء الشعور فسحة امل صغيرة.
اننا غالباً ما نلمح في تجربة الشعر غنائية واضحة في بكائها الفقد الانساني وهو فقد تصاعد صوته في شعر الثمانينيات وتمحور حول ثنائية الذات والوطن,, حيث يغدو الوطن الحاجة الملحة للذات المعذبة والتي هي بحاجة الى دفئها الروحي المتمثل بالحبيبة والأم والوطن - الارض البيت - ونتيجة هذه الحاجة يتحول النداء في اسلوب الشاعر الى نداء موجع يحمل في بنيته اللغوية العطف والطلب والندب والحث على الانوجاد نتيجة الفقد, وهذا التصعيد في الانفعال المرير يرهق الشعور ويستفزه لذلك تأتي خلفه غيمة الذكريات البعيدة التي تريح الاحساس المتعب وتهدهده على مخدة الحلم, والأكثر مدعاة للأسى احساس الشاعر بحالة الفقد التي ستجيء حين يدرك ان واقعه ليس سوى خسارات متتابعة,, ان حالة الحدس هذه ما هي الا اشارة من آنية اللحظة الى ما سيأتي اخيراً عند آخر مصب للنهر, لكن الفقد من الناحية الابداعية يمثل اليفاع الروحي بالمقابل للشعر في شجرة الحياة التي تهرم شيئاً فشيئاً وهو بالمقابل البديل الرؤيوي لطاقة الحدس، هذه الطاقة التي تندثر كلما تقدمت الحضارة وسارت باتجاه العلمانية,, ذلك لأن طقوس الشاعر تختفي شيئاً فشيئاً ويقف الخيال عاجزاً عن القيام بدوره امام هيمنة السينما والتلفاز والتصوير الذي يحاول اللعب بقدرة التخيل والارتفاع بها الى حد الخرافة.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved