Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


قصة قصيرة
هيا،هيا،هيا
صالح بن عبدالعزيز العديلي

زرقة مياه البحر تعانق رمال الشاطىء، بياض الجزر القريبة يراقص امواج البحر الهادر، مجموعة من الخطوط الضبابية المتشابكة تلوح في عمق البحر، في الافق البعيد.
صيادون، مراكب صيد، مراكب سياحة، ضجيج، صخب في كل مكان، حركة دائبة لرواد البحر كحركة امواجه الهادرة، النهار بدأ يحزم امتعته للهروب من وجه ليلة حالكة تنذر بتقلبات مفاجئة لا يأمنها البحارة، وينفر منها مرتادو الشواطىء.
بابا، بابا، بابا، هيا، هيا، هيا.
صراع دائم عنيف يهز كيانه، قدرة هائلة على التحمل، عناد، قسوة، تعذيب للنفس، مكابرة،،,, قل ماشئت، او ما يحلو لك من الاوصاف، ولكن لاتنس انها جميعا لاتنطبق، ولن يكون بمقدورك العثور على وصف دقيق لهذه الحالة, وارجو منك يا عزيزي الكف عن المحاولات، فهي تضايقني، ولن يجدي معك شيء منها.
في المراحل الاولى من حياة عساف المقبل لم يتجرأ احد على تذكر ان قائمة صداقاته كانت مفتوحة امام الاطفال الصغار، او ان احد هؤلاء الصغار اقتحم حرم هذه القائمة عنوة وحفر اسمه في احد جدرانها,,،
المصادفات، الظروف، مشاغل الحياة، الغربة، كلها لم تستطع ان تحمل له في يوم من الايام مخلوقا صغيرا بهذا الحجم، يحبه، ويغرق في حبه ، و يملأ عليه الدنيا - كما يقال ويحس انه يبادله الشعور ذاته، ولايستطيع فراقه مثل ابنته الصغيرة هيا .
هيا، دفتر جديد اوراقه بيضاء كلون سنيها الصغيرتين، ناصعة البياض، ولم يستخدم بعد للكتابة والرسم والتشكيل.
هيا، لم تأذن بعد لتخصيص مساحة في قلبها الصغير لمفردات الحقد والكراهية والكذب والنفاق والتحايل،، نافذة قاموسها الذي يتشكل الآن موصدة امام هذه المفردات البغيضة التي تلوث قلوب الكثير من الناس.
هيا، ككل الصغار في هذا الكون، رغوة متموجة يطيرها الهواء، وتجففها الشمس، وتتشكل ملامحها كل يوم.
قالوا هلي مبسم هيا قلت: لا،لا بين البروق وبين مبسم هيا فرق ,لم تكن مشكلة عساف المقبل في يوم من الايام هي عدم قدرته على تحمل فراق ابنته هيا ، لكن والكلام له، انه من ذلك النوع الذي يحب، ويغرق في الحب حتى آخر خصلة من شعره المتناثر بغير نظام، ولكنه لايستطيع التعبير بشكل دقيق عن هذا الحب، ولايملك الا وصلات متتابعة من آهات موجعة لايستطيع اخفاءها، ويثقل داخله بحمم بركانية تأبى ان تنفجر، ويحمل نفسه صنوفاً شتى من التعذيب والمكابرة وانكار الذات، ولايحتاج اي قريب منه الى مزيد من الخبرة والدهاء ليكتشف ان لكل فرد من افراد اسرته جناحا مخصصا في مساحة صدره، وانه لايفرق بين ابنائه، فهو يحبهم كلهم، وككل اب لايستطيع ان يفضل احدهم على الآخر.
ولكنها،، هيا!هيا،هيا،هيا وبجيتك هلا هيا، هيا،هيا، وبجيتك هلا اغنية قديمة حورها بنفسه، واختار لها لحنا جميلا، ويتغنى بها كلما تذكر هيا , من المؤكد ان هيا ذات الربيعين تشارك والدها في مجموعة من الصفات وخصوصا في عدم قدرتها على التعبير عن حبها له، لكن اسئلة كثيرة تقرأ في عينيها وفي ملامح وجهها الطفولي البريء لاتستطيع اخفاءها، تسألها هيا عندما لاتجده بجانبها، وعندما يضايقها احد، وتستنجد به، تعتب عندما يتطلب منها الموقف العتب، وكلها توحي بحبها لوالدها وتعلقها الشديد به.
في المساء يتمدد عساف المقبل بعد عناء يوم عمل طويل على رمال الشاطىء القريب من منزله، المكان يعج بمخلوقات كثيرة من كل جنس، رجال، نساء، اطفال، شيوخ، عربات، عربسات ، خيول,.
كان في ذلك المساء يئن تحت سيطرة بقايا شعور نكد، ولم يحتمل نفسه داخل المنزل، وفجأة وجد جسده المنهك مسترخيا على رمال الشاطىء، ويبدأ رحلة النسيان و الاستعداد ليوم جميل، ونفض ما علق به من آثار يومه الذي مضى.
صراخ، صراخ، صراخ خافت يتسلل الى احدى اذنيه، اختبر عساف المقبل جميع حواسه، تأكد من سلامتها، نهض من مكانه، تلفت يمنة ويسرة، فرك عينيه بكلتا يديه، تساءل بينه وبين نفسه ,,؟ من الذي يبكي؟،، لايمكن لا , هيا، هيا,, لايمكن
نادى بصوت متهدج في صداه آثار الإجهاد والتعب: ماما،، ماما،، ماما،، هيا،، هيا،، هيا.
استدار طفل صغير حاد النظرات، يرتدي ملابس سباحة، وقال مستغربا نداءه: :إنها اختي ما دخلك أنت, ماذا تريد منها؟
:لاشيء، ولكن ما سبب بكائها؟ لماذا تبكي؟
:إنها تبكي كعادتها، هي تبكي دائما، كل يوم، وانت ماذا تريد بالضبط؟
:لا اريد شيئا يا ابني, ولكن ارجو الاتتركها تبكي بهذه الصورة، اذهب وشاركها اللعب، انتم في متنزه، ومن حقها ان تستمتع باللعب مثلك, اذهب يا حبيبي والعب معها.
رد الطفل بكل ادب:
:شكرا ياعمي، ولكني اريد ان اسبح في مياه البحر، واهلي لايريدونها أن تقترب من الشاطىء ، فهي مازالت صغيرة، ولاتجيد السباحة.
هدير امواج البحر، اصوات مرتفعة، احاديث، حوارات، ضحكات صاخبة، صراخ اطفال من كل جانب، مساحة المكان لم تعد تحتمل كل ذلك,لم يكن عساف المقبل يدرك وقتها سر اهتمامه وعلاقته ببكاء تلك الصغيرة على الشاطىء، لماذا هي فقط؟ اطفال كثر يتناثرون كحبات الرمل على الشاطىء، يبكون، يصرخون، يضحكون، يمرحون، ولكن ماسر هذه الطفلة معي؟ لماذا هي بالذات؟ لماذا احس ان قلبي يرفرف كطائر صغير عندما انصت لبكائها؟
حاول ان يتجاهل بكاءها، ويصرف اذنيه عن كل مايدور في المكان، ويستمتع بالهواء العليل الذي يسوقه البحر الهائج الى الشاطىء، ولكنه لم يستطع اخفاء شعوره القلق والقوي تجاه بكائها وصراخها المستمرين.
أمعن في الفضول ولم يحتمل استمرار بكائها الطويل ترى ما الذي يبكيها؟ أين والداها؟ لماذا تركاها تبكي ولم يحاولا تسليتها واللعب معها حتى تكف عن البكاء؟ ما الذي صرفهما عن ذلك ؟ هل يوجدان هنا،، في المكان؟ ماذا لو انها مفقودة؟ وجد عساف المقبل نفسه منهمكا في تساؤلات محيرة، ولشدة تعلقه بصوت بكاء تلك الطفلة البائسة نهض من مكانه مرة اخرى، حاول الاقتراب من مصدر البكاء، وظف كل حواسه لتحديده، لكنه مع تزاحم الناس لم يوفق في العثور عليها، فالناس في حركة مستمرة، وصوت بكائها يأتي ويذهب, نادى بأعلى صوته:
:هيا، هيا، هيا، ماما، ماما، ماما.
تنبه الطفل له مرة اخرى وصاح به:
ماذا تريد من اختي ؟ إنها اختي ليست ابنتك.
:اعرف ياصديقي، ولكنك تركتها تبكي لوقت طويل اذهب واسكتها، لاتكن قاسيا كوالديك؟
:ان والدي معها في نفس المكان، وهما يتوليان شأنها، ما علاقتك انت؟
:انها مثل ابنتي يا ابني، ويحزنني ان اسمع بكاءها المستمر.
:ولكنك تناديها باسمها، كيف عرفت اسمها ؟ تساءل الطفل والحيرة تبدو على محياه،
:بالمناسبة، وش اسمها، اختك؟ تساءل عساف.
: اسمها،، اسمها هيا.
:هيا!صحيح؟ هيا!
هيا، هيا،هيا، وبجيتك هلا
هيا،هيا،هيا، وبجيتك هلا,.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved