Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


في الديوان الاول للحرز
شاعر يقنن الكلمات، وينغمها بتورد

رجل يشبهني ديوان شعري جديد هو الاول للشاعر، والناقد محمد الحرز,, انتظمت فيه القصائد بخيط واقعي مرئي لاتجد عناء، او مكابدة في التقاطه,, خيط يقود المفردة الى شاعريتها المبتغاة,, لتخلف بعد قراءتها نفحاً استلهاميا يفجر المغزي,, ويؤزم الالتقاء لتتمشهد المفردات في سياق تأويلي سافر نعرفه في اليقين سلطة المكان وسطوة المعنى .
فلايترك القارىء اي قصيدة من قصائد الديوان الا ويخلف المكان في مكانه هوى,, فمن القصيدة الاولى اضاءة يؤكد الشاعر مسحة الحميمية المبتغاة عن عالمه,, ليثير في الذات تامل العتمة والتوهج وقليلاً من منامات يكابد بها الشاعر سطوة المكان,, هاهنا شرفة تطل منها احزانه على النهر المعتلج في الغرائبية الداكنة,, تلك التي يفر منها الشاعر لتدخله المتاهة الموحشة,, تلك التي تقرأ وجه المكان (الغرفة، المدينة، المقهى، الشرفات، النهر، رمل الشواطىء) ومكانات اخرى تسجل حضورها المقلق، والمؤذي في ذهن الشاعر,, اذ لايميز - ولفرط لواعجه- بين مكان وآخر,, كلها احزان,, ولايغني وصف شيء عن الآخر,, (قصيدة خيبة ص21).
شاعر يقنن الكلمات:
يكثف الشاعر الحرز رؤيته الشعرية,, ويختزل من مفرداتها تيه الغرائبية، وفضفاضية التشكل للمعنى لترد القصائد متوامضة بيقينيات المفردة المكتملة النمو تلك التي نعجز عن التقاط عفويتها لما لها من تثبت يجعلنا على اليقين بأن روح الناقد الفاعلة اعملت في النص قدرتها التهذيبية لتجعله على نحو مقدر يسير,, وعلى نحو اشد تحفظاً يسقط لتخرج القصيدة تلو الاخرى موزونة، ومنغمة ومعطرة بدفء الكلمات المقننة,.
في قصيدة جاءوا المجموعة (ص65) تظل سلطة الشاعر محدودة,, اذ هدم المشهد الشعري جدار التاريخ واطل لاول مرة على قرى نائية، وبائسة,, ليالي توقظ في الذات تأمل الزمان ممثلاً بوجه التاريخ والمكان ببقايا بلاد اضاعت هويتها,, فلايأتي من هذا التأمل سوى آهة حزن جامحة تخلف الرنين المؤذي، والمفجع على نحو ماتقوله القصيدة (جاءوا):
من بلاد بعيدة,, جاؤوا
الطرقات التي احتضنت اقدامهم
ارتفعت قليلاً نحو رؤوس الاشجار
كأنهم ملؤوا جوفها بالاحلام
والرغبات,,
(الديوان ص65)
في هذا المشهد الشعري تنمو - فيما يبدو- بذور وصف فعلي يؤكد قدرة الشاعر الاختزالية للمفردة حتى تصبح على هذه الهيئة المعبرة باقتضاب,, فقرة تصف التاريخ,, ولاتؤكد مجده القاطع ,, تترك اهل البلاد هناك لتأتي محملة بعبق العزلة في اعماق تلك القرى البدائية البائسة.
مشرع في الفضاء كظل غيمة:
في القصائد الثلاث (رغبة تعتمر رأسك، حنجرة لاتبوح، دائماً) في الصفحات الاخيرة من الديوان هناك احتشاد شعري يخرج عن مألوف ما وصفه الشاعر اذ افرغ وبشكل تفصيلي شعلة القصائد واصفاً في الاولى هذيان (رجل) تؤرقه الرغبة ولا يقوى على التخلص منها,, لتبقى في الارجاء ظلال غيمة تهرع الى البعيد,, تلتها في ذات التمرد قصيدة حنجرة لا تبوح اذ اسهبت في وصف ذات تؤخذ بنغمة الوحدة اللاعجة تلك التي تولد مأزق البحث عن لحظة تنوير واحدة تكسر حدة التراتب اللفظي الشائك,, فيما تأتي الثالثة (دائماً) توهجاً فوضوياً يحرك في النص جموده,,ويستميل قارئه للمقارنة,,، والتأويل على خلفية ماحدث لرجل اتعبه الهجر، واضجره عناء البحارة على القوارب الموغلة في تربصها للمجهول الذي سيباغتها بنفس النوايا,.
لو أنك ,, التماع المشهد:
يصور الشاعر الحرز في قصيدته قبل الاخيرة لوأنك اشكالية تلوين الاحداث وهذا مصطلح اجترحته لاصف براعة الشاعر وهو يركب الكلمة في سياقها لتأخذ النغمة شكل المقطوعة المتدرجة في وصولها الى القارىء.
فالحدث في قصيدة (لوأنك) عناق متأصل بين الانسان وذاته,, تلك التي تلهو، وتعبث ويحاسبها الضمير لحظة ان يجد بها ما يستحق تقريعها,, ذات لاتعرف غير شاعر يصوغ الكلمات مثل صوت لايخرج الا بعد التماع قصيدة او بعض قصيدة ليشدو بدندنة واردة ,, وشاردة,, ليبقى مشهد لوأنك ماثلاً بأبعاد حضور الفاعل ذلك الذي يضع الكلمة,, قاعدة لقول يهم الشاعر في ترديده:
لو انك,.
لو انك باعدت بين الاسماء
وهطلت مطراً سومرياً على اغصانك
وقلت: لم يصل آخر الطعنة
مثلك,, (الديوان ص77)
المشهد هنا قد يكون تسجيلياً حاذقاً لفرط ماصقله الشاعر واستبطن عبارته في تكثيف طاغ سجل حضور المطر,, وحشد الرؤية,, وباعد بين ظن وآخر لتتهيأ المسافة اللازمة لنمو النزعة الاستدراكية التي توقظ في القصيدة اكثر من مشهد واحد تنثال بوصف تعبيري ينجح الشاعر الحرز -كما اسلفنا- في استمالته,, ليشكل البعد المطلوب لبناء قصيدة حديثة تعتمد على صنع ذاتها دون حاجة لاعتضاد مفردة وصوت ونغم وهالة قديمة تغنى الى اليوم, وينحاز الشاعر الى التفتيش عن كنه ارض لايعرفها، وطفولة عبرت دون ان يسجل مشاهدها,, وتاريخ لم يكن وفياً في تسجيله لايام الفرح,, اضجر الشاعر ايضاً موت مدينة في مهدها,, واغتيال بلاد عديدة,, وحياة تشبه الموت هي مشهد ماثل في كل القصائد,, لتأتي بيروت، واهلها بما يبعث الصدمة التي اصيب بها شاعرنا جراء حلم يسكنه ويصور بيروت بانها ام الاحلام جميعها الا ان الامر مناقض تماماً لمشهد الحلم الشاعري,, فلا تعدو البهجة سوى ضباب معتم يخرج من بين انقاض احلام الشاعر المحطمة.
إيماءة:
عبدالحفيظ الشمري

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved