وهم الفكر العامي في خطابنا الفكري: الاحتفالية بالعامية,, جعلتنا في نظر العرب دعاة للأمية محمد بن ناصر الياسر الأسمري |
لا ادري سر المصيبة التي اصابت خطابنا الفكري,, والكارثة التي تنتظر اجيالنا الحاضرة,, والقادمة في بدايات القرن 21 وقتامة الصورة عن مجتمعنا وثقافته امام الامة العربية على امتداد الوطن العربي من جراء ما جرى ترسيخه للفكر العامي,, وبالذات فيما يطلق عليه مسمى الشعر العامي/ النبطي, مجتمع شبه الجزيرة العربية كما يفرض واقع التاريخ ربما هو المجتمع المثال لنقاء لغة الامة,, فهي المهد والمنطلق والمرجعية للخطاب الفكري اللغوي بالذات حيث كان القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه محتوى ومضموناً,, وصدق الله العظيم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
لقد عانت ارض شبه الجزيرة العربية من التخلف والفقر المادي والمعنوي والثقافي على امتداد مئات من السنين منذ الافول السياسي بانتقال الخلافة الى العراق والشام,, وقيام حضارة اسلامية راقية امتدت مع الفتوحات الاسلامية التي حملها الفتح الرسالي لايصال رسالة الاسلام الى امم الارض بالدعوة الى دين التوحيد بالالوهية لله وحده.
لكن الله سبحانه وتعالى قد جعل في ارضنا حرماً يأوي اليه الناس من كل فج عميق,, قبلة تعبّد واستقبال واطمئنان روحي,, قوامه رزق الله في ارض الحرمين الذي ابقى للفكر اثراً متواصلاً من خلال وفود الحجاج,, عباداً وعماراً وواصلي ارحام وعلائق نسب ولهذا,, فان مواسم الهجرة الى الشمال,, لحاقا بالاهل والعشيرة في حواضر ارض الرافدين والشام,, وفارس وارض الروم ومصر,, والقيروان وفاس ومكناس وغرناطة واشبيلية وقرطبة,, وغيرها من حواضر الاسلام قد جذبت معها هجرات متتالية من اجل الجهاد والفتح للفكر الانساني الجديد,, فاقفرت ارض العرب,, وابتعدت مراكز صناعة القرار السياسي,, وحدث فراغ كبير لكنه لم يؤثر في بقاء كل ماهو آت من الجنوب الى الشمال من مصادر تعريب متجددة لكل ما الف الاستعجام نتيجة تواجد الغالبية في المراكز,, الثقافية في العالم الاسلامي التي لم يكن لسانها عربيا.
ويشاء الله ان يقيض في ارض شبه جزيرة العرب قيادات سياسية فكرية واعية اثرت الوحدة والتوحد سياسياً وامنياً وفكرياً في العصر الحديث بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله فكان لها الدور الطليعي الذي وجدت فيه النخب القيادية في بدايات هذا القرن الاكثر اهلية لقيادة الثورة على الانفصال السياسي والفكري فتم بحمد الله الاستقرار السياسي والاجتماعي,, وتواصل ولله الحمد مدد الخيرات في حقل التعليم,, وغيره من حقول الاعمار,, وخلال مائة عام وصلت نسبة الامية في وطننا الى نسبة متدنية,, وغالبية كبيرة من شعبنا هم في الفئات العمرية الشابة دون 20 عاماً.
لقد كان مقبولاً ان كان الخطاب الفكري والتعبيري عن مجالات الابداع نمطياً يساير المستوى الثقافي الامي,, الذي كان وقوده ومداده ما سمي بالشعر العامي/ النبطي/,, غير الفصيح/,, حيث كانت الجهوية السمة الحاكمة في الانعزالية,, والتفاخر بالمقدرة على السلب والنهب للحلال,, والتفاخر بالعصبية,, والعنصرية الخ,, من وسائل التخلف وعدم التحضر,, مما اوجد فكراً اميا ,, في اغراض الشعر هذا والذي قد حوى دون شك لمحات ابداعية في الوجدانيات، كم كان جميلاً لو كان مبدعها ذا مستوى فكري متعلم لكان الابداع اجمل,, ولكن هذا مبلغ اولئك الناس من العلم ووسائل التعبير- وكنا نتوقع ان يكون لانتفاء الامية,, وانتشار التعليم اثر على الخطاب الفكري, ,لكن للاسف,, لازال للامية والجهل ادعياء ودعاة للتخلف,, حتى في صفوف بعض الاكاديميين.
انني اعتقد وبكثير من الثقة ان عصرنا هذا لم يعد ليقبل التعبير عن فكرنا بالعامية,, واللهجات الجهوية,, التي تكرس الانعزال والفرقة,, وتصورنا امام امة العرب اننا لازلنا امة امية,, لا نقرأ ولا نحسب، والله سبحانه وتعالى قد قال: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
وعليه فاننا نرى ألا وجاهة لاستمرارية الشعر العامي/ النبطي/ غير الفصيح في محيطنا الثقافي والاجتماعي وخطابنا الفكري في المحافل والمهرجانات للمبررات التالية:
* زيادة وارتقاء المستوى التعليمي وقلة اعداد الاميين,, وبالتالي فمن الطبيعي ان يسود فكر الاغلبية على فكر الاقلية,, ومنطق الامور يقضي بالارتقاء بفكر الامة تبعاً للاغلبية لا الانحدار الى مستوى الاقلية,, ولا حجر على من لا تسعفه قدراته الفكرية ومقدراته الاستيعابية على التفكير والتعبير الا بالعامية,, فهذا قدره,.
* انتفاء معظم الاغراض التي كانت المصدر لقول الشعر النبطي/ العامي,, وتغير لغة الخطاب تبعاً للواقع المعيش,, فقد حلت طائرة الشبح محل المهر وحلت الجامبو محل الكور النجيبة,, وحلت المساحيق محل الشمطري!! والعدسات الملونة,, محل دعج العيون,, الخ.
* اجتماع الوطن في بوتقة سياسية اجتماعية واحدة يستدعي وجودلغة مشتركة,, في مجالات الابداع,, مع الخصوصية في تأثير المكان والزمان بين الدخول فحومل,, وسودة عسير وشلالات مشار,, وجبل اللوز,, وجدة عروس البحر.
* ليس لهذا الشعر العامي/ النبطي اي صلة بتاريخنا وتراثنا الفكري- فليس من فكرنا منذ مائة سنة الا ما يركز على الوحدة والتواصل سياسياً واجتماعياً ولا نريد اي شعر نبطي/ عامي/ امي يعيدنا الى عصور الجهل والفرقة والتشرذم، وتقريض الطغاة ممن اتخذوا السلب والنهب,, فروسية وشجاعة فلا رد الله تلك الايام ولا اي ذكر بها او لها, وهنا فلا مجال لاستمرارية التشويه لوطننا بسمة الامية,, نتيجة الاحتفاء المخجل بالشعر العامي/ النبطي الذي يكرس الفرقة والاختلاف- ويظهرنا بمستوى فكري هابط.
لقد اصبح الامر في غاية الخطورة على وحدتنا الوطنية فها هي الصحف قد بدأت تكرس الجهوية,, فصحيفة المدينة اختطت نشر واذاعة ما يسمى بشعر الكسرة المنتشرة في بوادي الحجاز، وصحيفة عكاظ,, في الشعر الجنوبي، وصحيفة البلاد في شعر الجنوب، وصحيفة الجزيرة والرياض,, في نشر الشعر النبطي في الوسطى والشمال، ومما يزيد الامر مرارة ان مهرجان الجنادرية الذي تبناه الحرس الوطني قد انسج مجالاً واسعاً لهذا الفكر العامي.
والمؤلم في حالة العامية ان بعضها من اساتذة الجامعات,, قادة الفكر والرأي والمنهجية وقد تخلوا عن مسؤولية الامانة العلمية,, وانساقوا وراء موجة الامية,, منظرين ومتشاعرين- فقلّت هيبة الاكاديمية ومصداقية الاستاذية,, وهذا عيب اخلاقي مهني وحضاري,, وسلوك غير مستقيم وروح المسؤولية الاجتماعية والامانة على لغة الامة.
ان في الشعر العامي/ النبطي بأي لهجة كانت نجدية، جازانية، عسيرية، حجازية، مصرية، عراقية، مغاربية، يمانية تعبيرات جميلة ومذاقات حلوة,, ولا مانع من اعتبارها ذائقة مؤقتة كالفاكهة,, لكن لا غنى عن الغذاء الاساسي للنمو والبناء,, ولا حجر على الفكر العامي في المحافل العامية ولكن لا لوجوده في المحافل الثقافية في مؤسساتنا الوطنية,.
انا متذوق للروائع من الشعر العامي,, وافهم كثيراً من معانيه بلهجات محلية وعربية,, واتفكه بالاغاني الشعبية لكن لا اغتذي ولا اسبح مع الفكر الا مع مثل رباعيات الخيام,, او الاطلال.
لا اجد ماهو اجمل من الاستشهاد بنصين لعلمين من اعلام فكرنا اللذين نفاخر بهما امام العالم في خطابنا الفكري - عبدالله الغذامي، ومعجب الزهراني- عسى ان يكون لهما مجال بالاهتمام من الشؤون الثقافية بالحرس الوطني والمسؤولين عن مهرجان الجنادرية.
قال الغذامي في مقال له في صحيفة الرياض الخميس 11 محرم 1419ه: اخذت الجنادرية في الفترة الاخيرة تثير اسئلة مختلفة عن الاسئلة والاهتمامات السابقة وذلك هو سؤال العامية والفصحى وليس السؤال محصوراً في وسطنا المحلي ولكنه سؤال عربي شامل,, سمعت هذا السؤال في سوريا ومصر وفي المغرب ووجدت نفسي في مواجهة محرجة مع عرب كثيرين صاروا يسألون عن المملكة العربية السعودية,, وعن الجنادرية ويتساءلون هل صرنا نحن في بلد الاسلام والعروبة ندعو ونتبنى العامية ونقف ضد الفصحى,, لقد آذاني هذا السؤال واحرجني ان يصل الامر بأحد ان يفكر اننا دعاة للعامية ومرجون لها ويقول الغذامي ايضاً: اننا امة الاسلام والعربية ولنا ريادة وبيدنا امانة ولنا ريادة ثقافية، ويجب ان يكون لنا عبر الجنادرية موقع قيادي ثقافي عربي، ويجب ان نحافظ على دورنا هذا لكي لا يظن احد اننا دعاة للعامية وللتفريق وقال د,معجب الزهراني في مقال له بصحيفة الجزيرة 28/5/1998: اعتقد ان اول واخطر مثيرات القلق هو المبالغة في الاحتفال بالشعرية العامية بتوهم انها المعبر الامثل عن عواطف الانتماء الوطني لمجرد ان بعض شعرائها ممن يحسن المديح والهجاء والفخر اما اقتناعاً بوجاهة الموقف والمقال واما سعياً وراء مصالح فردية ضيقة ومهرولة، فاعلانها الولاء وتأكيده باستمرار لعبة خطابية شائعة وهي بالتأكيد غير بريئة وغير نزيهة ربما، كما قد يظهر البعض صاغة المقال والخبر الصحفي وناظمو القصائد المناسباتية.
فالانتماء الاكثر عمقاً وصدقاً للارض والوطن والتاريخ وللهوية الحضارية يتطلب وعيا بأن المنجز الذي لم يتحقق بعد هو اكثر واهم مما تم انجازه رغم اهميته الوظيفية التأسيسية لما نحلم به ونطمح جميعاً الى انجازه، اما العنصر الثاني المتعلق بكل غيور على وحدة الذات الوطنية الروحية والعاطفية فيكمن في توهم بعض الشعراء وبعض النقاد من دارسي الادب الشعبي، ان الادب الشعبي الاصيل النقي السامي هو ما يحيل الى لهجة او جهة دون اخرى, فمثل هذا التوهم قد يدفع بالآخرين الى التشبث بمقولات مضادة تكرس التشتت او الانغلاق في متاهات الانتماءات الضيقة التي نحن في امس الحاجة لتجاوزها وقد تحقق الكثير في هذا الهدف .
اما صحيفة المدينة فقد كتب فيها محمد سلمان المقاطي بتاريخ 14 محرم 1417ه عن شعر الكسرة ان معظمه غثاء ومجرد كلمات مرصوفة ولا تحوي اي فكر او قضية وان شعراء الكسرة ينشرون الجهل والامية في الوقت الذي نحرص فيه على زيادة الوعي الثقافي لدى القارئ والشاعر .
وفي عام 1415ه نشرت صحيفة اليوم برصد جميل لعبدالله متعب السميح عن الصراخ والنواح الذي حدث في امسيات الشعر النبطي التي كانت مثار استغراب عدد من المثقفين الذين لمست عن قرب انزعاجهم وقرأت في ملامحهم امتعاضهم ان خيمة المثقفين التي وضعها المسؤولون لكي تكون ندوة فكرية وغير محددة بوقت قد اصبحت مأوى لمعاقين فكريا والهلاميين من دهماء الشعر النبطي اولئك الجوعى للظهور والتشبث باذيال الثقافة ولم يكن رأي عبدالوهاب الاسواني وعبدالله الصنحيان عن هذا ببعيد.
وصدق الله العظيم,, القائل في محكم التنزيل والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
|
|
|