Sunday 15th August, 1999 G No. 9817جريدة الجزيرة الأحد 4 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9817


فضاء الكتابة
ارتحالات الجسد والروح 4 - 5
احمد الدوخي

قررت التخلي عن مراقبتهما ونزلت الى غرفة (التطين) حيث (ابوعبده) والصبي سفيان المعني بتنظيف الغرفة من الطين بعد المتطينين, وقد هجر المدرسة بعد الأولى الأعدادية, لأن الاختيار العسكري , تقاعد من عمله بعد ان حمل الاختياره مسئولية إعالة عشرة اولاد, أكبرهم سفيان.
سألتهما وهما يعدان الغرفة, ولم يعد بي خوف وخجل عن أحوال السمكة البشرية, وذكرت لهما شكلها, وما سبب بقائها في الماء طيلة النهار,,؟!
اختلفا في بعض الجزئيات, لكنهما معاً اتفقا انها امرأة رجل امريكي عجوز ثري, يأتي لمرة واحدة في السنة, وتأتي هي هنا اكثر من مرة في السنة ليومين وثلاثة ومعها كيفن ابنها, لتقضيها على هذا الحال في المسبح مدة بقائها,.
لبسني ابوعبده الطين, استسلمت, وسلمت أمري الى الله, وسلمت له جسدي بدون عناد، وضع البلاستيك فوق جسدي, اطفأ النور وسحب الباب وراءه, وقد سمع صوتي وصياحي بالأمس فقال بدعابة:
- المهم أغمض عينيك,, اقرأ قرآن,, غني,, أبك,, على كيفك,, قليل وأرجع أشوفك,,!!
غرست ابهامي في غطاء البلاستيك تحت جسدي, كي لا اتزحلق الى اسفل, اغمضت عيني, ذهبت في اغماءة, رأيت المغارة تنشق وبدا لي أنني اشاهد وجه السماء, وكنت في المغارة اهوجس لو ان البراكين ثارت فجأة (!!) وابتعلتنا, خفت وصحوت,.
انتهت فترة التطين وخرجت, ولابد من المرور على مسابح وبرك ومغاسل, مرضى الركب والدسك, حيث يبقى المرضى لوقت طويل هنا في المياه الحارة للتدليك, همس في أذني الصبي سفيان, وكان يتبعني حاملاً ملابسي الى غرفة (الجاكوزي) قائلا:
- هيوه,, هيوه الرجل الامريكي جوز البنت اللي في المسبح,,!!
أتأمل وجه رجل أسمر اصلع مفتول العضلات, قوي البنية, يسبح في حافة البركة, مضيت الى غرفة الجاكوزي , طلبت زجاجة ماء وصحفاً وتبغاً وشاياً, قبل ان ينقلني طبيي الى السطح المنفرد, كي اعرض جسدي للشمس, لم يطل بي الوقت أكثر من نصف ساعة, مللت وبي قلق ويأس واكتئاب, تذكرت كل الأطباء الذين عرضت عليهم جسدي, منذ عشرين عاماً, وقد قرفت من العلاج, وضعت الروب على جسدي ومنشفتي فوق رأسي, حملت صحفي وتبغي ومائي, وصعدت الى غرفتي, استعداداً لجولة من جولات العلاج المسائية.
في الطريق طلبت مني مختصة العلاج للسيدات، المرأة العراقية التي لم اعرف اسمها بعد، طلبت مني الصحف اذا كان ذلك ممكناً، لقراءتها ومن ثم اعادتها, ابتسمت وسألتها عن اسمها ليلى , مع انني موجود هنا من عدة ايام, ناولتها الصحف, ورددت قول السياب:
عيناك غابتا نخيل,.
لم تدعني اكمل، أتمت ابيات القصيدة, أدرت لها ظهري، وصوتها يلاحقني, تترنم بأبيات من شعر السياب,.
نمت بشكل عميق بعد رحلة علاج طويلة ومملة, ولدي برنامج مسائي منتظر, جهزت نفسي وتغديت, ومن ثم هرولت الى المنارة, وقد شاهدت في صالة الاستقبال رجالاً ونساء غير محجبات, وحمدت الله أنهم لن يكونوا كنساء الأمس في العراء, نائمات كاشفات لكل عابر, والبشر متوزعون اليوم في كل مكان حول الفندق والشلالات والمغارة وفي صالة الفندق, شيء غريب, وعرفت اننا في نهاية الأسبوع,.
ألقيت التحية على ناصر مسرعاً, فلم يعد لدي وقت كاف للبقاء في المغارة مدة طويلة, استقر بي الحال بجانب رجل ملتح, التزمت الصمت، لئلا يطلب مني بدوره هذه المرة, فرك وركه أو ظهره او تنظيف ابطي أو اظافري المليئة بالطين الأسود, وكان يلبس سروالاً طويلاً.
فجأة أطل ناصر بشنبه الضخم على غير العادة، ووقف بباب المغارة قائلاً:
- يارجال,, مالكم,, فيه امهاتكم، اخواتكم ينتظرن من نصف ساعة,, ماخلاص,,!!
لبست ملابسي على عجل وخرجت, أنقل خطواتي المتعبة, وهم الوصول الى الفندق مبكراً, لعلي ارتاح واحضر حفلة الليلة الغنائية, يقيمها الفندق لنزلائه مرة في نهاية كل أسبوع, لمدة ساعتين تستمر حتى العاشرة,.
في بوابة الفندق, ابلغت البواب يحيى المميز بلبسه البدوي, ودلال قهوته المرة, ليحجز لي مكاناً مناسبا في الحفلة, وليوقظني في الوقت المناسب, ووقفت انتظر المصعد مرهقاً يقترب مني الرجل الأمريكي العجوز، زوج السمكة البشرية, يمد لي يده بدون مقدمات:
- كيف الهمة,,؟!
- رددت بذهول وخوف وغرابة:
- عال العال,,؟!
ضغط كفي حتى شعرت ان اصابعي تكاد تلتصق ببعضها, من شدة الألم فانفضها امامه بدون خجل متأوهاً, ليطلق ضحكة مجلجلة, فقلت له بنفس روح المرح:
- وانت كيف الركب,,؟!
ضحك وقال:
- برضه عال العال,,!!
صعدت الى غرفتي , بادرت بنشر ملابسي المبتلة في بلكونة تطل على المسبح, مددت نظراتي لعلي اشاهد السمكة البشرية كالعادة, رأيتها تتلوى طولاً وعرضاً, أغلقت الستارة, وتمددت أكثر من نصف ساعة, وبي قلق وأكتئاب لم تبدده قراءة الصحف ومشاهدة الفضائيات,
بحثت عن نظارتي, قلبت كل شيء ولم اجدها.
ايقنت أنني فقدتها وحلفت في نفسي انها حلال, تدحرجت مرة اخرى الى المغارة, اذ مازال الوقت مخصصاً للنساء.
استقبلني ناصر مندهشاً بسبب عودتي:
- شو بيك يازلمة,, الليلة عندكم حفلة في الفندق,,!!
كان اليأس مسيطراً علي, ولوعة فقد نظارتي, وحاجتي الماسة لها في هذا المكان، تطغى على كل شيء, رددت عليه:
- ياناصر انت رجل نائم,, في الخامسة صباحاً, رميتك بحجر وكنت مازلت نائماً فوق سطح دكانك,, المهم فقد نظارتي,,؟!
- لاه,, لاه,,!!
وكنت منفعلاً جداً لحاجتي الماسة للنظارة وليأسي الذي صار يقيناً أنني لن اجدها, لم ادر لماذا قلت له:
- كلها مصائبك,, أخرجتنا من المغارة,, ويبدو أنني لحظتها نسيت النظارة هناك,,!!
فجاء الرد مواسياً وساخراً في آن:
- البقية في حياتك,.
اليوم نهاية الاسبوع, وربما يوجد في المغارة أكثر من ثلاثمائة امرأة, قلت له بحزم وأنا اشير لبنت صغيرة:
- اسمع ابعث البنت هذه,, لتبحث عنها,,!!
وامام دكان الصغير عجائز, أمامهن منقل فحم يحضرن عليه عشاءهن, كغيرهن من البشر الذين يتناثرون, في كل مكان من وادي ماعين , ولم ار ناصر الا مستضيفاً اصدقاءه واقرباءه, وربما كان هؤلاء العجائز من اقربائه, أهمل باب دكانه, فدخلت الدكان الذي أضع في ثلاجته عادة زجاجة مائي, لافرغ واحدة في حلقي, سمعته يشرح للبنت, ذات العشر سنوات:
- يابنية,, الأخ نسي نظارته عند باب المغارة,, روحي دوري عليها,, أسألي النسوان عنها,.
صاحت احدى العجائز اللاتي حول المنقل تشوي, وتدخن بشراهة:
- هيها,, هي النظارة,,!!
فصحت غير مصدق:
- معقول,, يا إلهي,,؟!
ردت المرأة ذات الخطوط السوداء في وجهها بهدوء:
- هيها,, هيها,, تعال تقهوى,,!!
شجعني ناصر قائلا:
- هي خالتي,, روح تعلل معهم وخذ نظارتك,, اقتربت من ام نائف , وهي تتكي على جدار واطىء, وتنفث دخان سجارتها بلذة, تناولني نظارتي, تمد لي فنجان قهوتها المرة, أتناوله واطلب من ناصر يحضر لنا بشارة خمس زجاجات مرطبات لثلاث عجائز وبنتين, احداهما في السابعة عشر من العمر, رغم اعتراض ام نائف .
وقبل ان نفرغ من شرب المرطبات, كان الشباب الذين اتعامل معهم في مرافق الفندق كل يوم, قد فوجئوا بوجودي في هذا الوقت المخصص للنساء, التفوا حولي كأني شمشون , أخذ كل منهم كرسياً, وبدأوا حواراً حول الانتخابات البلدية والعولمة والاستثمار في ماعين بفكاهة,.
ارتفع صوت المؤذن في المسجد القريب للعشاء,أستأذنت لوحت للعجوز الأمينة ام نائف , اعتذرت لطلبها المشاركة في العشاء, ابديت لها رغبتي اني اريد العشاء في البيت,, واريد الزواج ايضاً.
رحبت بي, وكان الشباب يضحكون بعدما عرفوا القصة, صليت العشاء, وصعدت جبل ماعين اللعين, بخطوات مثقلة, وقد حان موعد الحفلة الغنائية, ويبدو ان رغبتي قلت في حضورها, اعداد هائلة من السيارات, اصوات عالية وصراخ في وادي ماعين , من داخل الفندق وخارجه قلت في نفسي: لماذا لا احضر,,؟! , اكتشفت ان اعداد البشر خارج الحفلة, أكبر مما بداخلها أضعافاً, لم يطل بي المقام, أصابني الصخب بالقرف وخرجت,, والناس هنا في الصالة وباحة الفندق, وفي الوادي, وتحت الشلالات وفي المغارة, نادراً تشاهد احدهم يلبس اكثر من شورت , وخصوصاً الرجال.
صعدت الى غرفتي في الحال, بي تعب واكتئاب يفوق الوصف, فقد تجاوز موعد ذهابي الى سريري للنوم, حاولت جاهداً أن انام، وكان واحداً من المستحيلات, أتقلب يميناً ويساراً, اضع مخدة فوق رأسي, اطفىء جميع الاضواء بما فيها ضوء التلفزيون, وقد اعتدت ابقاءه مفتوحاً, ليؤنس وحدتي.
اسدلت الستائر, اكتشفت ان الساعة قد تجاوزت منتصف الليل, ومرت اكثر من ثلاث ساعات, على موعد نومي ولا فائدة.
بي حالة قلق غير عادي, وقفت بالنافذة، أطل من بلكونة غرفتي في وادي ماعين , يا إلهي الحياة على غيرالعادة, صاخبة انوار ونار تنبعث من كل مكان, فهل تغيرت احوال المرضى هنا,؟! هل يخرج جن من عمق الوادي,,؟!
اسئلة عديدة لم اجد جواباً لها,.
استدركت بان الليلة جمعة, وتذكرت افواج السيارات القادمة من كل مكان, المليئة بالبشر, ولابد انهم يقيمون حفلاتهم نكاية بادارة الفندق، لغلاء اسعاره.
لبست لباسي الوحيد حتى الآن، وقد عصاني النوم وخرجت متدحرجاً الى عمق الوادي, كانت صالةالفندق منطفئة, وحلقات عديدة مضيئة خارجه, تنبعث منها اصوات مختلفة, كلهم يغنون ويرقصون ويدبكون ويعرضون,, وكل يغني ليلاه, واحترت الى اي مجموعة سأنتظم,,؟!
ولأن الفوضى بكل ماتعني الكلمة ادرت لهم ظهري جميعاً وعدت الى غرفتي, طلبت من المناوب تلك الليلة الا يوقظني كالعادة, في الخامسة صباحاً, ونمت نوماً عميقاً , صحوت منه في التاسعة, ولبست على عجل عدة غرفة التطين .
شاهدني ابوعبده وزم شفتيه:
- ذنبك على جنبك,, شو بدي اسوي ياعمي,,؟!
اخذت الصحيفة الوحيدة, انتظر دوري, العدد كبير, الى جواري ثلاثة شبان, جاءوا من القدس.
يشاكسون ليلى العراقية، مختصة علاج السيدات, يدعونها ام جاسم ويتبادلون نكاتاً مغرقة, ويهزؤون من صدام,, وما ان يضحكوا من نكتة حتى يصبح الآخر جاهزاً بنكتة اخرى, رأيت آخرين ينسحبون لئلا يشاركوهم الضحك, وقد حولوا صالة الانتظار الى فوضى, والغريب ان سكان القدس وبعض عرب الارض المحتلة، هم اكثر الناس صرفاً وبذخاً.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved