Sunday 15th August, 1999 G No. 9817جريدة الجزيرة الأحد 4 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9817


مساحات بيضاء
وبعده,, لمن تغني القبرات,,,! (1-2)
ريمة الخميس

قليلون منا هم الذين عاشوا - أو عاصروا على الاقل - فترة الستينيات من هذا القرن في زخمها الثقافي، خاصة في مصر، لكن تلك الفترة ايضا كانت قد تميزت ضمن ما تميزت به بوعيها الى اهمية التوثيق والتسجيل لنشاطها وفعاليتها، كأنما تدخر لمؤرخي الفكر والفن والادب وثائقها لتجنبهم مشقة التقصي ومغبة الخطأ,, من متابعة الصحافة الادبية التي شهدتها وانتجتها هذه الفترة، بوسع المرء ان يعيشها وان كانت قد تولت قبل مولده.
في تلك الفترة كان صلاح عبدالصبور قد خرج من معركته مع الرافضين لحركة الشعر الحديث وقصيدة التفعيلة بانتصار مظفر احال عبارة العقاد الشهيرة في تأشيرته على مجموعة شعرية لصلاح في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الى نكتة: تحال الى لجنة النثر للاختصاص ومنحته مجموعته الناس في بلادي ثم احلام الفارس القديم لقب فارس الشعر الحديث بجدارة,.
وفي تلك الفترة ايضا كان عبدالوهاب البياتي يصل ليله بنهاره في منفاه في مصر، كلاجئ سياسي، فوق كرسيه الذي سمي باسمه في احد مقاهي القاهرة، تتحلق حوله دائرة من الشبان والصعاليك، بعضهم تراوده نفسه على كتابة الشعر، وآخرون بدأوا خطوتهم الاولى وجاءوا يطلبون النصيحة من المخضرم، وثلة من الذين يدعون النضال، يرسمون على وجوههم تقاسيم العذاب والرفض دون ان يجدوا لانفسهم قضية محددة,, يبقى البياتي طوال الوقت صامتا لا يعقب الا بابتسامة ساخرة وبليغة، فاذا استفز اطلق رأيه الشهير,, هؤلاء لا يرجع الفضل فيما بلغوه الى تميز فيهم قدر ما يعود الى تخلف الزمن العربي ,, أمل دنقل ومحمد ابراهيم أبوسنة وبدر توفيق كانوا ناشئة الشعراء، وعشرات الاسماء سقطت سهوا بعودة البياتي الى بلاده, آنذاك لم يكن البياتي رمزا سياسيا بل فارس الشعر الأول القادم من ارض السياب ونازك الملائكة,.
وفي تلك الفترة ايضا كان احمد عبدالمعطي حجازي، بعد مجموعته (مدينة بلا قلب) يجد في اثبات جدارته باحتلال ثالثة الزوايا في مثلث فرسان الشعر مع البياتي وصلاح عبدالصبور.
اقتفى صلاح عبدالصبور اثر وليم بليك (وجهر بهذا الاقتفاء في كتابه عن تجربته الشعرية)، واستطاع ان يحقق تفرده الجميل بالسهل الممتنع، واقتفى حجازي انفاس صلاح عبدالصبور مجتهدا في تشكيل شخصية مستقلة، لكن الموسيقى عنده بقيت موسيقى صلاح، وظلت رؤاه الشعرية امينة لمصدرها من الاستاذ، وفي مقابل الاثنين وقف وحده عبدالوهاب البياتي، يتقدم خطوة ويشق طريقا مخالفا، يثري على دروبه الرؤية الشعريةبتكثيف الرمز والامعان في توظيف الاسطورة، التي لم يقصر مصادرها على ثقافة واحدة محددة، فتواترت عنده الاساطير البابلية والآشورية واليونانية وغيرها، وبقي صاحب صوت متفرد بهذا الاتجاه.
الاسطورة عند البياتي لا تكتفي بأن تتحول في القصيدة الى اشارة احالية، كرموز الاختزال، ولكنها تنتشر عصبا في القصيدة كلها، كأنما يعيد صياغة الاسطورة القديمة شعرا حديثا محملا باسقاطات عصرية، يسهل الامساك بها، وتصعب الادانة بسببها، ولهذا استطاع ان ينال من زمنه بالادانة كل ما اراد، وان ينجو من أقل اتهام، ولعل البياتي كان قد ادرك من الاساس، ان استخدام الاسطورة كإشارة تحيل القارئ الى تفاصيل الاسطورة محدثة ما شاء من تفجيرات مسألة تتطلب ان يكون ذلك القارئ على معرفة كمعرفة الشاعر بالاسطورة، وهو شرط تنفيه الحياة الثقافية العربية، ولهذا لجأ الى سرد الاسطورة شعراً.
وعندما تقدمت تجربة البياتي في استخدام الاسطورة، وحين عنّ له ان يكتب شعرا محررا من الاسطورة، سنرى ان القصيدة لديه قد تحولت، في الرؤية وفي البناء معا، الى اسطورة جديدة لعلها هي خلاصة المعطى النفسي لهذا العصر، الذي لم يعد قابلا للتصور او التصديق.
هل يمكن ان يكون السر كامنا هنا فيما بلغه البياتي من مكانة؟ محيي الدين صبحي يقول: لقد ساهم البياتي,, في شق درب لما يجب ان تكون عليه البلاغة العربية في مرحلة ما بعد حزيران، وبذلك زاد من مكانته كشاعر في مقدمة شعراء الطليعة العربية منذ أكثر من عشرين عاما وسعيد عقل يقول: ,, وعندما ينظم شعرا كلاسيكيا هو ذروة الشعر، وقد لا افضل عليه احدا ,, وفي الستينيات كتب بسام الطيبي: عبدالوهاب البياتي هذا الشاعر العظيم الذي اعده وبدون مواربة، اعظم شاعر أتى به الأدب العربي الحديث، فهو من الشعراء العرب القلائل الذين يحتوي شعرهم على العمق الفلسفي ولا يتصف بالرومانسية السطحية التي طغت وما زالت طاغية على الأدب العربي ,, كذا تعددت الاسباب في الامساك بأسرارتفوق البياتي على زمنه، لكن احدابعد لم يلامس في الحقيقة جوهرا، وعلينا ان نحاول من جديد.
في مجموعته الذي يأتي ولا يأتي يقول البياتي:
يأتي ولا يأتي، أراه مقبلا نحوي، ولا اراه
تشير لي يداه
من شاطئ الموت الذي يبدأ حيث تبدأ الحياة .
والاربعاء الماضي,, عبر شراع البياتي الاسطوري من شاطئ الموت الذي يبدأ حيث تبدأ الحياة، الى شاطئ الحياة الذي يبدأ حيث يبدأ الموت,, ندعو له بالرحمة والمغفرة، ونعد بتعقب رحلته من حضور في الحياة أماته خمول الذكر، الى غياب بالموت يعطيه الاهتمام معنى البقاء.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved