لأسباب تتعلق بشأن حول السليك بن السلكة الشاعر الصعلوك,, في كتابة مطولة، ارجأت وتباطأت، وتساءلت وناشدت الذين يقرؤون ويهتمون او يدرسون في الشعر الجاهلي عن هذا الاسم,, فلم أنل منهم ما يشفي بعض مطلبي,, قلت اسند القلم وأجيزه اجازة طويلة دون رضا,, الى ان اجد ما يؤهله من المعرفة لاستكمال مشواره في ذلك العمل.
كانت هذه الشخصية قد نالت الخليعة من قبيلته في الأزد ففدي به مع عدد من الرجال الى بني تميم في نجد، وقد رأيت في كتابة ذلك العمل,, انه جدير بالتجوال من الجنوب الى الشمال، والوسط والغرب,, قلت: ليس لها إلا المسلمات لكنني قليل الزاد خالي الوفاض في المعرفة، وخالي الوفاض هذه بالغة التقليد زمانا ومكانا لكنها أبت -هنا- إلا ان تأخذ مكانها ولو من باب أثر القراءة في هذا الشأن حول الصعاليك وتاريخ أشعارهم واجوالهم,, غير ان الذي زادني معرفة ان الصعلكة أمر محمود على نقيض ما نفهمه اليوم، فقد كانوا يتميزون بصفات جسدية ومعنوية واخلاقية عالية في قيمهم المرتبطة بالإنسانية,, الى حد جعلني ليس متعاطفا فقط,, بل مناصرا ومؤيدا ، ففي زمن لم يكن فيه قانون ولا تشريع يحمي الضعيف والفقير، (بالمناسبة في القاموس كلمة الصعلكة تعني الفقر)، فإن الصعلوك كان يغير على ذوي الأموال والأنعام ممن لم ينل من خيرهم الآخرون,, فكانوا يأخذون منهم بالقوة والحيلة، ثم يقسمونها على المحتاجين في القبائل ولم يكن لديهم حساسية في تحديد القبيلة، أما هم فيأخذون نصيب الفرد,, بل ان أحدهم وهو سيد الصعاليك عروة بعد ان أغار مع جماعة له على إبل وجدوا معها امرأة,, جاء نصيبه بعد التقسيم على المرأة,, فجاء أحدهم وأعطاه بعيرا,,,, فما رضى عروة باعتبار نصيبه لم يقع على شيء يناله في بطنه,, وحين رأى عزم الرجل على التنازل عن نصيبه له,, أخذ البعير وأركب عليه المرأة ثم ساقها الى أهلها!
أظننا لن نجد مثل هذا اليوم، وبالطبع فإن الإبل يفاخر باقتنائها للسباق والتسلية، وربما للتعبير في ذائقة اللحم ان كان صغيرا، ولو كانت امرأة او طفلا او شيخا لما سلم من القصف الذي يمطر جهارا نهارا أمام كل العرب على الساكنين بيوتهم في جنوب لبنان, اما على صعيد الجوع والجوعى في حضارة اليوم,, فإن السوق الأوروبية المشتركة وهي أهون شرا من غيرها,, تعقد اجتماعا مندوبيا حول مصير الحليب المجفف الذي يدخل في عدم صلاحيته بعد وقت قصير,, فيرون انه يمكن الاستفادة منه باعادة في تراكيبه وتقديمه كعنصر غذائي بروتيني مفيد للبقر الحلوب، او تحويله مع بالغ الرعاية واللافتية الى أفريقيا,, حين رأى بعضهم انه ربما يزيد من التكلفة كغذاء مساند للبقر التي تعتمد على الغذاء الطبيعي فرأى ان يلقى به في البحر!
بالطبع لم يقدموه لجوعى التصحر مع قصيدة من الشعر والمفاخرة بالطريقة القديمة في العرب وإنما بمكاسب استراتيجية ومدهونة بالامتنان من الرأي العالمي.
وعلى أي شأن كان,, ومع الفوارق الزمنية والمكانية واختلاف المواصفات فإن الصعلكة اليوم وفي هذا الزمان الحضاري بعطاءاته ومعطياته اصبحت هي الاستراتيجية في اقتناص الفرص والتخطيط لها للنيل من الشعوب المغلوبة على أمرها اقتصاديا وسياسيا وحضوريا ولم تعد بقائمة على بطولات فردية، وبالطبع بعيدا عن الإنسانية، واذا ما قدم وزنا غذائيا ما,, فإن مقابله بصورة أو بأخرى عشرات وزنه مردودا أقلها الدماء البشرية، بل انهم قد لا يوزنونها بالدم,, لانه فقير، وما فائدة الدم في تضخيم قيمة اليورو أو الدولار .
لعل الصعلكة في زمانها العربي الجاهلي (وكان هناك صعاليك مخضرمون وايضا في الإسلام) ,, لعلهم في زمانهم الأول لم يكونوا ملزمين بتشريع ما يربطهم بالمجتمع لينال كل ذي حق حقه وأمنه,, بل كان الفقر والجوع هو الحكم، وهو الذي لا يقبل التفاوض ولا الهادنة او المصالحة، أو السلام أما السليك الذي سمي من أمه سلكة فكان أسود افريقيا مخلوعا عن قبيلته، لكنه بقي بنزعاته، وتراكماته وليس خليعا عن إنسانيته او قدراته البشرية، إلى حد أن معديكرب اليمني قال:لو لمت شر الأسودين يعني سليكا وعنترة العبسي.
***
ذهب الصعاليك وذهب زمانهم وماتت الفروسية وتحولت أحوال التاريخ وعلمائه وفلاسفته من ابن رشد الى هيجل الى المهاتما غاندي الذي حرر الهند بالفقر والحرمان وليس بالصعلكة او بالشعر والفلسفة، ولم يحمل في يده يوما سيفا مهندا ولا حتى سوطا او عصا او حتى ميدالية' مفاتيح وإنما بآليات أشد دفعا في البساطة والحاجة استطاع أن يخرج بريطانيا العظمى بعد ان حفرت لها جذورا في الهند استمرت قرنين,وجاء قوم تشردوا في الغابات تحت قصف الجو والبر والبحر في فيتنام التي لم نكن لنعرفها على الخارطة حيث كانت الأم تعد أفقر الوجبات طعاما واطفالها وهي تعلق بندقية على كتفها,, فعين تنام لتصحو أمة بكاملها.
***
إن الذي يتعرض في قراءته لتراث العرب,, لن يصدق أبدا انهم هم ذاتهم الذين تعرضوا لأحكام في التاريخ نهبتهم في الدم والكرامة ولوثت أنهارهم بأحبار كتبهم ومعارفهم، وبقوا زمانا لم ير فيه صعلوكا ولا حتى ديكا مراهقا يتعلم الصياح في الساحات، ليدل على ان مستعمرا ضخما مريضا يربض على اعناقهم من البحر الى البحر,, لقد تلذذوا بالنوم والفقر وقلة الكرامة الإنسانية فعادوا يتصعلكون على بعضهم في جزر يفصلها حدود تموت عندها الرقاب بقبلية غاية في التقدم والمعاصرة التكنولوجية المتطورة في السلاح,, بينما تفرض الشروط المهينة عليهم عبر الوسائط المباشرة باسم السلام، وتمتد اليد في الأرض والأرواح والثقافات علنا,ليس ثمة اليوم بطولات فردية وفروسيات جسدية، ولا اعتقد ان صعاليك أو فوارس الماضي سيعيدون لأية أمة مجدها الماضي,, بل ان العبرة من التاريخ المجيد بهيئة او بأخرى قد تفيد ذوي الألباب واذا للتاريخ أحوال ونكسات,, فهذا لا يعني البتة ان شمس الأمس هي ذاتها شمس اليوم، مع انها كما يقول العلماء في ذات المكان فإن الأمر يكون في معرفة الذات الأممي حيث تكون اليقظة عند معرفة اللحظة التي يدرك الحالم فيها انه يحلم، وبالله التوفيق.
عبدالعزيز مشري