Friday 13th August, 1999 G No. 9815جريدة الجزيرة الجمعة 2 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9815


شخصيات قلقة
فان جوخ 1853م- 1890م ,, الحياة لوحة نارية الألوان

في شهر يوليو رحل فان جوخ بعد حياة خاطفة كالومضة، عاش خلالها وهو يعاني سلسلة جبلية من الكوارث والهزائم النفسية، يتنقل من احباط إلى احباط حتى وصل إلى حافة الجنون,, إلى الرحيل في ربيع العمر!.
لقد كان فان جوخ رحّالة من نوع خاص,, يسافر من مدينة إلى مدينة، وينتقل من مهنة إلى مهنة أخرى، وفي كل مدينة زارها كانت له قصة حب جديدة ومأساة جديدة!! بدأ حياته بائعاً للوحات في محل جيوبيل بمدينة لاهاي ونظراً لكفاءته نقل إلى فرع المحل بلندن، وهناك كان فان جوخ ناجحاً لآخر مرة في حياته، يرتدي ثياباً أنيقة ويحيا حياة طيبة إلى أن تردى في حب أرسولا اللعوب ابنة صاحب البيت الذي كان يقطنه التي رفضت الزواج منه بسخرية بالغة وصدمته عاطفياً ليعيش لوثة عقلية، جعلت أصحاب المحل ينقلونه إلى فرع باريس، وبكل أسف عاودته الهلاوس الغريبة في عاصمة الفن والنور أيضاً، فكان يتكلم عن التجارة باعتبارها سرقة منظمة، ومرة أخرى يتشاجر مع الزبائن محدثي النعمة الأغبياء الذين يشترون أردأ اللوحات بأغلى الأثمان، وكانت النهاية المحتومة بطرده من فروع محل جيوبيل كلها، ليبدأ حياة التخبط في عدة أعمال: بائعاً للكتب، مدرساً للغات مقابل الأكل والمأوى، محصلاً للمصروفات المدرسية,, ثم الفشل التام في كل هذا، ولم تجد عائلته حلاً سوى أن ترسله إلى امستردام ليدرس اللاهوت ويصبح قسيساً مثل العديد من أفراد العائلة.
وفي تلك الفترة كان فان جوخ يتساءل: أيعني هذا انني عديم الجدوى؟
لقد كان يحس في قرارة نفسه إحساساً مزدوجاً بأنه من ناحية لم يخلق للدراسة المنظمة ومن ناحية أخرى ليس لديه الدافع لأن يصبح قسيساً يتشدق بالكلمات ويحيا حياة مترفة بعيدة عن آلام الفقراء الذين هم في أمس الحاجة إلى العزاء والمواساة,, وربما خفف من وطأة هذا الإحساس قول أحد الأساتذة له: المهم ان تعبر عن نفسك وأن تفعل ما تعتقد انه الصواب، اربح ضميرك ثم دع بعد ذلك الحكم على عملك لله تعالى .
وذات صباح باكر حمل فان جوخ امتعته ليعمل واعظاً في بلدة صغيرة ببلجيكا، وهناك لاحظ الجحيم الذي يعيش فيه أهل البلدة عمال المناجم ويتمثل هذا الجحيم في: انهيار الأرض، تسمم الهواء، انفجار الانابيب البالية، أمراض الصدر والرئة، بجانب ان الشركة الرأسمالية تبخسهم حقوقهم فلا يحصلون سوى على كوخ متهدم وطعام لا يكاد يقيم الأود، وقد حاول فان جوخ أن يحصل لهم على بعض الحقوق من الشركة كما استأجر على نفقته بيتاً يغمره الدفء والعديد من لوحات الفن، وجعل من هذا البيت منارة يهتدي اليها الجميع للتداوي والتعلم، وقد استمرت الحياة على هذه الوتيرة حتى حدثت كارثة انفجار أحد المناجم، وهرع الأهالي لانتشال الجثث وانقاذ الضحايا، وهمّ فان جوخ بحماس إلى مداواة المصابين ومواساة الثكالى حتى اضناه الهزال والحمى، وأضحت لحيته شعثاء قذرة، وفي غمرة هذا الأسى أقام صلاة على أرواح الضحايا، ووقف وقد لف جسده بالخيش، والعيون رغم المرض والجوع متعلقة بصمت شفتيه,, وجاء فجأة وفد من الكنيسة ورأى أن صلاة فان جوخ في أحد الأكواخ القذرة وبهذه الملابس الرثة خروجاً على تقاليد الكنيسة، ولم يعلق فان جوخ بكلمة واحدة بل راح يردد بينه وبين نفسه: ما من احد يفهمني,, الناس يظنوني مجنوناً لأنني اريد أن أكون مخلصاً في إيماني، وعندما اجتهد لأخفف من آلام الفقراء أطرد كالكلب بمقولة انني اثير المتاعب وألطخ الكنيسة بالعار!! لست أدري ما أنا فاعل؟
ورغم فصله من آخر مهنة مارسها إلا أنه حاول للمرة الأخيرة ان ينصف العمال المساكين من بطش الشركة لكنه فشل في ذلك امام تهديد رئيس الشركة باغلاق المنجم نهائياً,, لم يكن ما حدث مجرد فشل إنه إفلاس حقيقي,, وهزيمة عميقة الأثر لشاب لم يتجاوز السادسة والعشرين بعد، ولم تعد لديه الشجاعة لأن يبدأ من جديد، فراح يسير على غير هدى متعب الذهن خاوي المعدة، لا يعرف أين تمضي به قدماه، وليس أمامه سوى أن يتأمل حياة هؤلاء البؤساء ويرسمها بكل مافيها من اسى ومن آلام الفقر الكئيب.
وأخيراً رحل عن بلجيكا ولم يعد بامكانه أن يمارس عملاً مجدياً كسائر الناس,, ليس أمامه سوى أن يرسم ويرسم، ثم يعرض رسوماته على الفنانين الكبار، لكن -بكل اسف- صدمته في الفن لا تقل عن صدمته في الحياة ذاتها، فأحد الفنانين ويدعى انطون موف قال له: إن رسومك يافان جوخ رديئة !! واستمرت هذه النظرة التقليدية تطارده من الجميع ويتكرر نفس الكلام: إن رسوماتك يافان جوخ ليست جيدة على الاطلاق!
وكان الملاذ الأخير له ان يحتمي بقصة حب جديدة عسى ان يخفف عنه حنان المرأة قسوة الحياة، وكانت الحبيبة الجديدة إحدى بنات خاله، أرملة شقراء وزرقاء العينين، ولكن الخال وقف بصلابة ضد هذه الزيجة ولديه أسباب وجيهة، فرفض فان جوخ رغم توسلاته: اصغ اليّ ياخال، انني أحب ابنتك بجنون، إنك تعمل قسيساً، فبحق السموات والأرض اظهر لي قليلاً من الرحمة,, أنا أعرف انني لم اوفق في حياتي إلى الآن ولكن اعطني الفرصة، لقد تعذبت بما فيه الكفاية فدعني اجد السعادة ولو مرة واحدة! لكن الخال رفض ان يمنح الأرملة الشابة لشاب فاشل تماماً، يتسم بالضعف والتخاذل، فما كان من فان جوخ إلا أن نهض كي يريه انه ليس ضعيفاً,, ليس متخاذلاً,, وعلى الفور وضع راحة يده على لهب الشمعدان دون ان يرفعها,, وراحت النار تشوي لحمه دون ان تطرف عينه، وفغر الخال فمه مذعوراً ثم هجم على الشمعدان يطفئه: أنت يا مجنون,, اخرج من البيت فوراً.
وعلى طريقة: ان يداوي الحب الفاشل بحب جديد، دخل فان جوخ في عدة تجارب عاطفية بائسة، فانتشل غانية من إحدى حانات لاهاي كي تعيش معه في النور لكنه لم يستطع الانفاق عليها فسقطت منه مرة اخرى في مستنقع الرذيلة، ثم تعرف بعدها على امرأة في الأربعين تكبره بتسع سنوات وتقدم لخطبتها من امها ومن اخواتها العوانس لكنه فوجىء بالرفض لأنه فاشل وأيضاً سيئ السمعة ! وانتهت تلك القصة الغرامية بانتحار تلك المرأة في مرسمه، واشتعل حقد القرية ضد فان جوخ الذي انتحرت المرأة بسببه، فكان عليه أن يرحل من جديد.
ورحل فان جوخ إلى باريس، وهو يدرك أنه لم تعد له في الحياة سوى معركة وحيدة، هي معركته في اتون الفن، فكان لا يحجم عن الخروج في المطر والضباب والعواصف ويستغرق في رسم عشرات اللوحات آملاً أن تخرج اللوحة كالطبيعة تماماً,, نارية,, حيوية,, متشظية,, ممتلئة بحرارة العاطفة,, وفي باريس تعرف على الانطباعيين أمثال: مانيه ورينوار ولوتريك، وكان أخوه ثيو بائع اللوحات يتكفل بكل مصروفاته تقريباً ويعمل على بيع لوحاته، ولكن فان جوخ أحس بالسأم فجأة من كل هذا، وقال لأخيه: إنني لست رسام مدينة باثيو، بل انا رسام طبيعة واريد أن أعود إلى الحقول، أود أن أجد شمساً ملتهبة تحرق كل ما فيّ سوى الرغبة في الرسم، ورغم أن فان جوخ قد توفر له في كنف أخيه المأوى والمأكل إلا أنه آثر الرحيل من جديد، وكأنه أدمن أن تتعقد به الحياة، فعاد إلى بلدة آرل ليعيش بين أحضان الطبيعة، تحت الشمس المتوهجة بلا قبعة تحمي رأسه، يقذف الألوان على لوحاته بحماس واندفاع,, يرسم ويرسم وهو يعاني نوبات الهذيان والصرع، وتطارده فكرة الموت دائماً.
وكانت تلك الفترة هي بداية النهاية، فذات يوم زاره صديقه جوجان وراحا يعملان معاً بحماس ومرح، وفي لحظة طائشة تشاجر الصديقان العنيدان وحاول فان جوخ ان يطعن صديقه بالموسى لكنه ارتبك واستدار باكياً,, وفجأة بتر اذنه اليسرى وكاد ان يموت من فرط ما نزف من دماء لولا أن هرع به جوجان إلى أقرب مستشفى, وتنقل هذا البائس الكبير بين المستشفى والمرسم ومصحة الأمراض العقلية وكذلك الشوارع والمطاعم والمقاهي,, تنقل وحيداً عنيداً متوحشاً، يعاني الصرع والهياج, وما ان يدخل أحد المطاعم حتى يصيح: لقد وضعتم لي السم في الحساء، إنكم تريدون قتلي! والأطفال يتجولون وراء هذا المهزوم رث الثياب وهم يتصايحون: لقد جئناك ببعض الحساء يافان جوخ، ولكن حذار، إنه مسموم! واجتمع أهالي البلدة على ايداعه في زنزانة منعزلة فكانت تنتابه نوبة هياج وصراخ وغناء وضحك وهذيان بذكريات قديمة.
وجاءت الطامة الكبرى بوفاة سنده الكبير أخيه ثيو، ودخل فان جوخ إلى مصحة سان ريمي لينسج آخر الخيوط في قصته الحزينة، لقد عاش يعاني الخوف الدائم من شبح الموت الذي يطارده، يتعلق تعلقاً لاهثاً بالحياة من خلال ديمومة اللوحة وحيويتها، وعلى قدر اندفاعه برغبة دفينة تجاه الموت كانت لديه رغبة أعمق في الهروب,, في مقاومة الموت من خلال بث الحياة والحرارة والعاطفة في لوحاته الخالدة، إنه -ودون وعي منه- كان يرسم حياته كلها كلوحة فنية نارية تتعدد فيها الأماكن والوجوه وقصص الحب المريرة ولحظات الإلهام الخاطفة، وهاهو يقول في رسالة أخيرة إلى أخيه ثيو: إنني أعمل بسرعة ولكن هذ السرعة لا تعني السطحية، فإن العاطفة المتأججة وصدق الإحساس بالطبيعة هما اللذان يقودانني,, وإذا كانت أحاسيسي جد قوية الآن لدرجة أنني أعمل دون وعي، فإنني اضع نصب عيني انه قد تأتي في المستقبل ساعات طوال ثقال خالية من الإلهام ومن الانفعال بل ومن الإحساس بأي شيء على الإطلاق .
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved