Friday 13th August, 1999 G No. 9815جريدة الجزيرة الجمعة 2 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9815


من المكتبة
كبار الكتاب كيف يكتبون؟!
صفحات من مذكرات نجيب محفوظ (1 -3)

في سنوات الدراسة الابتدائية قرأت لكبار الادباء في ذلك الوقت وحاولت تقليد اساليبهم، حاولت تقليد اسلوب المنفلوطي في النظرات والعبرات ، وحاولت كتابة قصة حياتي على غرار الايام لطه حسين، واسميتها الاعوام ، وكان عام 1936 هو العام الفاصل في حياتي، فيه قررت احتراف كتابة القصة، بعد ان مررت بصراع نفسي رهيب في المفاضلة بين الفلسفة والادب، ولم احاول ان اشرك احدا في تفكيري او اطلعه على ما يعتمل في نفسي من صراع، حيث كنت قد كونت اساسا متينا في الدراسات الفلسفية, وصعوبة الطريق الذي اخترته تعود الى عدة اسباب، اهمها: ان الادب العربي كان يفتقر الى فن الرواية بشدة وكان التراث الروائي الموجود في ذلك الوقت محدودا للغاية والاعمال الموجودة قليلة، وهي اقرب الى فن السيرة الذاتية مثل عودة الروح لتوفيق الحكيم وزينب للدكتور محمد حسين هيكل والايام للدكتور طه حسين، كما ان هذا الطريق كان يقتضي مني قراءات واسعة في الادب العربي والعالمي على حد سواء.
في تلك الاثناء كان امامي طريق ممهد هو طريق الشعر، كنت احب الشعر، وكتبته وكان في امكاني الاستمرار خاصة ان الشعر له تراث عريق في الادب العربي، بل هو كما يقال - بصدق - ديوان العرب، والسبب الاساسي الذي جعلني اتراجع عن كتابة الشعر هو افتقادي لملكة الحفظ التي يقوم عليها الشعر.
كانت الرواية هي الفن الذي وجدت نفسي فيه وكانت اعمالي الاولى عبارة عن روايات تاريخية كتبتها تأثرا بقراءاتي في التاريخ الفرعوني القديم، خاصة اعمال رايدر هاجارد صاحب الرواية المعروفة هي او عائشة والذي حصل على لقب سير واعمال هوك كين الاديب الانجليزي الذي اشتهر بالكتابة عن التاريخ الفرعوني ، وزار مصر واقيم له احتفال مشهور في دار الاوبرا، وكتب احمد شوقي قصيدة له احتفاء به, هذا بالاضافة الى سلسلة الروايات التاريخية المعروفة لجورجي زيدان ، والتي اوحت اليّ بكتابة تاريخ مصر كاملا من خلال الاعمال الروائية، وهو المشروع الذي توقف ولم يتم.
عندما بدأت قراءاتي تتسع وتتعمق خاصة في الادب الحديث قل حماسي للكتابة التاريخية، بل مات الحماس في داخلي، بعد ان ادركت ان المسألة اخطر واعمق، وان الرواية يمكن ان يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع والتعبير عن هموم الناس ومشاكلهم, ومن هنا اتجهت الى الرواية الواقعية.
وفي تلك الفترة كنت اجلس في المقاهي، اتابع تفاصيل الحياة اليومية وحكايات الناس، لان الواقعية تقتضي الاهتمام بالتفاصيل مهما كانت صغيرة, واستغرقتني الواقعية فترة طويلة، حتى يوليو سنة 1952 فوجئت عندئذ بواقع جديد وقضايا جديدة ونوع جديد من التفكير طرأ على المجتمع، يختلف عما كان سائدا من قبل, هذه التغيرات ادخلتني في حالة من التأمل والتفكير استمرت خمس سنوات، لم اكتب خلالها اي عمل ادبي.
والحقيقة ان المذاهب الادبية لا تجذبني لذاتها، ويظل المذهب الفني بالنسبة لي مجرد اداة وليس هدفا في ذاته, مثلما حدث مع توفيق الحكيم، ففي اوقات كثيرة كان الحكيم يتجاوب مع المذاهب الفنية لذاتها.
ازدهر تيار اللامعقول في اوروبا ومصر كتب يا طالع الشجرة ، وفي مرحلة ازدهار الدعوة للفرعونية كتب ايزيس ولما بدأت الفكرة الاسلامية تظهر وتؤثر كتب عددا من الاعمال في هذا المجال، منها كتابه المعروف محمد وفي كل مرحلة من هذه المراحل كان التيار النقدي السائد متجاوبا مع المذهب الادبي الذي يميل اليه, وان كنت اعتقد ان الحكيم كان لديه احساس داخلي - وهو فيه على حق - بانه رائد ومن واجبه ان يعطي نماذج للاجيال الادبية الناشئة عن كل مذهب ادبي جديد يظهر في الاداب العالمية.
واذا كانت المذاهب الادبية لم تستهوني لذاتها، الا انني كنت اتابعها متابعة جيدة وانظر اليها بعين الناقد، وبعض هذه المذاهب رفضته رفضا تاما، خاصة تيار اللارواية، ولقد قرأت ما كتبه رموز هذا التيار مثل آلان روب جريبة وناتالي ساروت في فرنسا، كنت اجد صعوبة كبيرة في فهم ما يقصدون، وعرضت على بعض النقاد المؤيدين لهذا التيار ان نجلس معا لتقرأ اي عمل ينتمي لهذا التيار، وقلت لهم انني على استعداد لتسديد خمسة جنيهات عن كل ساعة قراءة، وكان لديّ النية للدفع ولم اكن ارغب من وراء فهم هذا التيار ان اقوم بتقليده او الاستفادة منه، بقدر ما كنت ابغى الاستمتاع الفني لذاته, ومع ذلك هرب هؤلاء النقاد مني وحاولت ان اقرأ بنفسي الكتابات النقدية عن يتار اللارواية، فلم تزدني الا غموضا, وهذا الموضوع يقودني الى مناقشة نقطة هامة, حيث ينادي بعض النقاد بضرورة ان يكون الادب به بعض الغموض, وانا لا اعترض على هذه الافكار، لان الادب الواضح المباشر الذي يعطي القارىء كل شيء بطريقة بسيطة ومباشرة، يعطل ملكة الخيال لدى القارىء، ولا يمنحه الفرصة للتفكير والتحليل, والادب بطبيعته رمزي، حتى الواقعي منه يجب ان يتصف بمستوى من الرمزية والغموض، وبشرط الا يصل لحد الابهام والتعتيم وارهاق ذهن القارىء وحتى الشعر العربي القديم رغم واقعيته وبساطته، كان يتضمن هذا المستوى المقبول من الرمز.
وفي الروايات الواقعية نفسها تجد مستوى من الغموض, صحيح انها لا تتيح لمؤلفها الاغراق في الغموض, ولكنها تمنحه منطقة لا بأس بها, ففي رواية زقاق المدق توقف النقاد عند شخصية حميدة منهم من اعتبرها شخصية انسانية حية تجسد شخصية الفتاة في الحارة الشعبية، ومنهم من اعتبرها معادلا موضوعيا لاحوال مصر في تلك الفترة، على اساس ان ظروف حميدة تتشابه مع الظروف التي كانت تمر بها مصر، فهي جميلة ومغرية ومطمع للكثيرين، فهذا يحاول تضليلها عن طريق السياسة، وهذا عن طريق الحب,, وهكذا.
ومع المتاعب التي واجهتها في محاولة فهم اللارواية، فانني لم اجد نفس الصعوبة في فهم المدرسة التعبيرية وقرأت اعمال كافكا وغيره من رواد هذه المدرسة، ووجدت فيها عالما موازيا للواقع ، بل اشد واقعية, لقد قرأت لكافكا عملا جميلا، هو رواية المحاكمة ، حول شخص يجد نفسه متهما في جريمة ولا يعرف تهمته او الذنب الذي ارتكبه، حتى يبدو للقارىء ان الحكاية اقرب الى النكتة مع انها منطقية جدا.
ورواية كافكا مصير صرصار تدور حول شخص يستيقظ في الصباح فيجد نفسه وقد تحول الى صرصار, رواية جميلة ومفهومة وتعبر عن حالة الانسحاق التي يتعرض لها الانسان في العصر المادي اما اعمال صمويل بيكت الروائية فلم افهم منها شيئا، اجواء غريبة واحداث غير مبررة وشخصيات مجنونة ورؤية عبثية للعالم, اين هذا العبث من بعض اعمال بيكت المسرحية الجميلة مثل لعبة النهاية وفي انتظار جودو وغيرها من الاعمال التي تتميز بجمال في الاسلوب والايحاءات والسرد؛ وقد كان لهذه الاعمال المسرحية تأثيرها على بعض الادباء العرب مثل ادوار الخراط في حيطان عالية حيث يتأثر الخراط باعمال بيكت، وقد قرأت حيطان عالية واعجبتني كثيرا.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved