مدخل:
ظاهرة اجتماعية تتقلب، فتخف تارة حتى نقول: مالها زالت!، وتتجدد تارة حتى نقول: مالها عادت!.
عناصرها: الشباب والفراغ والجدة، وثمة عنصر رابع لم يره ابو العتاهية هو الدش!.
مكانها: في اطراف البلد، في اماكن يسميها الناس المقاهي ، يقال انها اختصار لمصطلح القهقهة الاجتماعية في زمن البكاء! .
اتفق الناس على وصفها:
بأنها ظاهرة اجتماعية مقلقة للجميع، لايحق للعقلاء، السكوت عنها، يتم فيها التدمير البطيء للشباب ، وتفريغهم من كل ذي قيمة ، في جيوب تتضح فيها معالم التخلف الاجتماعي ، في بعد عن الرقيب الغائب اصلاً ، وفي تطلع بالابصار- لابالبصيرة!- على سوءات ثقافية وسلوكية، هابطة من الفضاء، قادرة على مسخ العقول الى عجول، والاذهان الى اردان، والدين الى ذكريات باهتة من احاديث الجدة!!.
وهي مدرسة متكاملة لاينقصها المدير، تعلم الرذيل من الخلق، والساقط من الطباع، والبذيء من الكلام، والفاحش من كل سلوك، ويتعلم الشباب فيها ان الوقت لاقيمة له ولا اعتبار، ومن هوانه وخسته يخنقونه بالدخان ، ويبيعونه بأبخس الاثمان.
وتكلم الناس وقالوا: لابد من حل لهذا الخلل الاجتماعي.
لكن المتكلمين فيها (وليس كلهم خبراء!)عادوا فانقسموا طوائف:
فطائفة تقول:
دعوهم!، لاتزرموهم!.
فأين يذهب الشباب؟، لابد لهم من الترفيه، والترويح عن النفس، وتعليل الخاطر المكدّر، واذا حبسناهم عن كل ذلك، وقعوا فيما هو اعظم وانكى.
والمقاهي مكشوفة مرئية، نعرفها ونراها، فإذا اغلقناها تسلل الشبيبة الى بؤر خفية مخفية، لاندري اين تكون، وماذا فيها يكون!, ولأن يقع الشباب فيما لايحب بعضنا لهم الوقوع فيه، وهم تحت النظر، احب الينا من ان يقعوا في اشياء أعظم في الخفاء، والفساد في الخفاء أدهى وأمر!!.
وطائفة تقول:
لاها الله!!
كيف يُسكت عن هذا العوار في بلاد اهل الملة؟!، أنرضى للحمة المجتمع ان تحترق بين انظارنا، ونحن نرقب ونتأمل!!, لو شبت النار في علف بهائمنا لطرنا سراعاً نطفئها، أفيكون شبابنا اهون علينا من علف بهيمة!!.
ليس للورم اذا ظهرت في الجسم بواديه الا البتر، وإلا استشرى وتمكن، وحينذاك لا ينفع طب طبيب، ولا حكمة حكيم, ولايقبل من عاقل ان يرى اللص يسرق داره، فيقول:دعه حتى يفرغ!، ثم اناقشه واحادثه علّه يرجع لي متاعي!!, لان اللص سيعود من الغد يطلب شيئاً اغلى من المال وأثمن، افتتركه حتى يفرغ ، لتناقشه وتحادثه، علّه,, علّه ماذا!؟.
وهذا اسلوب الامهات في التعامل مع الاولاد، بما فيه من تغليب العاطفة الآنية، والرأفة والشفقة الحالية، دون نظر الى عواقب الامور, اما الاب بما فيه من حزم وبعد نظر، فانه قد يمنع ابنه مما يحبه، طلباً لسلامته وحرصاً على مستقبل ايامه.
وزعمهم ان الدعوة الى اغلاق المقاهي او الحد من ارتيادها، سيؤدي الى انتشار الفساد في الخفاء، فهو زعم طالما تردد، وهو مخالف للشريعة والواقع.
أما مخالفته للشريعة:
فإن للشريعة مبدأ معروفاً (عند العلماء طبعاً!) في مقاومة المنكر العلني، ولها نظريتها الخاصة بذلك، التي خلاصتها: ان من الخير للمجتمع الا تكون ابواب الفساد مشرعة مفتوحة لكل وارد وصادر، يراها من لم يفكر فيها اصلاً، فيدعوه انفتاح الابواب الى الولوج!، والى مابعد الولوج!, وهو لو اغلقت الابواب لم يفكر ولم يلج, وقد قال الاول:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن
ولاموا البزاة اذ اطلقوا لهن الرسن
لو ارادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن!
وأما مخالفته للواقع:
فإن غالب رواد المقاهي من الشباب الصغير، الذي حَبّب له ارتيادة هاتيك الجبوب: مجانية الدخول، ورخص براد الشاهي!!، ولو قلت له: اذهب الى الاستراحات، لقال: بابا لايعطيني قيمة القَطة !!, ثم ان بعض مرتادي المقاهي هم من المتزوجين، الذي اذا اغلق المقهى في وجهه، رجع إلى زوجه المسكينة الساهرة، وولده الذي ينام بلا اب!, وحتى لو تجمعوا في الاحياء، فهم اقرب الى انظارنا، وابعد عن البلاء المشفّر وغير المشفّر!
قال كاتب هذه السطور:
وقد تأملت في اقاويل الفريقين، وحجج المتخاصمين، فرأيت هذه الظاهرة، مثالاً جيداً لمعرفة اساليبنا في معالجة الظواهر الاجتماعية المقلقة, اذ يظهر بجلاء اننا امام فريقين، كل فريق يصدر من غير حوض صاحبه.
فريق يغلب العاطفة اللحظية، ويرضى بالفساد العلني، خوفاً من انتشار الفساد في السر.
وفريق ينظر للعواقب البعيدة، ولايرضى بفساد معلن مهما كان!، ولايقبل ان قفل ابواب الفساد، يفتحها في الخفاء ، لما ذكروا من التعليل.
قلت: وبتأييد الفريق الثاني صدر قرار رسمي، يخفف من سوءة هذه المقاهي، لكنه إلى الآن لم يطبق, وهو بكل حال اقرب الى اصول الشريعة، وأليق بفعل العقلاء، فأنا أؤمن به، وادعو الى الاسراع في تطبيقه.
والله الموفق لكل خير.
د,خالد بن حمد الجابر
مستشفى الملك فهد- الرياض