* وقد تراجعت المشاعر وخمدت الأحاسيس وتخلفت العواطف عن الركب المتهافت على الغوص في المستنقعات، وكشف العورات وتطوير المتدني من النوازع,, في مرحلة تتفاخر بالخروج عن المألوف، والاصطدام بالواقع الذي ينحاز للاصالة والنيل والطهر والانسانية.
* وقد تسلح الشعر بالغموض الملغز، وجنح الشعراء الى تشويه الجمال بالسقاط من التعبير وتضفير المنظوم مع المنثور، والفصحي بالعامة في خيط واحد مما افسد النسيج.
* وقد تم ذلك رغم مرور اكثر من نصف قرن على حركة التجديد التي ارهقت القارىء والناقد والشاعر على السواء.
* تكون الفرحة غامرة والسعادة مزدوجة بشاعر ينجو من آفة التجديد المفتعل والتي اصابت جيله في مقتل، وباعدت بينه وبين سجيته التي لو تركت لها الحرية في طرح ثمارها الطبيعية لجددت، وجودت وطورت من عطائها الذي لا يتوقف ابداً.
* تدفقت هذه الكلمات على السطور بتلقائية، ودون تعمد وانا أطالع الديوان الجديد ثورة الصمت للشاعر عاطف الحداد المذيع باذاعة الاسكندرية,, ذلك ان قصائد الديوان جميعها عمودية الشكل، وان كانت جديدة المحتوى والصياغة بانقسام الخواطر، وتعدد الاغراض والقوافي في المقطوعة الواحدة والتكثيف الشديد وعدم الاطالة والاعتماد على البحور الصافية والقصيرة دون المساس بعمود الشعر القائم على ركائز التراث التليد.
* الديوان في مجمله نفثات عاشق ومواجيد محب تداعت على السطور ناصعة البياض، مترابطة الاوصال نقية التعابير يتحقق ذلك منذ البداية في مقطوعته الاولى (ليتني) ثلاثة ابيات يقول الشاعر:
رغم ان الليل قد شُلت يداه رغم ان الفجر قد لاحت خطاه رغم ان الطير يشدو في سمائي لا يزال الحب حلماً لا اراه,. |
* وكما نرى,, يتورد الحب في حقول الحرمان ويتسامى التعبير عنه لدى الشاعر المحروم، مما يؤكد التحام الشعراء بالمأساة اضعاف التحامهم مع الملهاة، وهذه زفرات الشاعر الصادقة في حبه المتشظي الماً لغياب الحلم الذي يهدهد مشاعر المحروم,, ينمو هذا المعنى خلال قصائد الديوان بعامة حتى يصل القمة في قصيدته (تعالَي) التي يقول فيها:
تقولين انك احببتني وحبي يفتح فيك المنى فكيف اذا غيرتك الليالي فبعت زمان الصفا هينا؟ الم تدكري ليلة قلت فيها سنفنى,, ونحن على عهدنا تعالي نعيد النهار الموشى ونهزم ليلاً,, ألمّ بنا |
* وهكذا نجد ان رحلة الحب في الديوان ليست قصيدة,, فقد شملت العاطفة المتأججة كل قصيدة ومقطوعة مما يطول القول فيه اذا اخدنا نتعقبها ببعض التحليل,, لكننا نكتفي بما تقدم لنخلص الى غرض آخر من اغراض الديوان.
* ويبرز الجانب الوطني بصورة ملفتة للنظر لما فيه من الجدة والطرافة وبعد النظر,, يقول الشاعر في قصيدته (اسرار المدينة الفاضلة):
فأين انا,, ومن حولي ترى هل صادروا الصحراء؟ وهل عادوا بأغلالي بدنيا الزيف والخيلاء |
ليختتم القصيدة بهذا البيت المعبر بصدق عن واقعنا المتردي,, يقول:
ونحن وان حملنا السيف لكن,, جلنا جبناء |
* ويلح عليه هذا المعنى فيعود اليه بالتعبير المباشر تارة وبالرمز والحوار المتخيل تارات لينتهي الى نفس النتيجة لنقف ملياً امام اسلاميات الشاعر وترحيبه بالمناسبات الدينية كالهجرة والحج وما الى ذلك مما يعايشه الشاعر المسلم من قضايا وما ينضح به تدينه حتى وان لم يتناول مناسبة بعينها,, يستهل قصيدته (نجم يحكي) بهذه الروعة:
تألق في السما نجم وصلى على من جاء بالاسلام فينا |
ثم يستعرض الدعوة الالهية ويستعرض ما تحمله الداعي في سبيلها مما هو معلوم للخاصة والعامة الى ان يقول:
فيا نجم السما بلغ سلاما لخاتم من أتى من مرسلينا واقرئه التحية في حياء ترددها قلوب المخلصينا |
* وهكذا يخلع الشاعر الارضي احاسيسه على الملأ العلوي في رجاء ضارع الى نجم السماء ليحل السلام الى خير من انجبت الأرض وكنما استكثر على هذه الارض ان تحمل التحية - سامية - الى من حمل الأمانة السامية املا في انقاذ البشرية من الضلال.
* كل هذا في لغة رقيقة عذبة استمدها الشاعر من رقة الموضوع مما جعل الألفظ تنتظم عقداً من النضار,, اضاف الى المعاني ابعاداً جديدة تكشف عن حب الشاعر وايمانه الذي يبرز جلياً حين يشخص الى (كعبة القاصدين) يجتاحه الاكبار وتستجير رؤاه برب الكعبة حين حمل خطاياه طمعاً في عفو الله,, يقول الشاعر:
اتيت اصلي واغسل قلبا تعذب من طول هذا المسير وما جئت اسأل عما سأجني وما جئت اسأل كيف المصير ولكنني يا الهي اتيت حماك,, وانت العفو القدير |
* هكدا دائما يكون الأتقياء الأنقياء في مواجهة المبدع الأسمى يتأكد ذلك جلياً في قصيدته (نعم البشارة) التي اندفعت على السطور,, دون تعمد,, يقول الشاعر:
نعم البشارة,, قالت الأنباء ولد الذي زانت به الأسماء |
والقصيدة رحبة تصور فرحة الميلاد وما رافقه من معجزات وقعت على الارض وكيف استقبلته الدنيا:
عزت بك الدنيا,, وطاب نسيمها وعلى هناك تعاقب الخلفاء وبنيت بالقرآن امتك التي يزهو بمجد لوائها العظماء حتى غدت بين الممالك زهرة يشدو بحسن بهائها الشعراء |
* والقصيدة من اطول قصائد الديوان تعبر كل جزئياتها عن حب جارف لمن حمل لواء الدعوة صابراً محتسباً.
* من هنا تزدوج الفرحة بهذا الشاعر وبكل شاعر يتطور بتلقائية مستفيداً من آليات التحديث التي طرأت على المسيرة الشعرية دون ان ينحرف الى ما انحرف اليه سواه,, من حداثة تائهة تعمد الى التغريب والغموض المفتعل والناجم عن عدم القدرة على التوصيل وحشو الابداع بآلأعيب شكلية، وصور بهلوانية وصولا الى ما يسمى بالحساسية الجديدة وما نجم عنها من تخل عن الاشباع والامتاع الأمر الذي انتهى بها الى هذا النتاج الأجوف الذي لا يبقى على السطح منه شيء,, اذ شرع الزمن في غربلة ابداع هذه المرحلة.
* وهكذا يؤكد الشاعر الاستاذ عاطف الحداد في هذا الديوان (ثورة الصمت) على اصالة موهبته واصالة توجهه الفكري,, في الوقت الذي هجر الجيل الذي ينتمي اليه - الشكل العمودي والبيتي - وهذا ما يؤكد الشاعر احمد مبارك في كلمته على غلاف الديوان الأخير والتي جاءت تعبيرا اميناً عن الشاعر وعن دار الوفاء للنشر بالاسكندرية التي اصدرت هذا الديوان الجميل.
يسن قطب الفيل
عضو مؤسس باتحاد كتاب مصر وحائز
على جائزة البابطين في الشعر 1991