(وقالت: بدأ الموت بهذا العالم يفقد معناه - فمي ياقوت نهار الاسطورة فوق فم الليل - ونجم القطب على نافذة البحر يضيء - وأنت بعيد عني - وأنا في الحلم أراك على ارصفة المدن البيضاء تسير وحيداً - وتموت وحيداً في الغربة والمنفى,,) قصيدة الاقمار السبعة/ المجموعة الكاملة للشاعر.
لا أعرف شاعراً حرث بشعره الموت وجالسه مثلما فعل البياتي, فالموت كان مفردة فاتنة أغوت الكهل ابا علي كثيراً باصطفائها وحملها معه في منافيه وقصائده كشيء اثير لا يملك القارئ إلا ان يتوقف عنده كموضوعة شعرية اساس في حياة الشاعر وشعره.
رثى البياتي عشرات الاحبة والمناضلين والشعراء عبر ارثه الشعري الضخم لعل من آخرهم الشاعرين الكبيرين الجواهري وبلند الحيدري، وظلت رائحة الموت ملازمة لاهاب قصيدته حتى آخر لحظات الكتابة، بل ان آخر ما قرأت شخصيا للبياتي كان مجموعته (البحر بعيد,, أسمعه يتنهد) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1998م والتي تصدرتها قصيدة (شهوة الحياة):
(متُ من الحياة
لكنني/ مازلت طفلا جائعا/ يبكي/ كدودة تقرض تفاحة كان هو الموت) ص5.
وهي ذات الثيمة التي اعتنقها البياتي طوال حياته وشعره وأكدها في حواراته أيضا اينما كان يُسأل عن الموت، ففي قصيدة له بعنوان (الشاعر والقصيدة) يقول:
(ستون عاماً عمر موتي
هكذا مت من الحياة
ولم أزل أموت
لم يبق سوى / ضياء هذي الشعلة الزرقاء), كتاب المراثي, ط1 - 1995م.
هذه الثيمة البياتية تلح على أننا (نموت من الحياة ولا نموت من الموت) (*) بمعنى ان العمر المنقضي هو عمر الموت أما عمر الحياة الحقيقي فهو يتصاعد من شعلة الخلود الزرقاء/ القصيدة والذي يظل سارق النار/ الشاعر مطارداً بخطيئتها طوال حياته حتى يموت والقصيدة بعده (في معراجها) كما يقول البياتي.
أما الظل الآخر لهذه الثيمة فيقترح صيرورة ودينامية مستمرة للموت وهو بهذا المعنى يولد مع الشاعر تماما لحظة خروجه إلى الحياة ويلازمه، فهو عملية مستمرة شعريا تمارسها الحياة بمضايقاتها وحصاراتها ومنافيها وتصفيتها للملاذ والحب والحنين، لذا يموت الشاعر طويلا من الممارسات الموتية التي تقترفها حياته قبل ان ينعى للناس بشكل رسمي.
***
الامر المقلق حقا في وفاة البياتي رحمه الله هو مراكمته لوفاة عدد كبير من الرواد والمبدعين في وقت قصير قبل انصرام الألفية الثانية مما لا يتيح حتى وقتا للتأمل, فهل حقاً بدأ الموت بهذا العالم يفقد معناه؟؟
(*) العبارة أساسا للشاعر أكتافيو باث.