Sunday 8th August, 1999 G No. 9810جريدة الجزيرة الأحد 26 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9810


البياتي يعزف لحن الخلود
حمد العسعوس

- الموت,, قصيدة الشعراء الأخيرة.
- في ذاكرة الشاعر تغفو القصيدة الحلم.
- القصيدة التي تعجز أدواتنا عن كتابتها.
- القصيدة التي تدغدغ أحلام الشعراء الذين يبحثون عن التميز.
- القصيدة التي تظل مدى الحياة تلوح بالوعد الجميل الذي لا يتحقق إلا عند اعلان موت الشاعر,,!
***
- إنها قصيدة السراب الذي يلاحقه المبدعون في كل اتجاه.
- قصيدة الأمل البعيد الذي لايصل إليه مشوار الحياة القصير.
- حتى إذا داهم الموت شاعراً متميزاً,, كان بمثابة القصيدة الخاتمة.
***
- كم هو جميل موت الشعراء,, والمبدعين,,!
- إنه يفجر الحزن الذي يعد أقوى محركٍ لطاقات الابداع في دواخلنا,, كما يفجر شلالات الوفاء الحبيسة في الصدور.
- أرأيتم كيف تتداعى الكلمات,, والقصائد,, وحفلات التأبين؟!,, وكيف ينبجس الصدق في هذه الآليات والفعاليات على اثر رحيل الشاعر؟!
- أرأيتم كيف يرحل الشعراء واقفين كالاشجار,, ومتدفقين كالشلالات,, وملتهبين كالبراكين,, ومغردين كطيور الزينة؟!.
- هكذا رحل الشاعر البياتي,, وهكذا كان غيابه,, وهكذا شيَّعوه.
- لقد وجدوه جالسا على الكرسي,, مغمض العينين,, يلمُّ شتات المقطع الأخير من قصيدته الحلم,, القصيدة الخاتمة,, الموت الجميل,.
***
- لا تحزني - ياسناء - فالموت صديق الشعراء,, إنه يرفق بهم,, ويترك لهم الفرصة لكتابة قصائدهم الأخيرة,, ويخلِّد ذكراهم,, وعطاءاتهم إلى الابد.
- لا تحزني - يا سناء - فلقد كان شاعرك مشرداً,, ومنفياً,, ومطارداً.
- أما الآن فقد أنهى كل تلك العذابات,, وانتصر على تلك الاشباح,, وارتمى في احضان الراحة الابدية.
- فالموت قصيدة النصر التي يكتبها الشعراء في آخر مشوار الهزيمة.
- إنه قصيدة المنفى الاخير للشعراء الذين تنفيهم اوطانهم من دوائرها الضيقة إلى بوابات الابداع المشرعة,, وإلى ساحات النصر على الطغاة.
***
- عبدالوهاب البياتي لم يمت,, لكنه لملم اوراقه، وغادر هذا الزمن الرديء.
- إنه من فئة الطيور المهاجرة التي لا تكفُّ عن الغناء,, ولا تكفُّ عن الرحيل.
- لقد نفَّذ رحلته الاخيرة إلى دار الخلود,, ولن يواجه - بعد اليوم - حسَّاده,, والناقمين منه,, والحاقدين عليه.
- وهذا - في حد ذاته - حلم كل الغرباء الذين يرميهم القدر في اوساط المجتمعات المادية والفارغة التي لا تقدر قيمة الابداع والمبدعين.
- أولئك الذين صرخ احد أجدادهم بعدما اعيته الحيلة,, وأعجزته المحاولة في شفاء عالمه المتخلِّف الرخيص، قائلا:
فيا نفس جدي,, فالحياة رخيصة
ويا موت,, زُر,, إنَّ الزمان بخيلُ
- كما صرخ أحد معاصريهم بهذا الحداء الجميل:
وحيداً,, ستمضي
سينفض عنك الذين ارتموا
في بريق خطاك
سينفضُّ كلُّ الذين ارتووا
من صهيل خطاك
- وحيداً,, ستمضي
كأن لم تكن برقهم,.
كأن لم تُقسِّم - هنا - جبة القلب
ما بينهم,.
كأن لم تكن فيئهم - ذات عصفٍ -
سماك.
- وحيداً,, ستمضي
فادّخر ساعة للهبوب
وانتبذ ساعة للهلاك.
***
- أما نحن - يا عبدالوهاب,,!
فلن ننساك,, وسوف نتعلق بأهداب وصيتك الأخيرة,, وبأغصان قصيدتك الحلم حتى الرمق الاخير.
- لكي نحيا من جديد مثلما انت الآن,، ولكي ننتصر على اعدائنا,, وأحزاننا,, وعلى أنفسنا مثلما انتصرت,، ولكي نختم رحلة الشقاء,, والنفي,, والاغتراب مثلك.
- يا عبدالوهاب,,!
يقول جدُّك (دعبل الخزاعي):
يموت رديء الشعر من قبل اهله
وجيده يبقى,, وإن مات قائله
- إن كل الشعراء المتميزين ضد الكسر,, وضد الغناء,, وضد التغييب.
- فالموت - بالنسبة لهم - حياة,, وانتصار,, وخلود.
- ألم تر إلى الذين اعلنوا عن وجودهم المستديم، وحضورهم الفاعل مع كل الاجيال,, وفي كل البقاع والمناسبات، بمجرد اعلان موتهم,,؟!
- إنهم يعيشون بيننا، ويمارسون ابداعاتهم وتأثيرهم، رغم ان اجسادهم مغيبة في باطن الارض منذ آلاف السنين.
- أنت - يا عبدالوهاب - واحد من أولئك الذين ينتمون إلى هذه الفصيلة من البشر التي تولد,, وتحيا,, وتموت، وتبقى راسخة في اذهان الاجيال، وفي ذاكرة التاريخ.
- لقد كنت - طيلة السنوات التي امضيتها على هذا الكوكب - تنفخ من روحك في قصائدك,, وكتاباتك,, ومواقفك,, وتجاربك,, وانكساراتك,.
- حتى لم يبق من روحك بقية في جسدك,, وهكذا يغادر المتميزون,, الذين ينظرون إلى الحياة باعتبارها موتا بطيئا,, وينظرون إلى الموت باعتباره بوابة للخلود.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved