Sunday 8th August, 1999 G No. 9810جريدة الجزيرة الأحد 26 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9810


ارتحالات الجسد والروح 3-5
أحمد الدويحي

ظللت نصف ساعة مغموسا في طين البحر الميت, قرأت سوراً قرآنية, وأبيات شعر وغنيت, قبل أن يأتي (أبو عبده) ليأخذني إل حمام (جاكوزي) في أولى مراحل علاجي الطويل, وهنا استرحت بعد حرارة الطين, واسترخيت وأشعلت سيجارتي الأولى, أطل إلى بركة سباحة عامة, وكبيرة لغير المرضى, أتابع لعب فتاة وفتى, ذي عضلات بارزة, ظننت في البدء أنهما زوجان أوربيان, مأخوذان بمياه (ماعين), وكأن لا غيرهما في المسبح الممتلئ بالآخرين, وددت لو شاركتهما في هذا المسبح الكبير, لحبي أولاً للسباحة, ولأخرج من هذا القيد الذي فرضه علي طبيبي, طين وجاكوزي وحمام شمسي منفرد فوق السطح, أعرض فيه جسدي للشمس, طلبت فطوري وكتبي والصحيفة الوحيدة التي تصل إلى هنا, وعرضت جسدي للشمس, ومازالا يلعبان بدون ملل أو كلل.
وظللت أراقبهما, فصدفة جاء موقع غرفتي مباشرة فوق المسبح وهما يلعبان بذات الهمة والنشاط والحيوية والروح حتى آخر النهار.
وقبيل الغروب, أعددت نفسي للجولة الثانية من برنامج علاجي, بما فيها الدخول إلى غرفة (التطين), وقبلها الذهاب إلى المغارة, وستكون أولى الزيارات لها, فالوقت الآن مخصص للرجال، وسأؤجل (التطين) إلى ما بعد, حملت محارمي وهرولت عبر منحدر عميق, متوقعا بأنني سأجد (ناصر) في مدخل المغارة, يبيع الماء والمرطبات والبسكويت, ويحدد مواعيد الرجال والنساء, كما تبلغه بذلك إدارة الفندق, ولم يكن (ناصر) في مكانه بالأمس.
كانت إحدى الصبايا الثلاث, اللاتي طردنني أمس من تحت الشلال, تداعب طفل صغير في حضنها عند باب الدكان, القيت عليها السلام, وردت بحشمة وأدب, وبالتأكيد لم تكن لتنكر ملامحي, سألتها عن (ناصر), قدرت أنها في العشرين من العمر, في غاية الرقة والجمال, أبلغتني أن الوقت ما زال مبكرا, وأن الدور مازال ممتدا للنساء,,
توضأت ودخلت المسجد أصلي صلاة العصر متأخراً - فوجدت رجلين نائمين, وقبل ان أفرغ من صلاتي, وفي هذا المسجد الصغير رأيت أناسا يصلون بطرق متعددة ومختلفة.
وفرغت من تفقد مكتبة المسجد, وألقيت السلام على أحد الرجلين النائمين المسنين, دعاني للجلوس إليه، بدأ لي في العقد السابع, أكبر من شقيقه الآخر الذي ما زال نائماً, كانا معاً قد جاءا بسيارتهما من (الجوف), ليتعالجا من مرض (عرق النساء), والتداوي في مياه (ماعين) الحارة, أبديت له رغبتي ومن ثم الذهاب إلى مياه وطين (البحر الميت) للعلاج, فجأة ثار في وجهي بغضب:
- هؤلاء الذين ضلوا بطريقة خاطئة, لا أستطيع أن أغير منهم شيئا,, لكن أنت,,!!
أنتظرت متحفزا فقال, وكأن الشرار يتطاير من عينيه:
- لماذا تذهب لمكان نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تعرف أنه لأصحاب الأيك, قوم النبي لوط, إنه بحر نجس, إياك والذهاب إليه,,(!!).
أيقنت أن الزمن المخصص للنساء انتهى, أستأذنته وحملت فوطتي وخرجت من المسجد في طريق للمغارة, زحلقت قدمي في ماء حار, ويبدو أن حديث الشيخ قد سلب فكري ووقتي, وسبقني الناس إلى المغارة, حرضني أحدهم, وقد لاحظ خوفي وترددي, لعلي أتجرأ واقفز إلى الماء, داخل البركة المليئة بالبشر وفعلت.
كان الماء ساخناً, وكلما اقتربت من جدار الجبل اشتدت سخونة الماء، وهدأت اعصابي حتى تعبت, فزحفت على مرفقي وركبتي إلى داخل المغارة, وسط ينابيع على درجة عالية من الحرارة كغيري, ممن يودون الدخول, فوجئت بالرجل (الشيخ) قد سبقني إلى داخل المغارة, وقد انتظمت حوله جماعة من الرجال, جاءوا من كل مكان، أخذت مكاني بينهم وحينما لاحظني دعاني للجلوس إلى جواره, قال لي ويده على أعلى فخذه.
- هنا مكان الألم,,!!
مددت يدي, وفكرت في فرك وركه, للبحث عن مكان الألم, فتأوه بألم مشجعا إياي للاستمرار.
- عافاك الله وشافاك,, وجزاك خيراً,,!!
وإذ لابد من الاستمرار في دعك وركه, فيما الرجال المندسون في المغارة, يتبادلون الكلام, ومعهم (مريضي) الذي مازلت أدعك وركه بنشاط لا يخفت, كان إلى جوار رجل مسن, وإذا بمريضي (الشيخ) ينهره فجأة:
- يا أخي تأدب بأدب الإسلام,, قلم أظافرك انتف أبطك,,!!
فتر نشاطي في فرك ورك مريض (عرق النساء) زحفت على ركبتي ومرفقي في مياه الينبوع الحار, في طريق للخروج من المغارة, إذ مازال الكلام ممتدا بينهم, وجسدي يندي من كل شعره, أقفز كالملدوغ إلى الخارج, تسقط مني فردة حذائي, فقدت الصبر للبحث عنها, لاسقط مرة أخرى في بركة الماء الحار, وسط مجموعة كل منهم يحاول إغراق الآخر, يقترب مني الرجل الذي دفعني في البدء للنزول إلى الماء, يجاذبني أطراف الحديث, أعرف أنه مدرس, معه والده وابنه, أبلغه أنني فقدت فردة حذائي في المغارة, لم أفلح في الحصول عليها, وقد حل الظلام, أرتدي إحرامي أهم بالمغادرة دون فردة حذائي المفقودة,.
فجأة ناداني المدرس:
- وين أتروح,, بدون (حفاية),,؟!
جاء ابنه, أشعلت له ولاعة, ليرى فردة حذائي المفقودة, وقد استقرت في مدخل المغارة, ولساني يلهث له بالتقدير.
أرفع رأسي, أتطلع بتعب ويأس إلى الاضاءات, تنبعث من غرف الفندق, كأنها نجوم بعيدة.
أويت إلى فراشي في التاسعة مساء, بعد أن قطعت مشوار الصعود من المغارة إلى الفندق, على ثلاث مراحل, فلدي غدا جولة جديدة من مراحل العلاج, تبدأ في الخامسة صباحا.
وطلبت بعد ان شاهدت جزءا من برنامج فضائي حرصت على مشاهدته, ايقاظي من مكتب الاستقبال في الخامسة صباحا، وخلدت في نوم عميق, بعد تعب نهار شاق, يبدو أنني سبحت أثناء النوم في أحلام عجيبة, إذ نهضت تراكمات طفولتي في قرية جنوبية نائية بكل تفاصيلها,.
رأيت نفسي فيما يرى النائم عارية, من كل هموم الدنيا الفانية, نسيت واقعي الوظيفي والعملي والعائلي والمرضي, نسيت الأولاد والزوجة الذين تركتهم في أجواء الرياض الأشد قسوة وحرارة, ليتدبر منهم من يريد أن يلتحق بالكليات والجامعات والمدارس أمره بطريقته, فواسطتي أضعف من معدل من لم يسمح له بذلك.
فركت عيني, رأيت عبر النافذة جبال (ماعين), دعوت لهم بالتوفيق, وضعت المخدة على رأسي وعدت للنوم والأحلام.
كان جرس الهاتف لي بالمرصاد في الخامسة صباحا, والظلام ما زال دامسا, لبست لزوم الرحلة وبي تردد بين أن أصلي هنا في غرفتي, أو أصلي في المسجد المجاور للمغارة, فقد أجد من يصلي معي.
هرولت خارجا من الفندق إلى عمق الوادي, فوجئت بعدد هائل من السيارات, قادمة من كل المدن العربية والقرى, وبعدد هائل من الرجال والنساء والأطفال, ذكروني بأطفالي وعائلتي, وبغصة في الحلق, ذابت بعد مشاهدة بعضهم, نيام في أوضاع نقيصة ومزرية, يفترشون العراء إلى جوار بعضهم, وفضحت لي لوحات السيارات أماكن قدومها, بما فيهم والد الصبايا الثلاث, اللاتي طردنني في اليوم الأول, والعجوز الفلسطيني, الذي زجره (شيخي) ومريضي البارحة, بسبب عدم تنظيف أبطه وأظافره, هونت على نفسي بأن حر الرياض, أرحم لأطفالي من هذه الحالات المزرية, وكان (ناصر) في جدال عنيف مع ثلاثة شبان, اختلفوا فجأة (!!) بعد تحايا وقبلات, عرفت أنهم امتنعوا عن دفع قيمة دخول المغارة بما يعادل ربع دينار لكل فرد, مد أحدهم لناصر ذراعا موشوماً, وقد كتب عليه اسم فاطمة:
- يلعن أبو (جيم),, يا زلمة الأرض أرضنا,,!
رد ناصر بلطفٍ لاقناع الشاب المنفعل:
- هيوه,, هيوه,, الفرنسي (جيم) في الشباك يعد الداخلين إلى المغارة,.
القيت عليه تحية الصباح, ابتسم, فسألته:
- لماذا الانفعال مع صباح الله,, ليه مزعل الشباب,,؟!
جاء الجواب أشد غرابة وقسوة, وقد سمعت حوارهم:
- الشاب ما بدهم يدفعوا,, بيه صوديوم وكبريت وأملاح وكل أنواع المعادن والمياه, والشاطر يبيع لو ماء وطن,.
ضحكت ومرقت إلى داخل المغارة, دون إبراز بطاقتي الحمراء, فقد صار وجهي مألوفاً لكل عاملي مرافق الوادي,, ولناصر بالذات.
ويبدو أن الناس النيام جاءوا من مسقط ومن الرياض، والكويت, وعرب الأرض المحتلة, ومدن وقرى أخرى عربية, كلهم ينشدون التداوي والشفاء,.
لم أعرف أحداً من الوجوه الكثيرة في البركة والمغارة, والشمس الآن بدأت ترسل أشعتها إلى عمق وادي (ماعين) الصبي الذي سحبه والده، حينما غطست معهما في اليوم الأول، وكاد يعقدني، ويجعلني أعود من حيث أتيت، وحده كان وجهه مألوفا لي, وعدد كبير من الشباب, والأطفال والرجال المسنين، يملؤون ماء البركة، ويسدون مدخل المغارة, زحلقت قدمي في الماء الحار.
وجدت مكانا قصيا داخل المغارة, كان هناك حديث أشد سخونة بين رجل بدوي يتجسد في لكنته, وبين رجلين مسنين من عرب الأرض المحتلة.
اكتشفت وجود الرجل الذي أدخل الخجل والشك في قلبي, والد الصبي, يصوب نظراته الحارقة إلى جسدي, يا إلهي كل ما أدخل هذه المغارة, يأتي من يخرجني (!!) لم يطل مكوثي خرجت مسرعاً, فقد باتت نظرات هذا تؤلمني وتزعجني وتحرقني, وتزرع في هاجس التذمر والسفر.
لبست إحرامي ولم يعد بي رغبة الغطس والوقوف تحت الشلالات, وفي طريقي صاعدا إلى فندقي, كان (ناصر) يعب من أبريق الشاي الصباحي, ولم أتردد في مشاركته, ناولته سيجارة وأشعلت أخرى, قضيت وقتا غير قصير لعل ملابسي تجف, كدت أشكو له هم نظرات الرجل التي تلاحقني فخجلت, وعبرت له عن صعوبة الصعود, وقد بدأت الشمس تفرد حرارتها في الوادي على هؤلاء النائمين, فرد: هيك الشباب,, لو حكيت خليتك تتطلع واياهم,,!!
قلت تصرف وأنا أناوله فنجان الشاي:
- ياالله,, رياضة وتخسيس,,!!
مضيت أنقل خطواتي المتعبة,, وأنفاسي اللاهثة بالكاد وصلت, اتجهت فورا إلى المصعد المؤدي إلى غرفتي, سمعت صوتا ينادي:
يا حاجي,, يا حاجي,,!!
التفت فإذا ذات الرجل, صاحب النظرات المريبة يتجه نحوي مقبلا, وطنت نفسي على معركة معه, وقد اعتراني الغضب, على أن أضغط على أعصابي لئلا أمسك بخناقه, بت لا أدري كيف أتصرف, وعلى بعد خطوات مني, تأكدت أنني المعني, وقد لففت جسدي بفوطة واحرامات فإذا به يبادرني:
- أنا كلمت الحاجة عن حالتك,, وقالت إن علاجك في مارمية محروقة, وشجرة الهوى, وشمع العسل وزيت زيتون نقي,, أخلطها وأدهن بها جسدك,,!!
سألت وقد فاجأني حديثه:
- كيف,, كيف,,؟!
صرخ في وجهي:
أنت ما بتفهم,, ها أني أقول لك مرة ثانية,؟
وصل المصعد, صافحته واندفعت بجسدي وذهبت, لأصلي وأتناول فطوري, واستعد لغرفة (التطين) وليقضي الله أمراً كان مفعولا, فجأة (!!) ظهر الشاب المفتول العضلات الذي ظننته زوجا أوروبيا ينظف المسبح تحت نافذتي, ويعيد ترتيب الكراسي والطاولات والمظلات مما جعلني أصرخ فيه مستنكراً:
- يا أخ أنت تعمل هنا,,؟!
هز رأسه إيجابا دون كلام, كنت قد فرغت من صلاتي وفطوري, وما هي إلا لحظات حتى غمست سمكة الماء البشرية جسدها في المسبح, تعوم وحيدة, تحت نظرات الشاب مفتول العضلات، وذهني مشتت بين رغبة البقاء للفرجة وإكمال مراحل العلاجي اليومي.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved