مساحات بيضاء التراث ,, والموهبة! 2-2 ريمة الخميس |
كلمات مثل التراث والتقاليد والأعراف الفنية تشير بوضوح إلى ما أعنيه بالتراث، هذه إحدى مشكلات المصطلح، بل قد تصرف الذهن إلى ما انتجته عصور قديمة من نماذج الفن أو الأدب، أما ما أعنيه بالتراث فهو تلك التراكمات من الشروط والاحكام والقواعد والاصول التي عملت جاهدة على ان تحفظ لكل شكل من اشكال الابداع إطاره وحدوده، ليبقى الشعر شعراً والرواية رواية مهما داخل احدهما من محاولات للعصف والاطاحة بجمود الشروط أو لتحطيم خصوصية اللغة وانساق التركيب، فإذا كانت القصة القصيرة مثلا قد مرت عبر ازمنة فرضت عليها اسلوب السرد والحكي إلى اخرى ادخلت عليها اسلوب التداعيات الشعورية او تيار الوعي، إلى غيرها التي رأت ضرورة تكثيف زمنها الفني في لحظة متوهجة تخرج من جوفها احداث القصة في ارتدادات للماضي، إلى ازمنة قاربت لغة القص بلغة الشعر او اخرى تبنت شعار وحدة الفنون فزجت إلى ساحة القص بدرامية الحدث او تجريدية التشكيل الى غير ذلك، فهذا كله هو تراث القصة القصيرة، دون اي ارتهان بما حققته النماذج التي تم انتاجها في ظل قناعة من هذه القناعات، التراث بهذا المعنى قوة تدعي الوصاية على ضروب الابداع وحمايتها من التميع والتلاشي إن استكانت لعدوان الموهبة الفردية واجتهاداتها، ونزوعها الدائم الى اختراق الاسوار لارتياد ارض لم ترها الشمس بعد,, قوة تدعي انها وحدها القادرة على ان تمنح للفن أو الادب بعده التاريخي واتصاله المساير لحركة التاريخ في تقدمه الزمني.
وعلى نقيض من هذا الادعاء، ترى الموهبة الفردية ان التراث يكبل حركة الابداع، ومصادرة لاهم شروطه في الحرية والتجاوز وإن كان يحفظ للاشكال الابداعية هويتها فإنما يحفظها جسدا هامداً بلا روح، وانه حقيقة لا يمد الفن او الادب بتاريخها بل يجمدها في متاحف يحملها على ظهره من عصر إلى عصر وبالمقابل ترى تلك الموهبة الفردية انها محملة برسالة في تحطيم القيود وتحقيق بعد جديد من التجاوز، لان ذلك - في ضميرها - هو ما يمنح للابداع تقدمه ومن ثم يصنع له تاريخا وتواصلا مميزا,, وبرغم امتلاء الموهبة الفردية بالعصيان فهي بعد كل هذه الادعاءات تركن الى الاذعان والتسليم ولا تمارس اختراقاتها إلا في اضيق الحدود,,! في أزمنة سحيقة، ربما قبل القرن الحادي عشر قبل الميلاد، عرفت بلاد كاليونان بدايات شعرية متواضعة اهازيج ذات طابع ديني قصيرة لا تتجاوز عدة سطور، مرتبكة الاوزان وخشنة الصياغة,, لقد كان تراث الشعر انذاك لايملك من القواعد والاحكام تراكما يمكنه من ممارسة دوره ولهذا استسلم على الفور لاول مواجهة مع الموهبة الفردية التي تمثلت في شاعر مثل هوميروس حطم كل مواضعات الشعر التي ورثها عن عصور سابقة،طول فادح للقصيدة (الملحمة) ووزن سمي بالوزن السداسي الهومري، ولغة حملت اسم هوميروس، وبناء للقصيدة يكاد يشبه الرواية الحديثة جرب فيها اساليب السرد والحكي والارتدادات إلى الماضي وتداعيات تيار الوعي ودرامية التجسيد للاحداث وغنائية الفواصل بين حدث وحدث عهد بها إلى المنشدين,, لقد كانت ملحمتاه - الالياذة والاوديسا - اختراقا باهرا للموهبة الفردية، هو الذي امد التراث الشعري بقواعده الجديدة التي ألزمت الشعراء بعده بالطاعة كهزيودوس واتباع هوميروس.
ومرة أخرى تعلن الموهبة الفردية عصيانها الذي بدأته بتفتيت الملاحم، فمن الاناشيد الغنائية فيها استخرجت الشعر الغنائي الذي تسيد القرن السادس قبل الميلاد وبدايات الخامس,, قصائد قصيرة لا تتجاوز العشرين بيتا من الشعر تقصر نفسها على موضوع واحد محدد، ،توجه كل همومها إلى الصقل الفني في اللغة والموسيقى ومن الاحداث الدرامية استخرجت المآسي التي بقيت درة متألقة في تراث المسرح، ومن الرؤى الفلسفية استخرجت قصائد الحكمة التي لا تزيد عن سطرين أو ثلاثة لقد كانت هذه المنجزات للموهبة الفردية على درجة من القوة دفعت بالتراث الشعري إلى اعادة ترتيب صفوفه، ومن ثم صنف قواعده واحكامه تحت واجهات الشعر الملحمي و الشعر الغنائي و الشعر الدرامي و أشعار الحكمة وجعل لكل ضرب من ضروب هذا الشعر أحكامه وقواعده الصارمة التي تساقطت دونها - وحتى اليوم - كل المواهب الفردية التي حاولت ان تطيح بها,,!.
باتساع التجربة الانسانية تزداد المواجهة ضراوة بين التراث والموهبة يؤججها تعقيد متصاعد في العلاقة بينهما فالشاعر او القاص، او المبدع عموما مؤرق اصلا بادراكه على انه على كل الاصعدة يخوض معركة من اجل الحرية، بدءا من رغبة التحرر من الذات وهمومها الذاتية، ومن سيطرة المعرفة والثقافة وتأثير الغير، وانتهاء بما يلقيه العصر على كاهله من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية وانسانية، وضمن هواجس الحرية حلمه بالفكاك من قيود تفرضها مواضعات الفن الذي يقدم تحت راية اطروحاته ويوجه دعواه فيرى التراث - أو التقاليد - بشكله الجهم والصارم وقواعده الملزمة قيداً يحد من قدرته على التعبير، ومن هذا يقترف مغامرات التحكيم والاختراق لكنه في تلك المحاولة يقدم قوة اضافية للتراث حين يحقق منجزا جديدا تتحول بدورها إلى عامل جديد للقهر فمثلا اضاف جيمس جويس بعمله يوليسيس منجزاً شكلياً تلقفه تراث الرماية ليصبح ضمن شروط مواجهة الموهبة الفردية، مثلما اضاف بليك وإليوت إلى تراث الشعر ما أصبح سيفا جديدا مسلطا على ألسنة الشعراء, ولم يعد الشاعر يواجه هم الوزن والقافية بل هموم كل منجزات الشعراء شكلا ومضمونا مما دخل ضمن عناصر التراث الشعري الجوهري وهذ جانب من تعقد العلاقة والمبدع المحمل بطموحات التواصل يبدأ أولى خطواته بمجابهة من شأنها احيانا ان تقطع كل اسباب ذلك التواصل، وهذا جانب آخر من تعقد العلاقة يتدخل غالبا في شكل الحوار، وينصح بتقديم التنازلات من قبل الجانبين.
من هذه المواجهة بكل ما تسفر عنه من انتصارات واخفاقات تتشكل حركة موقوتة للفن والادب، تقربه إلى عصره وظروفه، ولكنها لا تضع له تاريخا متصلا كالتاريخ، حركة قد تتقدم خطوة او ترتد اخرى وان اخلصت لطبيعة عصرها وظرفه.
نظرياً يبدو هذا الطرح صحيحا، لكن السؤال المقلق: إلى اي مدى يدرك المبدع حقيقة هذا الصراع ودوره في حفز حركة الفن والادب، ومن ثم صياغة مرحلة منه؟ والسؤال الاكثر اقلاقا: ترى هل يمكن ان يكون غياب الوعي بجوهر هذه المواجهة هو اول اسباب التردي في واقعنا الثقافي؟ ربما يكون هذا هو السؤال الذي دائما بلا إجابة,,,!
|
|
|