كنت قد تناولت في تلويحات ثلاث بعضاً مما جاء منفعلاً حول ذاكرة القرى وها أنذا لم ازل انسج بانفعال شبه حارق عن تفاصيل عريضة وليست دقيقة فكم تشبه تلك الغيمات التي تحاذ مطرها بين صدرك وعقلك او بين ذاكرتك وفكرك,, كم تشبه غيوم رسالة متجمعة في دمائك,, تحتاج ان تقولها وبلغتك تقولها على الورق.
اظنني قارئي الكريم سأعض اصابعي او اقضم قلمي غضباً لو شككت في انك تقرأ العمل الابداعي الانساني بصورة اقليمية او بهيئته تقيس احاسيس الكاتب بالبوصلة ذات الاتجاه المغناطيسي واذا كان الكاتب - كما يظن البعض - مخلوقاً من خامة متميزة عن طبيعة المخلوق الآدمي,, فهذا يعني انه لن يكتب أو يحاكي واقعه أي واقعه الاجتماعي العام بهمه وطموحه ومناشدته للعدل والمحبة والأمل والابتكار فما القضية,, ما الاشكال في ان تكون ذاكرة القرى او المدن او غيره!.
* * *
لا يعنيني ان تتحول نوافذ المباني الحجرية في القرية من الخشب الى اطارات من الالومنيوم او الذهب,, لا يعنيني ان الخبز الذي كان يصنع في البيوت ليلاً ويدفن بين الرماد وبقايا الجمر حتى ينضج الصباح يصبح اليوم مستبدلاً بخبز آلي في أكياس البلاستيك جاهزاً فورياً من المخابز التجارية,, لا يعنيني هذا ولا يشغلني ولا اعتبر هذا او غيره من التحولات الاستهلاكية حضارة او تقدماً والانسان يفقد آدميته باستلاب هادىء وزخرفي مدني لا صلة له بما نعرفه عن الحضارة فهل الحضارة كامنة في استبدال الانسان لأداته ام لمعرفته للاداة الحديثة ووعيه الطبيعي المرحلي لتوظيف الاداة وضرورة تبديلها.
* * *
اذا كانت الجبال تتخم بالألم الذي يتشرب بالاوجاع في وديان صدرك,, فانت لا تستطيع ان تتحول الى اغنية راقصة ل مايكل جاكسون او مستمتع ب الهمبرجر وللأسف فإنهم يبيعون همبرجراً شعبياً وانت على هضبة بطرف الوادي القروي الذي تعرف كم كان مؤنسناً وكريماً وعزيزاً من قبلك لأجيال تعاقبت تجده اليوم يرفض حتى ان يعطيك صدى على ضفتيه الجبليتين كما تعودت,, الوادي ليس الوادي والجبال ليست بذات الجبال,, لأن الطبيعة قيمتها في انسانها الذي تعايش معها ونحت فيها بعرق معيشته واداته.
ان التاريخ لا يعيد نفسه ابداً فهو ليس بأوراق يسجل عليها الايام والشهور والسنين انه فعل الانسان ومفهومه وامكاناته المعرفية في طريقة التعامل مع التحول,, فهل ما ذكرته بكاء على الاطلال؟.
لا تقل هذا فسوف اعلم حينها مع سبق الاصرار والترصد انك اول محرض لي للعض على اصابعي فقلمي ليس قطارة دموع على الماضي,, انها الذاكرة وما اسوأ ان نبقى بلا ذاكرة لاننا نجري ولا ندري الى اين، ولاننا اليوم نتجرد عن ماضينا واصول انتماءاتنا لنستبدلها بما هو مصدر لنا طعاماً ولبساً وتقنية,, بكل ما هو حديث وورقي,, في وقت لا تزال فيه على قمة التناقض بين فهم الحداثة في الفن والتعبير وبين الاستهلاك اليومي الحياتي,, الحياتي وحياتي كلها خبز وطبيخة !.
|