Sunday 8th August, 1999 G No. 9810جريدة الجزيرة الأحد 26 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9810


روح الحضارة الإسلامية 2-2
د, محمد عمارة

لقد كانت الحضارة الاسلامية من اثر إنسان اكتسب وضعا منسجما في ذاته، آمنا إلى نفسه، فصنع على مثال نفسه حضارة اكسبها مما اكتسب، وأفاء عليها مما أفاء الله عليه، حتى فاقت بما فيها من انسجام غيرها من الحضارات,.
3- لكن,, ما الذي حدث، حتى تخلفت الحضارة الاسلامية، وتهلهلت ثقافتها,, مع بقاء الاسلام - الذي صنعهما وحقق لهما الازدهار الذي دام لعدة قرون، كانا فيه منارة للعالمين - على ما هو عليه؟,.
لم يكن المصاب العزيز هو الاسلام، وإنما كان الثقافة الاسلامية والحضارة الاسلامية,, وكانتا تتطلعان إلى الاسلام بذاته، تحنان إليه، وترجوان شفاءهما عنده,, وكان القريب والبعيد يدركون ان ما نزل بالمجتمع الاسلامي، في حضارته وثقافته، ليس إلا أمرا آتيا من انحراف عن الاصل، وانقلاب في الوضع، وانفلات عن العامل التربوي الاصلي الذي لزم الاصول، واحكم الاوضاع,, فلقد اصاب الحضارة والثقافة ما عزلها عن صدق الاستمداد من الاسلام، ومتين الاعتماد عليه، حتى مال عمادها، واضطربت اوتارها,, .
فالخلل لم يحدث في ذات الاسلام,, وإنما في توقف عقيدة الاسلام عن ان تكون روح الحضارة,, وانكماش الارادة الاعتقادية البناءة للحضارة,, وغربة الحضاري عن الديني,, وتفكيك الدين عن الدنيا,, وإن تبيّن الناحية من العقيدة، التي اصابتها العلة، هو الذي يكشف عن الاسباب التي قضت بضعف الحضارة وتهلهلها,.
إن الذي حدث في العقيدة الدينية، وقضى بتضعضع الحضارة، إنما هو انكماشٌ صدها عن ان تخلع من روحها على الحضارة، فأصبحت الحضارة خائرة جامدة، لا تتقدم,, وما كان ذلك الانكماش إلا اثرا من آثار الضعف، الذي اصاب العقيدة في جوهرها,, إن الارادة الاعتقادية البناءة هي التي خارت وضعفت، فأصبحت الاوضاع الاجتماعية، والآثار المدنية تصدر عن غير ما كانت تصدر عنه، فصارت هي في واد والعقيدة الدينية في واد, وبقي المسلم وفيا لعقيدته الدينية، غيورا عليها،من جهة، متقبلا لحياته العملية، مطمئنا إلى واقعها من جهة أخرى، حتى اصبح المبدأ النظري والواقع العملي عنده متباينين,, وتولدت من ذلك نظرية تفكيك الدين عن الدنيا، باعتبار ان الدين خيرٌ غير واقع، والدنيا شر واقع، وان العبد المسلم يحمل بين جنبيه دينا لا يؤثر فيه إلا لماما، ويعيش في دنيا لا يعرف فيها إلا كل ما يبعد به عن الدين.
ثم هجمت عليه في حياته العملية مدنيات اجنبية عنه، فيها العلم، وفيها الصناعة، وفيها القوة، وفيها الحكمة، فلم يجد من إرادته الدينية ما يتناول به هذه المدنية، كما تناول المدنيات التي احتك بها من قبل، يوم كانت إرادته الدينية قوية سليمة، فوقف امامها جامدا، واعتبرها من جملة صور الحياة التي كان من قبل آمن بانفكاكها عن الدين,, .
ذلك هو موطن الخلل,, الذي كان ابن خلدون (732 - 808ه، 1332 - 1406م) من افضل من أدركه، وحلله,, لقد حلل ابن خلدون المشكلة تحليلا دقيقا، عندما جعل شؤون السياسة، والعمران، والصناعة، والعلم، في الدولة الاسلامية، تبعا لشأن الدين,, وجعل الحقيقة الاولى للدين، التي هي العقيجة الفردية، اصلا واساسا لذلك كله فأخذ يدرس مشكلة فساد الدولة، وركود العمران - في عصور الاسلام اللاحقة عن عصوره السابقة - وانتقاص الصنائع، وتلاشي ملكات العلوم، واختلال طرائق التعليم في الامصار الاسلامية لعهده، جاعلا ذلك كله راجعا إلى اختلال الحقيقة الاولى للدين، التي هي اساس العمران الناشىء به، والدولة القائمة عليه، أعني العقيدة الدينية، فردّ ذلك كله إلى صورة تكوّن الفرد تكونا إيمانيا، يرتبط من جهة بالدين الاسلامي في عقيدته، ويسري منه إلى كل ما انبثق عن تلك العقيدة من مظاهر عمرانية، وصناعية وفكرية.
وإذا كان الناس يكتفون بأن يعللوا ما بدا في حياة المجتمع الاسلامي وحضارته من اخلال، بما يرجع إلى نظم الحكم، وصور الدول، وما شاع من فساد الخلق، وتفكك الروابط الاجتماعية، فإن ابن خلدون يطلب لهذه العلل عللا، ويرد هذه الاسباب إلى اسباب وراءها، فانقلاب الخلافة، إلى مُلك ليس العلة، وإنما هو عَرَض لعلة تغير الوازع الديني إلى مقاصد التغلب والقهر، والتقلب في الشهوات والملاذ، وحلول عصبية الدولة محل عصبية الدين.
لقد أرجع ابن خلدون الحضارة الاسلامية إلى اصلها واساسها، أو بالاوضح روحها، وهو العقيدة الدينية .
4- وإذا كانت هذه هي المشكلة,, فما هو حجمها؟,, وما هو عمرها؟.
إن حجم هذه المشكلة ليس بالهيّن,, وعمرها ليس بالقصير,, وإذا كنا لا ننكر ان الحضارة الاسلامية قد تقاصرت وتراجعت وتخلخلت، وان الثقافة قد ذوت وانكمشت واصغرت، وأوشكت ان تصير حطاما، فإن ذلك ليس وليد الامس، ولا أمسه، ولكنه الادواء التي استفحلت في القرون الاخيرة، حتى اعضلت، وعز دواؤها، ثم لم تزل تنمو وتشتد وتتفاقم آلامها وأخطارها حتى انتهت إلى الوضع المفزع، الذي ضج قرننا الحاضر منه بالشكوى,, .
5- واخيرا ,, وبعد تحديد روح الحضارة الاسلامية وتشخيص موطن الخلل الذي اصاب حضارتنا وثقافتنا,, فما هو الحل الحقيقي لهذه المشكلة,, والمخرج من هذا المأزق الذي يأخذ بخناق الامة؟؟,.
إن الحل هو في العودة إلى الروح التي صنعت الحضارة المزدهرة والثقافة المتألقة,, إنه عودة الروح الدينية لتصوغ النهضة الحضارية المتميزة والمستقلة,, وهذا هو المعنى الحقيقي لمقولة,, لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها,, فلولا التكون الفردي المكي، والتكون الاجتماعي المدني، لما كانت آثار الحضارة التي تبدت في عواصم الاسلام, فإذا كان الناس اليوم يحنّون الى عهود ذهبية، ازدهرت بها تلك العواصم، ويتحرقون إلى احيائها وتجديدها، فأجدر بهم ان يعودوا إلى العامل الاصلي الذي ولّد تلك العصور الذهبية، والذي بدونه لن تعود زهرة تلك العصور وينعتها، ألا وهو العامل التربوي الاسلامي، الذي كوّن الفرد قبل ان يكون المجتمع، ومهّد للثقافة طريقها قبل ان يتناول عناصر المعرفة التي ألفّت كيانها,, .
أما إذا وقفنا عند استقلال العَلَم والنشيد دون حقيقة الاستقلال الحضاري الذي هو ثمرة للصبغة الاسلامية المتميزة، فلن نخرج من هذا المأزق الذي نعيش فيه,, لقد خرج العالم الاسلامي من تحت حكم الغير، واسترجع سيادته الذاتية، لكن هل هو مستطيع ان يعاود حضارته، ليضطلع بأعبائها من جديد، وليمثل للناس صورة جديدة من الثقافة والحضارة، منطبعة بطابع شخصيته الاسلاميةومنبثقة عن المبادئ الاعتقادية الاسلامية، التي انبثقت عنها الصورة الماضية التي عرفها التاريخ من ثقافة الاسلام وحضارته؟؟
إن نهضة اليابان ليس بوذية، ولا نهضة الصين نهضة كونفوشية، ولا نهضة اليونان نهضة بيزنطية ولا افلاطونية، ولا أرسطوطاليسية، بل ولا هي يونانية على الحقيقة بأي حال من الاحوال.
فهل سيكون شأن الاسلام مقصورا على هذا الوضع؟ أو ان حضارة إسلامية الروح، وثقافة إسلامية الطابع، ستبدوان من بين ذلك القدر المشترك المؤلف بين شعوب الامة الاسلامية، الناهضة المستقلة,, إن روح تلك الحضارة هي الموقع الرئيس للمشكلة ,.
***
تلك بعض من قضايا وأفكار ومحاور المعضلة التي حار ويحار فيها المصلحون,.
روح الحضارة الاسلامية، التي صنعت وميزت الحضارة والثقافة في عصور النشأة والازدهار,.
وموطن الخلل الذي جعل الحضارة تتراجع، والثقافة تتهلهل,.
والحل والمخرج من هذا المأزق الحضاري الذي تعيشه امة الاسلام,.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved