Thursday 5th August, 1999 G No. 9807جريدة الجزيرة الخميس 23 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9807


دادائية الصمت وطقوس (بوابات المدينة)
غالية خوجة

أي تشكيل للمسكوت عنه يطرحه القاص (محمد بن سيف الرحبي) عبر مجموعته (بوابة المدينة) والى اية انفتاحات شد المكتوب لينحاز الى قصص الحالة والى قصص من وراء الحالة؟.
عشرة نصوص تطرق ابواب المدينة، فاتحة الواقع على جسده، والصمت على التأمل الذي نلمحه منذ القصة الاولى (ذاكرة لها طعم الموت) فالعنوان يشكل قاسماً مشتركاً بين الذاكرة والموت، وبين دلالاتهما المسترجعة عن طريق الشخصية التي حاولت قتل الزوجة لخياتها وتزوجها من آخر ثري, المتن يطرح قضية الخيانة وآثارها المجتمعية والنفسية اضافة الى آثار السجن على الزوج الذي شرع بالقتل (عشر سنوات سكنت بين القضبان) اما المبني الحكائي فينطلق من لحظة الحرية (الخروج من السجن) وهو ما تمثله بداية القصة التي تعود بفضائها الى الماضي المستقر في الذاكرة مع صرخات الموت المصطدمة بالمستقبل (ما اقسى الحياة عندما تتراءى لنا شبحاً مخيفاً للماضي نحاول اغتياله وشبحاً مجهولاً للمستقبل نحاول اصطياده وعدم الاصطدام به,, الاشد قسوة ان نعيش بين الشبحين معا/ ص 10) يشتبك النص بفلسفة شفيفة كمنت في الجمل المصاغة بشعرية انعطفت بالسرد من افقية الاسترجاع الى تداخلاته المتعامدة مع الحاضر عن طريق الوصفية (خطوات وراءها خطوات ستتبعها تحملني الى حيث يسكن المجهول وتعشش الذكرى كغراب قبيح الوجه ينعق في وجهي بالشؤم,, وبالخيانة ص 11), وعن طريق مواحدة الضمير الازدواجي (هو + أنا) في مونولوغ مستتر (الطاولة المقلوبة في غرفة الجلوس ستدمي قلبي النازف لأنها ستذكرني بالوضع المقلوب في معادلة الحياة,, الخيانة طريق لللسعادة والشرف طريق للسجن، ص 11) هذا المونولوغ يتخذ طريقه للظهور مع ظهور المكانية الجغرافية للنص (امام السجن) مع صوت الحارس, وهنا تخرج البنية الى ديالوغيتها طارحة رؤيتين للحياة: الأولى: عن طريق الحارس الذي يلخص لنا القاص كيفية حياته بجملة مكثفة (عاش الحياة ببصيرة مغلقة ص 12) والثانية عن طريق البطل الذي هادنته انا الرواية على ان تكون مساوية له, حيث يجد البطل المحوري نفسه في بؤرة اشكالية عناصرها: الحرية، الشرف، الطفولة، العدالة، الحلم,, بابها الأول: الخروج من وراء القضبان، وبابها الثاني يؤدي الى طريق مغلق (الوهم): (انني ابحث عن طريق يكون مساحة بيضاء تعاملني كطفل لا يحمل ذنباً ولم يعرف طعم الانتظار وراء قضبان حديدية ص 12), ثم تعود المشهدية الى افقيتها التي تكرر مأساة الرجل بمباشرة اخفتت ايقاع النص واستهلكت أبعاده (وحدة انعزال وتحطم نفسي,, وعشر سنوات مسحت من قاموس حياته، حرمان من العمل - مصدر رزق - وحرمان من اجتماعيته كانسان ص 12), لا تلبث البنية ان تتدارك تلك الاستطالة بالعودة الى الارتفاع من خلال اشتباكات المونولوغ بالامكانة (عمود الكهرباء/ الشوارع/ اللافتات على واجهات المحال التجارية التي رأى في حروفها ثعابين), وتلتف الحالة على المخيلة لتزيد طاقة التوتر النفسي والنصي (حتى الشوارع تتحول احياناً الى ثعابين قطبية تتحرك امامه ببهلوانية غير مألوفة ص 13), ثم تعود اللحظة الدوامية الى الحارس طالبة العودة الى السجن الذي يرفضها (عندما لم اكن ارغب العيش بين قضبان سجنكم اخذتموني اليه بالقوة تحت ستار الجريمة وعندما اردته انا رفضم رغبتي,, الى متى هذا التناقض يعصف بكم؟ ص 14), وفي ذات المكان الذي انطلقت منه القصة، تنتهي فيه (امام السجن) كمكانية واقعية غير عزلاء، لماذا؟ لأنها تشعبت الى مكانية للصراع النفسي- النفسي وللصراع النفسي - الحياتي (وروائح القضبان الحديدية الصدئة تتزاحم للوصول الى انفه ورائحة الذكرى تصفع وجهه بقوة وشراسة,, لكن كل تلك الروائح ما هي الا مقاطع بسيطة مع موال رائحة اكبر لشيء يدعى الخيانة,, وللخيانة رائحة ايضاً ص 14) ولست ادري لماذا لم يختم القاص نصه بكلمة الخيانة؟ فلو حذف الجملة الأخيرة (وللخيانة رائحة ايضاً) لتراصت النهائية ولم تتمدد لتشرح ما سبق وقالته.
تتجاوز ذلك قصة (انها اللعبة) الى الحالة التي تعاملت مع الكشف عن الواقع المحموم بالشعارات والخطب بينما الفعل جاء مجنوناً، مشخصاً بالذات القاصة وهي تنحمل على ايحاءات اللغة المضغوطة بين تشكيلية الوجه والرسائل ودم الشهداء، وضميرها المتحول بين المتكلم وبين السارد كطرف أول، وبين ضمير الآخر الجمعي (ما الذي يأتي بالمجانين في موكب القداسة؟ - وهي وحدها,, فقد انا ايضا يقولون الحكمة في رأسي ص 18), تتجادل الحقيقة الموسومة بالجنون وتعبر من الشخصية الى النص الذي مسرح سرده الحواري، ليصل الى سرده المركب المرتكز على سريلة السردية, مانحا طاقة فائضة للعناصر المتباوحة (أغدو أحمل جثتي المعتقة بروائح الغبار لأرصد وجهك في ذاكرتي,, والمدى يزحف ورائي يرقب خطواتي المبتعدة عن مأوى جسدك/ الليلة الاخيرة تقبع خلف جمجمتي تشاركني مأتمي ص 18) كذلك نلمح سريلة الرمز الناهض من دلالة مزدوجة تتحاذى في النسيج حتى تتحدد الآ(هي) مع (الحكمة) في المسافة المنطلقة بين جسد الشخصية وجسدها كرمز غائب يعادله (الأرض)، وبين ابعاد الموت والحياة المضمرة في مقبرة النص والنفس في ذات الآن، والمنكشفة عبر الدالة (اللعبة) المنفتحة على تناقض المعاش (جسدي الممل يتبعني وجسدك اودعته التراب/ الليل من حولي كقارة من ضياع/ اتنفس داخل قبر اكبر من جسدي لكنه عاجز عن احتواء انفاسي) وكيفية التعبير هذه رغبت بالقول: الدنيا كلها قبر كبير، ومن هم الشهداء؟ لقد اصطبغت الجمل القصصية بأطياف التضاد القابلة للانفجار والتشظي مثلما تضمخت بالتحول الواضح في نهاية القصة (تتوارى كأنها دخان لتبدو كنورس ابيض يغادرني ثم يحوم طيف ابي، فأسأل الطيف هو,, هي,, هم,, ماذا يكونون؟ لم افهم عبارته الأخيرة عندما قالها مودعاً: انها اللعبة).
يختلف البناء الحكائي في قصة (لحظة اغتيال) ليتشكل بأربعة مشاهد اختزلت ازمنة الرغبة التي ارتكبتها الأنثى الساردة نتيجة انصياعها لقلبها وللخطيئة التي خلفت في احشائها جنيناً سيولد متخلياً عنه وعن أمه ذلك الاب تاركاً ما خلف للضياع والسنة المجتمع والموت.
تعالت اللغة في هذه القصة كباقي النصوص، مما جعل منطوق الشخصية يتواحد مع منطوق الذات الراوية (محمد الرحبي) الذي تستر خلف ضمير المتكلم الأنثوي ليفصح عن اللواعج والخفايا المتراكمة بين الجرح والنزيف والحيز الزمني لما قبل الرغبة ولما بعدها,, ومن اشتباك الحيزين (الما قبلي والما بعدي) يتصارع الحدث داخل مونولوغ نفسي - شعري، يتطور مع الشخصية الاشكالية متخارجاً عبر انفاق اللحظة الى تدوين الانكسارات الجوانية والبيئية (أبحث عن حفنة رمل أدفن فيها رأسي خوفاً منك، لكنني اكتشف بعد رحيل العمر انني لست نعامة وانك لا تجيد فن الخوف,, هل تكفي دموعي لاحراق جسدك كله واذابته تحت اي مسمى؟ ص22)؟ ولا تقف الدلالة الخطية عند تناوبات القلق، بل، تسرد ما لم تكتبه عن طريق الايماءات المجدولة بالوصف العابر بشكل دائري من القلب الى الجرح الى الحياة الى الهرب الى السكين وذلك عبر المقاطع الاربعة:
أ - (تتسع الدائرة ويتسع الجرح ليضم بقاياي,, فأختنق ص 22).
ب - (الزمن يلتف حول رقبتي ليواصل شنقه اليومي والاتساع يستمر والمجهول يتوسط خاصرتي ص 24).
ج - (الى اين؟ كل الأبواب مغلقة,, هذا ثمن اللحظة,, والولد يصرخ كأنه يلعنني لأنني تركته وصمة عار في جبين الحياة ص 26).
د - (وعندما التقينا,, صمت هو,, وصمت أنا,, والطفل ايضاً,, الشيء الوحيد الذي نطق هو السكين,, لا ادري حينئذ فيمن تكلمت تلك السكين؟ واي لحم عانقت؟ وبدم من ارتوت؟ هو,, طفلنا,, نفسي,, اللحظة كلنا جوهر مأساة اسمها,, اللحظة ص 26).
داخل هذه التدويرية تتسع اللغة وتضيق الروح على نفسها محتمية بالموت المنكمش بعد لحظة الرغبة، وبالموت الممدد في دلالات ما قبل الرغبة، والمنصهر مع دوامتها الرباعية المتعاضدة.
تنتقل المجموعة من ليلها النفسي الى ليلها الاشمل في القصة الحاملة للعنوان (بوابات المدينة) المبدوءة بزمانية سوداء (الليل) مشوبة بدلالات الحمرة (النزيف) وبدلالات الخضرة والشموخ (النخيل/ لتموت واقفة), افتتاحية ستعود اليها العناصر القصصية عن طريق (الفلاش - باك) المحتجزة بما بعد الزمنية المستقبلية (في الغد فقد يعرف صاحبها أن عدوه قد اخد بثأره ص 28), تتراكم هذه الدلالات في بعدها المكاني بين القرية والحدث (حرب قبلية وثأر امر به شيخ القبيلة لأن شاة احد رعاياه قتلت بالأمس)، وبين البنية الناشئة عن تراكبية نصين:
1 - نص السارد المتتابع من انا القاص والمحيط بشخصية (خلفان) وباحوال وظروف وبيئة ودواخل هذه الشخصية.
2 - نص المتكلم العائد الى (خلفان) الذي يشارك السارد في حبك اللحظة الحاضرة وهوامشها (كشخصية الأم والاب وما فعله المتسللون بالنخيل والقمر الذي لم يكن في السماء).
يطفح النصان بطريقة فنية لم تعمق التقاطع,, لماذا؟ لان كلاً منهما يكمل النقطة التي ينتهي عندها الآخر.
وعلى هذه التسلسلية الدالية او الدلالية فان حيز التقاطع وفجوته الجمالية لم تلمع الا من خلال التناوب الأنوي للسرد المركب من حفريات الذاكرة بين الطفولة والفقر والقهر والظلم,, حيث تصبح ذاكرة السرد اضاءة تقوم عليها تفاصيل الرحيل من القرية وبيوتها الطينية المتناثرة وثأرها ودموعها ودمها، الى المدينة, يترافد البعد الموضوعي من خلال الطريق والمشي الجنائزي المستغرق مدة ثلاثة ايام (ارجل الصبية تئن بالجروح والورم، سيرهم يشبه مرور جنازة تتبعها اصوات النائحات,, يطلق الاب صرخاته لكن الشمس تسرع في الرحيل ليبقى لونها الأرجواني يتوزع احمر على سهول الوطية المغبرة ص 31), يصل الرحيل الى بوابات المدينة المغلقة وينتظر,, في مسافة الانتظار لا ترغب الذاكرة بالرحيل لذلك نجدها تنتقل بكل حرارتها من ذاكرة الولد (خلفان) الى ذاكرة ابيه 0في ذاكرة الأب نبتت اغصان سوداء جذورها في القرية وامتدادها الى القلب,, دماء البشر الذين طالتهم بندقيته تحوم حول مقلتيه لتزديهما احمرارا ص 32), ومن قشرة ذاكرة (خلفان) نرى مع الراوي (حكاية الغد): (في مسكد) رأي خلفان حكاية غده، حمالا سيعمل في اسوق مطرح او عاملاً في احد متاجر البانيان ، على الساحل سيجد طعاماً للافواه الجائعة التي تنتظر), تتوازى حكاية الغد مع ذاكرة الأب، توازياً سردياً ينفصل ليتصل ببوابات أغلقتها المدينة، وفتحتها الذوات على فضاء الاسترجاع والأمل والانتظار، والوصول,, وبعد بوابات (مطرح) كمدينة يتعرف إلى بحرها وقلعتها (خلفان) عابراً رحيله بتقاطع زمني يوحي بالابتعاد الطويل عن القرية التي اصبحت هُلاماً ذاكرتياً، مثلما يوحي بانوجاد لحظة الدخول الحية التي تأخذ والده إلى (الكوت): (- لماذا أطلقت الرصاصة؟- أنا أقسم لكم أن,,- اخرس,, الدليل في يديك-لكنني,,- خذوه إلى (الكوت) هذا البدوي الأجلف ليتعلم أن (مسكد) ليست مدخنة لرصاص البنادق ص34), ويظل الزمن الحاضر معلقاً بزمن الهجرة والاغتراب وغياب الملامح والهوية من جهة، وبالجمل الوصفية المزاوجة ل(الآن) ول(الماضي) في فجوة الضياع من جهة ثانية, وتتسع هذه الفجوة حتى تسترجع طفولة الأب من خلال ذاكرة الابن الممتزجة بخيوط التخيل المرادفة للحظة خروج الأب من السجن (هل تغير شعر لحيته؟ وماذا عن عينيه؟ هل ذبل الاصرار فيهما؟ص37).
متوالية دارت في تناقضات العادة بين القرية والمدينة, فبعد الهجرة فالضياع فالخروج يعطفنا المتن إلى حدث حواري يختزن ما سبقه (أبي لم يعرفني (,,) قلت له أن أمي ماتت,, قال بل قُتلت,, قلت له وأنا أعمل في,, قال وأنت قُتلت,, وأردف يقول: وأنا قُتلت,, ولكن يكفي أن عمان هي التي تولد,, ص37), تتكشف لحظة الولادة من خلال قطعتين زمنيتين متعاكستين (الماضي/ الآتي) ومتوازيتين في (الآن= عمان المتمتعة بتقنيات عدة حديثة كالهاتف والثلاجة و,,): (وبعد هنيهة جاء من يسلم التفق لوالدي,, لم ينظر اليه باشمئزاز كما نظرت أنا,, بسببه فقدت أمي، وابتعدوا بي وتشردت، لكن أبي قبله,, فالتفق كروحه,, قال لمن سلمه: أعطني المحزم, واذا بأبي يطلق الواحدة تلو الأخرى,, ليقضي على المحزم بكامله,, انها اجمل الرصاصات تفصل بين زمنين ص38).
وإلى ذات الطقوس الملتبسة بزمانيتين تنتمي قصة (الراعي التي عنت بالبعد الاجتماعي الواضح وارتباط الشخصية باخلاصها للبيئة، عكس والد (خلفان) الذي دفن العادات السيئة متجهاً إلى المدنية.
تجنح اللغة السردية إلى فضائها الجمالي المتحول في القصص (المسحورة/ بقايا رجل، نهر الدم، مسافر دون أجنحة), ففي قصة (المسحورة) ينحمل النسيج الكلي على لغة تخاطفت خرافتها عن طريق شعرية البنية الناتجة عن تقاطع نصين:
(1) - نص الراوي الذي تمحور حول اشكالية مثلثة (الموت/ الحياة/ الحب) واجتماع العنصرين الأولين (الموت/ الحياة) في شخصية الخرافة مريم التي تتداول سريتها جدات القرية, أما العنصر الثالث (الحب) فنراه قائماً على حب الساحر الراغب بمريم، وعلى رفض مريم له، مما يدفعه إلى سحرها, داخل هذا النص نلمح تقاطعات تمت بين صوت مريم (أي صراخ هذا الذي تسمعه القرية اللعينة وأي نشيج يجعل الآذان تغمض عينيها خوفاً ورهبة؟ ص42).
وبين طقوس غسلها ودفنها، اختفائها وظهورها.
(2)- نص مونولوغ الساحر الكاشف عن باطن الشخصية والصحراء والمقبرة.
ناتج تقاطع النصين سرد لا مرئي تمكن من انشاء شبكية هي بؤرة النص، أو اللحظة الساحرة المسحورة التي انكمشت في دلالات الموت والحياة ك(لغز) ثم تشظت وتوزعت معه إلى ميكانيزمات النص التالية:
(1)- الحوار موت مريم لغز أيها الباكون/ أنه صوت مريم,, هذا بكاؤها/ مريم ماتت,, رأيت جنازتها منذ خمس سنوات) هكذا وضعتنا صوتيات الشخوص في الهالات المحيطة بالرمز (مريم).
(2)- الضمير السارد: (تبدو المقبرة من بعيد كشبح كالح يعني النهاية).
(3)- ذاكرة النص: القرية كذاكرة مكانية/ الجدات كذاكرة جمعية: (القرية تنام على جراحها وساحر القرية يأكل من تلك الجراح,, كان سالم في ضاحيته عندما مر الساحر راكباً ضبعته ورأسه ينظر إلى الوراء,, القرية تروي حكايا البؤس والجدات يحدثن أحفادهن عن (المغيب) الذي باعه أبوه في سوق بهلا, وعن (نقصة بهلا) المشهورة,, تقول الجدة بأن من يقف متكئاً عليها سيباع بمزاد علني دون أن يدري ثم يحمل ليذبح وليمة دسمة في مهرجان السحرة ص44).
(4)- منحنى الزمانية: تبدأ القصة بصراخ مريم المدفونة منذ خمس سنوات، وطيف الصوت يستمر في عبور النص إلى جهتين: جهة الماضي المحفورة في ذاكرة الجدات الموروثة، وجهة الماضي النصي المتصل حتى بعد مائة عام: (بعد مائة عام مات الجميع وبقيت مريم تعبث بعقول الجدات,, مريم شراع كبير سقط في ليلة دافئة ص46).
(5)- صوت الغائبة الحاضرة (مريم) المتمشهد بخطواتها الشبحية العائدة إلى بيتها المهجور بعد الحد الأعظمي للزمانية (100) عام، وبعد مسافة أخرى هي تلاشى الذاكرة (تلك القرية القديمة نسيت حكاياتها وفي ليلها الساكن تحرك وقع خطوات تبدو متعثرة).
(6) مقدرة الموت التحويلية التي نبتت بشكل محاذ للمقدرة الحياتية (يتحدث الناس عن البيت المهجور,, ومريم التي ماتت واقفة دون دمعة عين، وعن قبرها الذي امتلأ نقوداً وهدايا,, بعد موتها الثاني أصبحت مريم قديسة).
عبر تفاعلات الصمت والصوت يجف الموت عن مريم إلا أنه يسريل الواقع في قصة (بقايا رجل) ويدفعه إلى تشكيلية أخرى للعالم بوساطة الشخصية ونسيجها النفسي (- ما رأيك لو وضعت رأسك على الأرض ورفعت رجليك إلى السماء.
-حينها,, ربما سأرى العالم مقلوباً، الشمس أسفل قدمي، وجميع الوجوه ستبدو مرتفعة تناطح النجوم/ أعدت رأسي إلى مكانه وهربت إلى الظلمة أحتمي بها ص48/ في ذلك اليوم نمت على رأسي شجرة ضخمة، امتدت عروقها إلى قلبي وشربت من غديره حتى الثمالة ص50), وتألقت انعاكاسات المسرحة الحدثية من خلال عيني الحسناء، وتمرئيات ألوانهما، وما يجري فيهما من حركات مشحونة بالبعد الموضوعي للخلفية النصية الأولى (المسريلة) التي تضفر المشهد بمفارقة انفصامية لدلالة القبلة (ورأسي يقرأ سر هذا العالم في عينيها اللتين بلون النار، حمراوين تستحيلان أحياناً إلى بقعة فحم، يخرج البطل يعانق حبيبته فيبكي الجميع,, الدمع للورود والابتسامة للأشواك، أي رعب هذا الذي ينفجر في عيني الحسناء,, أردت أن أطلق ما أراه وأمضي,, البطل لايزال يقبل حبيبته فأمسكت الحسناء وأهديتها قبلة,, لم يكن الشرطي وحده الذي قبل وجهي بصفعة ذلك المساء بل كانت تشاركه يد الحسناء ص50).
تلاون أولي للخلائط النفسية بين (الراوية والحسناء والهو والشجرة) حيث اختزلت لوحة الاثبات الشجرية الطالعة من رأس الرجل والممتدة في عروقه، اختزلت الطبيعة في الإنسان/ الإنسان في الطبيعة، فأنبتتهما معاً واقتلعتهما معاً (سكرت الشجرة وسقطت مقتلعة كل ما تعلق بتلك الجذور), لم يقف ذلك الاقتلاع في حدوده الواضحة، بل استمر حتى غيابات المكان (القرية) المحمولة على توصيف راغب بانتشال الأثر الى تكويناته الناضجة بالفعل, فالقرية اطار لذاك الحلم المتناغم مع مخيلة فردت ألوانها على الموتى والضوء والطفولة والأنثى (القرية تغفو ويبقى موتاها يعبثون بخيوط الضياء,, ص50) نامت قريتي تحلم بالصحو وعندماادركها ما تحلم به تمددت كغجرية تنتظر عاشقها يأتيها من سقف السماء كطائر او كنجم ص51, وتظل تتداخل الفضاءات حاجبة شخصيتي الحوار اللتين لا تتضحان إلا في خاتمة النص المضمخ بالكابوس، وبالبواطن المتخارجة من أعماق الأنا الراوية حيث يتحد ضمير المخاطب (هو) بضمير ال(هي/ الحسناء) مشكلين الذات الساردة (-لا تأمرني أن أقف على رأسي,, بدون ذلك بامكاني أن أرى العالم مقلوباً، وجودك,, هو الكابوس أم الحقيقة,, من أنت,, من أنت؟ -ذاتك- والحسناء التي قبلتها وعيناها المشتعلتان جمرا- تلك ذاتك), وعندما تنتقل مخيلة القاص (محمد الرحبي) إلى قصته، تون قد انكتبت لحظة شروده تاركة له اختفاء الذوات في البنية، وتاركة للقارىء الحيرة: (اختفى الرجل والشرطي والحسناء,, وبقيت أعد أعقاب سجائري وأتمنى لو استطيع ركوب موجة الدخان التي تخرج أمام وجهي,, رائحة التبغ تطغى على رائحة الرجل، تأخذني اللذة بالنجاح,, انتهت السيجارة واحترقت شفتاي ص52).
تتسم نصوص الرحبي بمقدرة ابداعية قادرة لى توظيف شبهات السرد، وانزياحاتها المتناسلة في طقوس مكثفة تتعامل مع الحدث ايمائيا، متوسلة في ذلك ايقاع الجملة المضغوط، بالاضافة إلى الانقطاع المتصل بين ظاهر ابنية ومحجوبها واسقاطات هذا الاتصال -الانفصال على الذاتكونية واشكالاتها (الموت/ الحب/ الغربة) ومن ذلك ما عرضته قصة (للرغيف رائحة مخالطة بين رموز الأرض والحرية والأم وبين الرائحة - الأثر الذي لا يبقى منه خارج المنفى والموت سوى دم الأم وروح طفلها ورغيف الخبز: دم الأم المشكّل لاستمرار الحياة والثأر لاعادة الأرض، روح الولد المتحركة بين المخيم والقصة, رغيف الخبز كدلالة فائضة تعجن نزيف الموتين بالحياة والأبجدية (عندما تحين ساعة الموت تبقى الأرض هي الحضن الدافىء, هي، وولدها,, ورغيف الخبز بينهما,, قصيدة عظمى كتبتها الأرض بالدم النازف من أجساد الأبرياء ص59), ويتواصل النزيف في هذا الزمن الكاسر في قصة (نهر الدم) المتمحورة حول اللعب بالعنصر الزماني الفلاشباكي- الاسترجاعي، من خلال جعل الجمجمة مكانية للدينامي الحدثي (الأفكار تتصاعد من رأسه كأبخرة ساخنة أتعبها الجلوس على مقاهي جمجمته النازفة دماء الملل) وكذلك، من خلال تفتيت الانتظار المتلاحق للحظات كوحدة صغرى متقاطرة ضمن المجال الأكبر (مابين اللحظة واللحظة قطار لا نهائي من الانتظار على أرصفة التسول الزمني), تتصارع اللامألوفية في هذا النص المضاف الدلالة عن طريق عبور الشخصية من جمجمتها إلى اللحظة الحاضرة التي سلّعت الإنسان وشيأته (محلات الحرية للابادة البشرية/ خبراء متخصصون في تصنيع أرقى المبيدات لقتل الإنسان), تنطوي القصة على تعرية متهكمة للواقع غير الآدمي الذي يعيشه عصرنا بصورة تناقضية تبدأ مع الشاي بالذباب وتتوالى مع الجموع المفترشة للأرصفة، اضافة إلى الجو البيئي/ الاجتماعي الذي يتحرك في القصة متواصلاً مع حركة ركض الإنسان الباحث عن انسانيته (متسول/ امرأة نصف عارية/ شبان يقتتلون/,,)
(-ماهويتك؟ -إنسان,- أقصد إلى من تنتمي؟ -إلى الإنسانية, -ما موطنك؟ -الأرض,- تباً لك ومن اجاباتك ولكن لماذا تلهث؟ -متعب بذاتي,ص74), وتفلسف القصة رؤيتها للزمن (أما زلت ترتكب حماقة حساب الوقت في عالم لا يعترف بالوقت بل يذبحه دون احساس بذنب), وراء هذا الكشف يتقصد الراوي تفكيك شخصيته جزءاً جزءاً مبتدئاً بالذاكرة -كما رأينا- ومنتهياً بالجسد: (لايملك يدين,, والضباب يكاد يحجب الرؤية,, شخص قريب منه يراه يمشي وسط شيء لامع يجهله فيتساقط لحمه ثم يهوي ص75), تفكيك تم على مرحلتين متصلتين: فيزيقية، وميتا- فيزيقة، نراه تركب بطريقتين:
(1)- الطريقة الدادائية المتمظهرة بالمحيط الموضوعي القائم على العبثية.
(2)- الطريقة السريالية التي تحولت في رمزها المتعين (البطل: الذي لم ينوجد في الحياة ولا في الموت (أقداري أصرت على تعذيبي,, ما أصعب أن تحلم بشيئين متباينين ولا تحصل على أحدهما,, مااصعب أن تحلم بالحياة فلا تنالها,, وتحلم بالموت فيكون أصعب الأمنيات ص76،،) تحولت من رمزها هذا إلى رمزها الايحائي (نهر الدم) حيث يفيض دم البطل جارفاً معه اللافتات والأشجار والمدينة والحلم,.
ذاك الحلم الذي يجدد قلقه في قصة (مسافر دون أجنحة) متكوناً عبر قصة القصيدة التي نهضت على شعرية التحول والعشق مابين الجرح (اخفت جرحها وارتدت صدري) وبين بحيرة البنفسج وألوان الحناء (كانت الماء تهدي محبتها اللأرض في حالة توحد خاصة,, رغبت أيضاً في هذه الحالة من التوحد مع لون العباءة,, وحين سكبت الخطوات بريقها، كان لون الحناء يتبدى نقوشاً وألواح زعفران وألوان الفرح ارتسمت بحيرة بنفسج وارتمى العشق كواكب وأزهاراً لا تعرف معنى الذبول ص78) بنية طرحت حالتها عبر لغة متسامية بالحب وبالاشارى، لذلك يتراءى الحدث مجازياً شفيفاً في لحظة السفر المتشعبة إلى لحظتين: لحظة التحليق مع الروح، ولحظة التلاشي مع الرغبة (الأسماء من حولي تلعب مسرحيتها الهزلية,, واحدة,, ثانية,, عاشرة,, امتلأت صفحات العمر ولم تتعب رجلاي من المشي فوق أسلاك شائكة,, ورغم النزيف إلا أن الرغبة مستمرة,, أي رعب هذا الذي يسيرنا؟ ص80), ولا تلتقي اللحظتان المتشعبتان إلا في لحظة تُناظر لحظة السفر، وأعني، لحظة الانغماس في الغربة بعد ليل وحيد، عبّأ النص بالحواس وبأطياف الأنا الأخرى، حيث يتعارك الزمن الأسود (الليل) مع الزمن الأبيض (النهار) ضمن مجال تشهد عليه خاتمة القصة: (وفي الصباح غادرني طيف تلك الأنثى,, وغادرني شيء ماأحسست بروحي تتأرجح متأوهة لأنه غادر,, وحين هممت أن افتح نافذتي، سقطت الستارة من يدي وتحطم زجاج النافذة,, وعرفت أيضاً ان جسدي يسقط قطعة بعد أخرى, ورأيت كرة زجاجية قذفها الجدار,, وحين تذوقتها كان لها طعم الدمع).
* بوابات المدينة/ محمد بن سيف الرحبي/ صادر عن دار جريدة عُمان للصحافة والنشر/ 1993 عدد الصفحات (80).

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved