تتضح معالم استراتيجية التفاوض السلمي الاسرائيلي بعد وصول يهودا باراك الى السلطة من تصرفاته التي تجمع بين اسحاق رابين في ليونة الحديث وبين بنيامين نتنياهو في حدة المسلك ليوظفهما في عرقلة المباحثات مع السلطة الوطنية الفلسطينية.
نتج عن هذه الاستراتيجية التفاوضية التأجيل المفاجىء للمباحثات على المسار الفلسطيني، الذي جاء بمماطلة الفريق الاسرائيلي المفاوض لكل موضوع مطروح للمناقشة تنفيذاً لأوامر رئيس الوزارة يهودا باراك القاضية بعدم الالتزام بأي منها حتى تطول المفاوضات لزمن اطول يفرض اليأس على الفلسطينيين فيقبلوا بما تريد اسرائيل ولا يحصلوا على حقوقهم المشروعة في الارض والحياة عليها باستقلالية.
تبديل الوجوه في السلطة والحكم لا يغير اهداف اسرائيل الثابتة القائمة على اخذ كل شيء دون دفع القيمة المقابلة له الا في حدود ما يضمن استمرارية السرقة للحقوق الفلسطينية من خلال تحويل المفاوضات السلمية الى صفقات تجارية تستهدف الربح بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة وفرض الخسارة على الفلسطينيين بعلمهم او في غفلة منهم.
يبدو ان يهودا باراك اخص من بنيامين نتنياهو الذي كان يعلن بوضوح عن مواقفه المضادة للعملية السلمية ويتصرف بصورة علنية ضد المباحثات السلمية ولا يبالي بلمس توقيعه على الاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينيين حتى ضاق صدر امريكا منه واخذت تحاربه ويحاربها حتى تم نزع الحكم منه بإسقاطه من السلطة، وجاءت بالرجل يهودا باراك الذي ملأ الدنيا بالآمال الكبار في تحقيق السلام على مسارات التفاوض السلمية الثلاثة اللبناني بإعادة الارض في الجنوب خلال سنة من حكمه، والعودة الى التفاوض مع سوريا في سبيل اعادة مرتفعات الجولان لها، واحياء المباحثات مع الفلسطينيين تحت مظلة اتفاقية واي ريفر بلانتيشن.
هذه الوعود التي رفعها يهودا باراك رفعته الى سدة السلطة والحكم بالانتخابات الشعبية المباشرة لأن الناس في داخل اسرائيل ضاقت صدورهم من قتل الابناء والبنات في جبهات القتال فوق الأرض التي يحتلونها، ويتطلعون الى السلام مع الجيران العرب ليحموا انفسهم من خطر الموت الذي يتربص بهم في كل ركن من اركان المدن الاسرائيلية، وظن الناس في داخل اسرائيل وخارجها ان يهودا باراك سيحقق معجزة السلام في منطقة الشرق الاوسط.
رئيس الوزارة الجديد يهودا باراك بدأ عهده بقصيدة كفر باللاءات الستة على المسار الفلسطيني وبضرب الجنوب اللبناني قبل وبعد دخوله لمكتب رئاسة الوزارة وبالشروط غير المقبولة من سوريا لاعادة اجزاء من مرتفعات الجولان ومع ذلك يواصل العرب والعالم مغالطة انفسهم بجدية التوجه عند يهودا باراك نحو تحقيق السلام في اقليم الشرق الاوسط.
أكبر الاخطاء ان يغالط الانسان نفسه لان هذه المغالطة تدفعه الى المهالك وتتحول هذه المغالطة الى طامة كبرى اذا جاء تعاملها مع قضايا الوطن ومصير الامة وما يرتبط بهما من تحديد معالم الحياة على الارض التي رسمت اسرائيل حدودها وابعادها بجعل الاستسلام رديفا للسلام والعدل رديفا للظلم والحق رديفا للباطل ساعدها على ذلك ان امريكا جاءت الى البلاط الاسرائيلي لتقدم الولاء والطاعة وتطالب غيرها من الدول العربية المعنية بالسلام المجيء الى البلاط الاسرائيلي لتقدم هي الاخرى الولاء والطاعة لها حتى يتحقق السلام في ربوع الشرق الأوسط.
يجب ان نعرف ان الحاكم الديكتاتور لا يتحول الى حاكم ديمقراطي من تلقاء نفسه، وان الحرامي لا يصبح اميناً في ليلة وضحاها بنوازع الخير في نفسه، وان من يحتل الارض بالامس بقوة السلاح لا يتنازل عنها اليوم بالتفاوض السلمي طائعاً مختاراً بدون مقابل.
المنطق السياسي لا يقبل هذه النتائج لأنه يقوم على مبدأ المصالح المستندة الى معادلة خذ وهات مما يتطلب ايجاد ميزان ذهب حساس ليحدد مقدار الأخذ في مقابل مقدار العطاء على مائدة المفاوضات السلمية بين العرب واسرائيل، وبدون هذه المقاييس للمصالح المتبادلة يصبح التفاوض السلمي يماثل اللعب في الوقت بدل الضائع يفوز فيه من يتمكن احراز الجون الهدف الذهبي في اللحظة الحرجة من زمن مباراة التفاوض.
حاول بنيامين نتنياهو احراز هذا الهدف الذهبي من خلال عدم الالتزام باتفاقية واي ريفر بلانتيشن ففشل واخرج بلا رجعة من ميدان المفاوضات السلمية ويحاول يهودا باراك احراز نفس الهدف الذهبي بتبديل بنود الاتفاق في واي ريفر بلانتيشن ليلغي قانون التفاوض المتفق عليه واستبداله بقانون جديد يخدم المصالح الاسرائيلية ويضر بالمصالح العربية، والغريب في الأمر انه يطالب العرب الموافقة على هذا التغيير في مظلة التفاوض المتفق عليها في واشنطن.
هذا الدافع عند يهودا باراك جعله يطالب ياسر عرفات بواسطة المتحدث باسم رئاسة الوزارة الاسرائيلية ان يكون اكثر تفهماً للأوضاع المختلف عليها ليتحقق الصلح الفلسطيني الاسرائيلي لتقوم على ركائزه دعائم السلام في منطقة الشرق الاوسط.
لم يعد عند ياسر عرفات ما يتنازل عنه في سبيل السلام الا التخلي عن الوطن الفلسطيني بعد ان قدم العديد من التنازلات التي جعلته يصطدم مع الفرق الفلسطينية المعارضة للصلح مع إسرائيل، ووضعته في مواقف الضعف والوهن على موائد المفاوضات مع اسرائيل.
اذا دققنا النظر بامعان في مطالب يهودا باراك لوجدناها تسعى بالفعل الى الغاء الوطن الفلسطيني في ظل الحكم الذاتي او تحت مظلة الدولة ناقصة السيادة لانه اعلن بأن المفاوضات تسعى الى تحقيق الكيان الفلسطيني وهو مصطلح يعني في دلالاته القانونية اعطاء الفلسطينيين سمات الاقلية في داخل المجتمع الاسرائيلي بكل ما يترتب على ذلك من فقدان للحق في الارض واعتداء صارخ على حقوق الانسان الفلسطيني.
وعلى المسار اللبناني يخرج يهودا باراك عن التزامه بالانسحاب من الجنوب اللبناني خلال السنة الاولى من حكمه بوضع العراقيل لهذا الانسحاب تارة بمطالبة وقف عمليات حزب الله حتى تبدأ في الانسحاب، وتارة اخرى باللجوء الى قصف لبنان لتصعيد الموقف العسكري الذي يستحيل معه الانسحاب، وتحولت الجبهة اللبنانية الى ارض مشتعلة بالقتال وهو وضع يفوق في حدته احتلال الارض في الجنوب اللبناني.
واضح أن يهودا باراك يخالف كل قوانين الحرب بمطالبة اللبنانيين وقف المقاومة لاحتلال ارضهم حتى يبدأ الانسحاب منها، وهو منطق عقيم لان المقاومة للاحتلال لا تتوقف الا بعد زوال مسبباتها بالانسحاب من الاراضي المحتلة لم يأت هذا المسلك الاسرائيلي بمحض الصدفة وانما جاء بتخطيط يستهدف البقاء في الجنوب اللبناني بدليل تدعيم وجودها العسكري بالعمليات العسكرية الموجهة ضد لبنان التي تعدت الاقليم المحتل ووصلت الى العمق اللبناني كله.
وعلى المسار السوري يخاطب يهودا باراك دمشق بأن هذه المرتفعات في الجولان تمثل مصدر مياه رئيسية لاسرائيل وعمليات الانسحاب منها يتطلب سلسلة من الضمانات التي تجعل استمرار تدفق المياه منها لاسرائيل بجانب ان الانسحاب من مرتفعات الجولان لا يمكن ان يكون بالكامل لان دواعي الامن الاسرائيلي تتطلب استمرار وجودها العسكري على اجزاء من هذه المرتفعات لتحافظ على أمنها وتضمن انسياب المياه اليها.
رفضت سوريا رفضاً باتاً التنازل عن شبر واحد من الجولان وطالبت دمشق ان الصلح مع اسرائيل يتطلب انسحابها الكامل من كل الاراضي التي تحتلها في مرتفعات الجولان وان بدء التفاوض بين دمشق وتل ابيب يتطلب الاعلان المسبق بالانسحاب الكامل من هذه المرتفعات واتخاذ الخطوات العملية في الانسحاب في اثناء التفاوض الدائر ليتم الاتفاق النهائي على الصلح السوري الاسرائيلي وما يترتب عليه من سلام في منطقة الشرق الاوسط.
من الصعب ان تتفق اسرائيل مع المنطق الفلسطيني الذي يطالب بالعمل تحت مظلة اتفاقية واي ريفر بلانتيشن وبالمنطق اللبناني الذي يحدد وفق نضال حزب الله ضد الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني بالانسحاب منه وبالمنطق السوري الذي لا يقبل الا بالانسحاب الكامل من مرتفعات الجولان ليتم الصلح مع اسرائيل.
اقناع اسرائيل بالكلام قضية مستحيلة لان هذا الاقناع يتطلب مخاطبتها بالقوة تماماً كما فعلت مصر فلولا انتصار مصر عليها في سنة 1973م بعبور قناة السويس لما تحقق الصلح بين القاهرة وتل ابيب في كامب ديفيد، سوريا ولبنان تمتلكان لغة القوة في مخاطبة اسرائيل بنضال حزب الله المضاد لاحتلالها الجنوب اللبناني ومرتفعات الجولان، والفلسطينيون يمتلكون لغة القوة في مخاطبة اسرائيل بالادوار التي تقوم بها حماس في داخل اسرائيل.
اذا شعرت اسرائيل بويلات الحرب ضدها من حزب الله في خارجها ومن حماس في داخلها لسارعت الى المطالبة بالصلح مع السوريين واللبنانيين والفلسطينيين تحت وطأة ضغط الناس على الحكومة الإسرائيلية الجديدة حتى تحافظ على بقائها في السلطة ولا تخرج منها بإرادة الجماهير الاسرائيلية.