أبو الهول,, الذي لم تكن له أسرار تأليف: أوسكار وايلد *ترجمة: حصه إبراهيم العمار |
اتخذت لي مقعدا - ذات ظهيرة - أمام مقهى (دي لابيه)، وشرعت أتأمل روعة وبساطة الحياة الباريسية امامي وانا احتسي كأس العصير على مهل والعجب يأخذ مني كل مأخذ لما أراه من مفارقات تتبدى امام ناظري,, آلام وآمال, وفقر وفخر وعزة نفس تجرجر أسمال الماضي, وسمعت فجأة احدهم يهتف باسمي, والتفتُّ فرأيت زميل الكلية اللورد (مورتشيسون) وهو الذي لم ألتق به منذ غادرنا مقاعدها ما يقارب العشر سنوات,, عقد من الزمان مرّ! ولذا فقد سرتني رؤيته وتصافحنا بحرارة ولهفة, في (اكسفورد) كانت صداقة حميمة تربطنا, وكنت احبه كثيرا فقد كان أنيقا,, وسيما,, ذا روح معنوية عالية,, وجديرا بالاحترام والتقدير وكنا كثيرا ما نقول بأنه لولا شغفه بقول الحق,, لكان الافضل قاطبة,! على ان قدرا كبيرا من محبتنا له كان مصدره في واقع الامر صراحته المتناهية,.
ولمحت فيه تغيرا ملحوظا,, بدا قلقا محتارا,, أرّقه الشك حول قضية مجهولة وحدست بأن الدافع ما كان شكوكا دينية او سياسية اذ انه كان قوي الشكيمة واثقا من نفسه معتدا بذاته وخلصت الى ان امرأة قد تكون وراء ذلك كله فسألته عما اذا كان متزوجا.
- لا افهم النساء بما فيه الكفاية، قال بصراحته المعهودة,.
- أي عزيزي (جيرالد) قلت له جُعلت النساء لنعشقهن لا لنفهمهن,!
- لا استطيع ان اهوى امرأة لا اثق بها - اجاب.
- اعتقد بأن هناك لغزا غامضا في حياتك جيرالد, قلت - إليّ به,!
- فلنذهب في جولة بالسيارة - الزحام شديد هنا كلا ليست تلك العربة الصفراء,, أي لون آخر,, حسنا تلك الخضراء.
خلال دقائق كانت سيارة الاجرة تمخر بنا عباب الشوارع والازقة باتجاه (مادلين).
- اين نذهب؟
- الى اي مكان يروق لك، فلنذهب الى احد المطاعم وهناك تحدثني عن نفسك.
- لكني اريد ان تحكي لي انت اولا كل شيء - قلت - وتفك طلاسم حياتك,! واخرج من جيبه علبة مغربية صغيرة طليت بالفضة ثم دفع بها إليّ ففتحتها - داخلها,, كانت صورة امرأة طويلة نحيلة وبدت غريبة بعض الشيء بعينيها الواسعتين الغامضتين وشعرها المنسدل بعفوية على كتفيها كقارئة بخت,, ولاحظت انها ترتدي قطعة من الفرو الثمين,!
- ما رأيك بهذا المحيا,؟ اهو جدير بالثقة,؟
- وتمعنت فيه فبدا كما لو كان وراءه سر كبير غامض,! أكان سراً يحمل الخير أم الشر في طياته ذلك ما لم احزره كان جمالها مزيجا من اسرار عدة,, جمال معنوي لا شكلي وتلك الابتسامة الواهنة تنزلق بين شفتيها,, كانت تحمل المزيد من الغموض والاحجيات هدوءها كان - في واقع الامر - يتعدى حدود العذوبة,!
- حسنا - صاح في نفاد صبر - فماذا تقول؟!
- انها الموناليزا في ثياب الحداد,! قلت - اخبرني بكل ما تعرفه عنها!
- احدثك بذلك بعد العشاء,,! وشرع يخوض في امور اخرى.
عندما احضرت لنا القهوة ذكرت رفيقي بوعده,, وهب من مقعده فذرع الغرفة جيئة وذهابا ثم عاد الى كرسيه وقص عليّ ما يلي:
- كنت اسير ذات مساء أسفل شارع (بوند) وكان ذلك في الخامسة مساء وكان الطريق مزدحما الى حدّ توقفت السيارات معه عن الحركة,, والى غير بعيد من الرصيف لمحت سيارة خاصة شدت انتباهي واثناء مروري بها أطل من نافذتها ذاك الوجه الذي رأيته في الصورة قبل قليل,, وسحرني ذاك المحيا.
على الفور فوقعت في شراك العشق,, ظل ذلك الوجه في خيالي طيلة تلك الليلة ونهار الغد لا يبرح فكري وظللت اذرع ذلك الشارع,, اتفرس في وجوه الركاب وابحث عن تلك السيارة دون جدوى حتى وصلت الى خاطرة مؤداها ان ما رأيته كان وهما,, حلما جميلا,, او طيفا عابرا.
بعد اسبوع كنت على موعد عشاء في الساعة الثامنة, ولم يقدَّم حتى بعد ان جاوزت الساعة الثامنة والنصف, حين اعلن الخادم عن وصول السيدة (ألوري),, وكانت تلك التي رأيتها يومذاك وخطرت في رداء رمادي في خطوات هادئة وجلة فكأنما استحالت شعاعا انسل من ذؤابات القمر,, شد ما غزت السعادة قلبي حين علمت بأنها ستشاركني العشاء، وبعد ان اتخذنا مقعدينا اعلنت لها,, بمنتهى الصراحة, بأني قد رأيتها في تلك السيارة فتضرج خداها وشحب لونها فجأة,, اما انا فقد داهمني انزعاج لا يوصف جراء ذلك فرحت اخوض في مجال الدراما الفرنسية بعد ان اتسع الخرق على الراقع.
كان حديثها همسا,, ولم تستطرد ابدا,, جمل قصيرة كقطع موسيقية,, كانت كمن يخاف ان يسمع حديثه أحد,!
وغرقت في هواها فيما زادتني سحائب الغموض التي غلفتها فضولا في استشراف كنهها وعندما غادرت المكان - بُعيد العشاء - سألتها عما اذا كان في مقدورها ان اراها ثانية,, وترددت لوهلة ثم التفتت لتتأكد من ان احدا لم يكن يسترق السمع قالت:
- أجل غدا في الخامسة إلا الربع,!
ورجوت إحدى المدعوات ان تعطيني مزيدا من المعلومات عنها فما زادت على ان اخبرتني بأنها ارملة تقطن في منزل جميل ب(بارك لين)، وصلت مساء اليوم التالي في الموعد المحدد تماما على ان رئيس الخدم فاجأني بقوله ان سيدته قد خرجت وعدت الى النادي اجرجر أذيال الخيبة والمرارة و,, الدهشة وبعد تفكير طويل,, كتبت اليها رسالة اسألها فيها لقاءً آخر ولم أتلق - لعدة أيام - ردا ثم,, وصلتني رسالة منها تقول فيها ان بإمكاني ان اراها في الساعة الرابعة من يوم الاحد على انها ذيلت رسالتها بملحوظة رجتني فيها ألا اكتب لها على عنوان منزلها ثانية - سأشرح لك المسألة حينما أراك,,!
ولقيتها يوم الاحد - في الموعد المضروب - كانت ساحرة اثملني حسنها فأنا بها متيم وعندما ودعتها اعطتني عنوانا للكتابة لها:
(هناك اسباب تمنعني من استقبال الرسائل هنا) قالت.
والتقيت بها كثيرا على أن محيط الغموض الذي كان يغلفها ما فارقها أبدا,, كنت أحيانا أميل إلى الاعتقاد بأنها تحت نفوذ رجل ما على أن عدم إمكانية الاتصال بها جعلتني اطرح ذاك الاعتقاد جانبا,, واحتار دليلي,, ما وصلت الى نتيجة,, كانت كتلك التماثيل البلورية التي نراها صقيلة شفافة حينا وضبابية مبهمة حينا آخر وقررت اخيرا ان,, اطلب يدها بعد ان اخنتني تلك السرية الرهيبة المتواصلة التي فرضتها عليّ ورسائلي,, وكتبت اليها طالبا لقاءها في السادسة من يوم الاثنين وجاء الرد بنعم فشعرت بأن باب النعيم قد فتح لي على مصراعيه,,! كنت متيما بها,, مغرما حتى الصبابة على ان غموضها ظل يؤرقني,, لم أحببتها؟ وارجعت كل شيء للقدر فاستسلمت لقبضته.
- إذا فقد اكتشفت الامر,؟ سألت صديقي,.
- أخشى ذلك,, يمكنك أن تحكم بنفسك.
يوم الاثنين ذهبت للغداء مع خالي وفي الرابعة منه وجدت نفسي في شارع (مارليبون) - تعلم ان خالي يقطن في منطقة (ريجنتس بارك) ولقد اردت ان اتوجه الى (بيكاديلي) فآثرت ان أسلك طريقا مختصرا عبر عدد من الشوارع الجانبية الصغيرة وفجأة لمحت السيدة (آلوري) امامي,! كانت ترتدي غطاء سميكا وتحث الخطى في سير محموم,!
وعندما حاذت آخر منزل في الشارع صعدت السلم ثم اخرجت مفتاحا عالجته في الباب فانفتح,, هنا تكمن بؤرة الغموض,! قلت لنفسي,, وعاينت المنزل من الخارج,, كان من تلك الدور المعدة للتأجير ولاحت مني التفاتة فلمحت منديلها وقد استقر على السلم فالتقطته ودسسته في جيبي ثم اعملت فكري في ما ينبغي اتخاذه لاحقا,, ووصلت الى قناعة مؤداها انه ليس من حقي ان اتجسس عليها ولذا فقد عدت الى النادي وزرتها في السادسة,, كانت مستلقية على أريكة وبدت غاية في الجمال.
- كم تسرني رؤيتك - قالت - اذ اني لم اخرج طيلة هذا اليوم.
ونظرت اليها في دهشة,, ثم أخرجت منديلها من جيبي فدفعت به اليها.
- لقد اسقطت هذا المنديل اليوم في شارع (كومنر) سيدة آلوري,! قلت بهدوء,, وفي هلع نظرت اليّ,, على أنها ما حاولت ان تأخذ المنديل.
- ماذا كنت تعملين هناك.
- ليس من حقك ان تطرح علي هذا السؤال,,! أجابت.
- بل هو من حق إنسان يحبك - قلت - لقد جئت لأطلب يدك,!
ووضعت وجهها في راحتيها ثم,, أجهشت في بكاء عميق,!
- يجب ان اعرف,! قلت لها,!
ونهضت فجأة ثم نظرت الي مباشرة وقالت:
- سيد (مورتشيسون) ليس لدي ما أقوله لك!
- هل,, ذهبت للقاء أحدهم - أهذا هو سرك الغامض؟
وشحب وجهها حتى شابه وجه ميت قبل ان تقول:
- لم أذهب للقاء أحد,!
- صارحيني,! ألححت.
- قد فعلت,, أخبرتك بالحقيقة,, ما ذهبت للقاء أحد,,! وغرقت في بحار من الحيرة والدهشة حتى اضطرب كياني فتلفظت بعبارات كوّرها الغضب فلم أتذكر منها شيئاً إلا أنه بدا جلياً انها كانت ألفاظا لا تحتمل قبل ان اندفع خارجاً.
وتلقيت في الغد خطابا منها فأعدته كما أتى,, وسافرت الى (النرويج) بعدها مع صديقي (آلان كولفيل) ثم عدت بعد شهر لاصعق بأول خبر اقرؤه,! وفاة الليدي (آلوري)، بعد أن اصيبت بنزلة صدرية إثر حضور احدى حفلات الاوبرا ومفارقتها الحياة في بحر ايام خمسة لاحتقان في الرئتين,!
وحبست نفسي فلم اسمح لأحد بزيارتي ظللت اقتات الألم والندم والحيرة والحسرة,, لقد كنت متيما بها غاية يا إلهي كيف اجتاح غرام تلك المرأة كياني.
- وذهبت الى ذلك المنزل في شارع (كومنر)؟ سألته.
- أجل - جاءني رده - اتجهت الى ذلك الشارع يوما لم استطع ان امنع نفسي من ذلك,, إذ ان الشك قد زلزل ذرات ذاتي فلا يهدأ لي بال او حال,, طرقت الباب ففتحت لي سيدة مهيبة وسألتها عما اذا كان لديها غرف للتأجير - حسنا سيدي - أجابت,, يفترض ان تكون غرف الجلوس مؤجرة - على اني ما رأيت السيدة منذ اشهر ثلاثة وبما ان موعد السداد قد حل فإن بإمكانك استئجارها سيدي.
- أهذه هي السيدة التي كانت تسكن فيها؟ سألتها مُوريا إياها الصورة.
- هي بعينها - أجابت في اندهاش - ومتى ستعود؟
- لقد ماتت - قلت -
- أواه سيدي,! ارجو ألا تكون محقا - قالت في ألم - لقد كانت أفضل ساكن هنا,, لقد كانت تدفع لي ثلاثة جنيهات كل اسبوع كي تمر فقط فتبقى قليلا هنا,!
- هل,, كانت تقابل شخصا ما,, هنا؟ سألتها في لهفة شابتها لوعة وترقب.
على ان السيدة نفت ذلك تماما وأكدت بأنها كانت تأتي بمفردها دوما ولا يأتي لزيارتها أحد.
- فماذا كانت تفعل هنا بربك؟ صرخت طارحا سؤالي,!
- كانت تأتي كيما ترتاح هنا وتنغمس في القراءة,, وكانت احيانا تحتسي الشاي هنا جاءني رد المرأة,!
ولم أدر ما أقول,, احترت غاية ونفحتها جنيها فغادرت المكان,, أترى يا صديقي معنى لكل ذلك؟ وهل تظن بأن المرأة كانت تكذب؟
- لا أظن ذلك,.
- فلماذا اذاً كانت مدام (آلوري) تذهب الى هناك؟
- أي عزيزي جيرالد - قلت له بلطف,, فتاتك تلك تهوى الغموض والإبهام,, لقد اكترت ذلك المسكن كيما تغطي وجهها وتتسلل الى هناك خلسة فتقرأ وتقرأ وتتقمص شخصية بطلات الروايات كانت ميالة للغموض غاية على ان المسكينة لم تكن في حقيقة الامر أكثر من (أبي هول يبحث عن سر ينقصه).
- أتظن ذلك حقا؟
- بل اني متأكد منه تماما!
وفتح العلبة المغربية الصغيرة فتأمل الصورة ملياً ثم أعادها إليها وتمم: ليت شعري احقا هو؟!!
تمت
|
|
|