Sunday 1st August, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 19 ربيع الثاني


فضاء الكتابة
ارتحالات الجسد والروح 2 - 5
أحمد الدويحي

في الطرف الآخر من احد الجبلين طريق تؤدي الى مغارة عميقة في داخل الجبل، عبارة عن (سونا) طبيعية, ومياه حارة حارقة، بني بجوارها مسجد صغير ودكان وشجرتا نخل زرتهما قبل العودة الى عمان, لأقف على جزء من برنامج علاجي, سألت الرجل الواقف في مدخل المغارة يبيع مياهاً باردة ومرطبات وبسكويتاً عن كيفية الوصول الى المغارة وامكانية رؤيتها الآن,.
قال (ناصر) الذي صار صاحبي فيما بعد:
- الزمن الآن للنساء,, وسيبدأ موعد الرجال بعد السابعة,.
وكان عليّ أن انتظر اكثر من ساعة, فبحثت عن سائقي عطا, فوجدته يحادث رجلاً يمانياً عجوزاً مريضاً بالكلى والسكر, ويفتر ش قطعة كرتون, يتقاسمها مع ابنه وقد جاء لمرافقته تحت احدى الشجر, يأكلان وينامان ويغتسلان في هذا المكان, مما جعل حالته الصحية وظروف حياته تثير شفقة زوار (ما عين) الذين تفرقوا بين شجر ينمو على جال ماء يجري ساخناً في وادي (ماعين), ناديت عطا احثه لنغادر قبل حلول الظلام الى عمان, وسمعت (ناصر) يصيح بي وقد كدت اركب سيارتي:
- يا أخ الشفاء من الله,, اذا عزمت فتوكل,, (ابو عبده) الرجل الناصح في غرفة (التطين) وهو الذي ممكن يفيدك,.
هززت رأسي موافقاً وفي نفسي اقول ان شاء الله فسمعته يقول وقد اخرجت له رأسي من باب السيارة:
- لا يهمك الدكاترة كلهم هلس, من يومين كانت عندي (ليلى) بنت لبنانية وكل الله ما عرفتها تعالجت على يديه.
شكرته ومضيت وعطا على عمان, وقد اضمرت في داخلي بأن لا بد ان اتخلص منه بأدب, وقبل هذا لا بد ان اصرف شيكات, لاتغدى واشتري كتباً وكل مستلزمات (العزلة) الاختيارية المنتظرة، ثم احاسبه حتى يرضى وقد كان,.
بعد سفر يوم شاق,, ورحلة طويلة براً وجواً,, طلبت من فندقي ان يعمل لي (شيك آوت), ويوقظني الرابعة صباحاً بعد ان يكون قد أمن لي سيارة تنقلني الى (ماعين) ولهول ما حدث في الصباح فوجئت ان عطا ينتظرني في سيارته ويبادر بنقل حقائب سفري الى سيارته في الساعة الرابعة صباحاً,.
ودعت (ابراهيم) الطالب في جامعة فلادلفيا الامريكية المتورط في ايجار سكن الفتاة الاماراتية التي لم تدفعه, والعامل في هذا الفندق والمتبرع لي بالبحث عن كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية) لروجيه جارودي ليكون جاهزاً فور عودتي,.
ركبت الى جوار عطا, وقبل الخامسة صباحاً قبل ان تهوي خيوط الشمس في عمق وادي (ماعين), كنت اتشبث بمقعدي عبر منحدرات جعلتني افقد الرغبة في استئجار سيارة, تجعلني اذهب لمراكز العلاج في (ماعين) واعود للمبيت في عمان وافقد متابعة نشاطات ثقافية في جرش, ومباريات رياضية مغرية واختيار البقاء في (ماعين) بين غرفتي في الفندق والشلالات والمغارة وغرفة (التطين) كما حدد لي طبيبي برنامج علاجي.
أرسلت حقائب سفري الى غرفتي الجديدة في الفندق الوحيد الضخم في (ماعين) وودعت سائقي عطا بالقبلات مطمئناً بانه لن يعود,.
ولأن موعد طبيبي لم يحن بعد فما زال لدي ما يقارب الساعة والنصف من الزمن قبل ان اخضع لأول رحلة علاج تقترب من شهر كامل, فقد لبست ملابس السباحة وهبطت بصعوبة الى شلالات, رأيت الناس امس تحتها ولحسن الحظ فالوقت ما زال مبكراً جداً, ولم يكن هنا عدد من الناس فقط ثلاثة او اربعة متفرقون على مساحة الشلال الممتدة بطول الوادي اخترت مكانا منزوياً ووقفت اسند ظهري للجبل, ادعك جسدي وصدري المتعب بمياه حارة تنساب مخرخرة من اعلى الجبل وتشكل جدولاً في عمق الوادي فاذا برجل عجوز يقترب مني بصحبة صبي ظننته ابنه يعاني من نفس مرضي ما لبثت ان اخذ يحادثني وفعل الصبي كذلك ثم اخذ يتسلق الجبل عبر الشلال وقد اندمجت معهما في حديث عن مياه (ماعين) الحارة والمرض فجأة (!!) طلب العجوز من الصبي بتذمر ان يخرجا من الماء ليتركاني وحيداً رغم عدم رغبة الصبي ليداخلني الخوف والخجل والشك بان الناس ستنفر مني وسيذهبون بعيداً خوفاً من عدوى المرض,.
كادت هذه الحادثة بالذات ان تفسد رحلتي وراودتني النفس الامارة بالسوء استقل اول حافلة او وسيلة نقل لأهجر (ماعين) ومياهها الحارة والعلاج الى الأبد, ظللت اراقب الرجل في مكاني مذهولاً, وامرأة بدينة وثلاث صبايا يتبعنها يقتربن مني وغطست المرأة البدينة في الماء وظل الثلاث صبايا خارج الماء, وامهن تلقي علي تحية الصباح, والشمس التي ترسل خيوطها الذهبية والحياة في وادي (ماعين), وتسند ظهرها للجبل وتبادلني كلاماً لم يجعلني خرير الماء افهم شيئاً منه, خجلت من نفسي وقد بقيت في هذا المكان الرجل الوحيد, خرجت اتبع الرجل العجوز المتذمر والصبي, وربما ابلغ طبيبي بعدم رغبتي في اكمال مراحل العلاج,, نظراتي الحانقة تتابع الرجل السبعيني، وقد وضعت احرامي على رأسي, وفوق ظهري وانفاسي تتلاحق والهث, ولشدة ما راعني انه يقفز صاعداً كماعز جبلي وفي يده سيجارة تهاويت في منتصف الطريق اعياني التعب ولم يعد بي حيل لملاحقته, اقتعدت حجرا وادرت وجهي للشلالات,, البنات الثلاث غطسن في الماء مع امهن, اخذتني رؤية المشهد, واعادتني لسنوات بعيدة في طفولتي تعقب هطول الامطار والغدران ولم ادر الا وصوت مزمجر زاجراً يأتي من الماء من احدى الصبايا:
- انقلع,, اقلب وجهك,,, (!!),.
تأكدت ان لا احد غيري معني بسبابها حركت رأسي ايماءة اعتذار وانسحبت بخجل.
دخلت مركز العلاج انتظر طبيبي سألت المرأة العراقية في مكتب تسجيل المواعيد المتخصصة في علاج السيدات قبل وصول الطبيب عن (ابو عبده), الرجل الناصح, أود ان اطمئن قبل التورط في رحلة علاج طويلة، وصل الطبيب وكانت المرأة العراقية تتماحك وتتساءل لم تعطني جواباً بعد,, اخذت مكاني في مكتبه نتبادل كلمات المجاملة بعد لقاء الأمس الساخن فاذا برجل سمين هادىء الملامح يدخل ويلقي علينا تحية الصباح وقفت بفرح وصحت به مرحباً:
- أهلاً,, (ابو عبده) أكيد,,؟!
- أهلاً وسهلاً,.
رد ومد يده مصافحاً,, وعلى وجهه الهادىء ابتسامة عذبة ناوله الطبيب ملفي اشار له ان يعتني بي بشكل خاص نظرا لحالتي النفسية والمرضية مشيت خلف (ابو عبده) عبر ممرات مائية وبشر ومرضى يسبحون ويغتسلون في حمامات وبرك سباحة ومغاسل اجرجر اقدامي خلف (ابو عبده),, دون اعتراض او سؤال وقبل ان نصل للغرفة الأخيرة انعطف يساراً ومال علي قائلاً:
من اوصاك علي,,؟!.
شعرت انني اندمجت معه بما يكفي, وقد اخذتني مناظر المرضى حول البرك وكأنهم اعجاز نخل او ضحايا حروب ونسيت مرضي وقرفي وهمّ شهر سأقضيه بين جبلين وبين يدي (ابو عبده) فاذا بي في حالة هيتسرية من الضحك وقد كان خفياً وانا اتأمل مشوار (ابو عبده) بين الأجساد المتناثرة وسؤاله معلقاً فالتفت الي كأنه ينتظر الجواب عمن دلني عليه, وقد بدأت ملامح غرفة (التطين) تتضح بل انني صرت في داخلها فقلت بلا مبالاة:
- صديقي المثقف المبدع اللامع الذي شاركني الليلة الأخيرة (,,,) وذكرت له الاسم بدون مقدمات,,!!
وبذات الفرح وروح الفكاهة التي تغمرني رد ابو عبده قائلاً:
- اهلا,, وسهلاً,, ايه والله!!.
لم تفتني الطرفة وقد ايقنت ان (ابو عبده) لم ير وجه صديقي يوماً ما, ولو صورته في احدى الصحف، لأن (ابو عبده) لا يقرأ الأدب وما اظنه الا كذلك,, لكنه عاش في المانيا احد عشر عاماً وقضى بقية سنوات عمره الأخيرة في هذا المكان ما بين مكتب الطبيب وغرفة (التطين) وسألته مباشرة:
- هل لا زلت تذكره,, لقد جاءك قبل اربع سنوات؟!.
- نعم,, نعم الله يذكره بالخير.
واضاف بثقة تجعلني اضحك كلما تذكرت:
- هل ما زال في الدمام,, ولا انتقل للرياض,,؟!.
- طبعاً لا زال في الدمام,,!!
- هذه غرفة (التطين) كل من يدخلها لن انساه او ينساني,,!!.
وفي غرفة (التطين) برميل مليء بطين البحر الميت الساخن وسرير ولفة بلاستيك فجأة (!!) التفت (ابو عبده) وكنت لا أزال خلفه وقد تغيرت ملامح وجهه الهادىء وكأنه قائد عسكري يصدر علي اوامره:
- اخلع ملابسك يا الله,,!!.
وحينما لاحظ ترددي وخوفي وخجلي اضاف بذات النبرة الآمرة.
- أحنا رجال يا الله,,!!.
تطلعت في وجهه مستسلماً قبل ان يغسل جسدي في الطين الساخن غير آبه بصياحي او ادنى شفقة بتأوهاتي ثم غطاني بلباس بلاستيكي يسهم في زيادة الحرارة ويطفىء الضوء ويسحب الباب خلفه ليتركني مغموساً في الطين عيناي وحيدتان تسبحان في ظلام دامس ويخرج,,.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved