ظل موزارت يأسر كتاب سير الحياة منذ ان ظهرت اول رواية عن حياته عام 1798، بعد سبع سنوات من موته المبكر, وقد نظر اليه هؤلاء الكتاب على نحو متباين، اذ اعتبره البعض طفلا خالدا، بينما رأى فيه البعض الاخر اخفاقا مأساويا, وأياً كان هذا التباين، فقد احتل موزارت مكانته المتميزة بين المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين, وبالنسبة لكاتبي السير في القرن التاسع عشر الذين صاغوا حياة اولئك المؤلفين الاسطوريين، فان ما امكن معرفته عن هذا الموسيقي النمساوي الذي عاش في القرن الثامن عشر كان يمر عبر العدسات الرومانتيكية التي كانت تنظر الى الفنان باعتباره عبقرية معذبة, فقدم للقراء مؤلفا كانت موسيقاه تتخذ شكلها المثالي في رأسه كما لو انها قوة لا يمكن للانسان ان يسيطر عليها، شأن ذلك القداس الغامض، اخر اعمال موزارت، الذي ظل غير مكتمل بسبب موت مبدعه في ظروف فقر مدقع.
وفي قرننا الحالي، وفي ضوء وثائق جديدة، ومناهج تفسير مختلفة، جرت ازالة طبقات الاسطورة بدراسات اتجهت الى اعادة التفكير الراديكالية بالمؤلف الموسيقي الكبير كما في كتاب وولفغانغ هيلد شايمر (موزارت) - 1977، او الدراسة التفصيلية العميقة (حياة موزارت) - 1995.
وقد اعيد مؤخرا نشر كتاب هام عن موزارت كتبته عام 1937 الروائية الالمانية انيتا كولب, وفيه اعتمدت، الى حد كبير، على رسائل موزارت، ومعظمها رسائل طويلة، لكن المؤلفة تبدو غير مستعدة لتصور ان تلك الرسائل قد تعكس موزارت كما اراد ان يصور نفسه لمتلق معين، وخصوصا والده الذي كان يتسم بنزعة استبدادية وفي كتاب كولب نجد كل الاساطير المألوفة, فديون موزارت الكبيرة اواخر ثمانينات القرن الثامن عشر تفسر، مثلا، سوء تصرفه المالي، وتبذيره, كما نجد ذلك اللوم الذي وجه البعض الى زوجة موزارت على المصاعب التي عانى منها في سنوات حياته الاخيرة , وعلى اهمية المعلومات الواردة في هذا الكتاب، كان على الناشرين الذين اعادوا اصداره ان يضمنوه مقدمة، لابد انها مفيدة، عندما تلقي الضوء على التقدم الذي حصل في الدراسات والابحاث الخاصة بموزارت منذ الثلاثينات، والظروف التي كتبت فيها هذه السيرة التي صورت موزارت انسانا تنتابه هواجس الموت منذ عمر مبكر، بطريقة توحي انها هواجس المؤلفة نفسها، اكثر منها هواجس موزارت او موسيقاه.
ولا غرابة في ان يبدأ سردها باسطورة موزارت الاوسع انتشارا، دفنه من دون مشيعين في قبر دفع ثمنه محسنون، اثناء عاصفة عنيفة.
والى جانب ذلك نجد الكتاب الجديد الذي كتبه جون روزيلي تحت عنوان (حياة موزارت)، وفيه يشير الى ان جنازة موزارت كانت متواضعة، وكانت شبيهة بجنازات معظم معاصريه في فيينا.
ويلفت الانتباه في كتاب روزيلي انه يرفض التأمل في أي شيء غير موثق من قبل مصادر يعتمد عليها, ومن دون ان يقدم روزيلي نظريات جديدة، يؤكد ان هناك الكثير بشأن حياة موزارت مما يصعب معرفته، وفي هذا الاطار ينتقد منهج الحدس السايكولوجي الذي اتبعه بعض من كتبوا سيرة حياة موزارت, لكنه يقدم، من ناحية اخرى، تقديرات تبدو متطرفة، حينما يعتبر ان موزارت هو، وحده، المسؤول عن الدافع الرومانتيكي الجديد للموسيقى، الذي يجسد الحياة ، والحب، وظلال الموت، وتجارب الفرد العميقة.
ان روزيلي يتسم بحماس شديد لجعل موزارت وموسيقاه ممثلين ل عالم على حافة تغيير ويتميز بدقة ملحوظة في استكشاف سياقات المكان والزمان، واستخلاص مقارنات جذابة مع عباقرة الموسيقى في القرن العشرين, وربما افتقرت دراسته الى الجرأة، والتفاصيل، التي تميز سيرا حديثة اخرى، لكنها تبقى، مع ذلك، مفيدة جدا، ويمكن اعتبارها مقدمة شاملة عن حياة موزارت وابداعه.
ومن المعروف ان موزارت ولد في سالزبورغ في 27يناير/ كانون الثاني عام 1756 لاب موسيقي هو ليوبولد موزارت, واظهر موزارت الابن علامات مبكرة على عبقريته، اذ تعلم السلم الموسيقي في الثالثة او الرابعة من عمره، وبدأ التأليف ، تحت اشراف والده، وهو في سن الخامسة واخذه والده مع شقيقته (وكان عمرها حينئذ 11 عاما) الى ميونيخ عام 1762 ثم الى فيينا حيث عزفا في القصر الامبراطوري واثر هذا النجاح قام بجولات مع والده وشقيقته في عدة مدن اوروبية كانت بينها لندن حيث عزف موزارت عام 1764 امام العائلة المالكة, وفي لندن اقام صداقة مع باخ وعمل معه قبل ان يعود عام 1766 الى سالزبورغ ليواصل الدراسة والتأليف قبل انتقاله وعائلته عام 1767 الى فيينا, وكانت تلك سنوات انطلاقته المدوية في عالم الموسيقى الكلاسيكية حيث الف اعمالا ظلت قيمتها الفنية تزداد بمرور الزمن.
ويعتبر نقاد الموسيقى ان موزارت نقل الاوبرا الى ذرا الابداع الموسيقي، والحقيقة الدراماتيكية، وتألق التعبير، وقد حول شخصيات الاوبرا الى كائنات انسانية مميزة، بعد ان كانت نماذج مألوفة.
وكان عام 1791 عام عمل مرهق اسهم في رحيل موزارت المبكر حيث توفي في الخامس من ديسمبر/ كانون الاول 1791، تاركا عمله الموسيقي الشهير (قداس) ناقصا، وهو ما أكمله احد تلاميذه من بعده.
ويعرف عن موزارت انه اعتاد، عبر حياته، على العمل في ظروف غريبة, فقد كتب جزءا من رباعيته الوترية عندما كانت زوجته تلد طفلهما الاول في الغرفة المجاورة, وكان مولعا جدا بلعبة البلياردو، ولعبة القناني الخشبية، وغالبا ما كان يؤلف اثناء ممارسة هاتين اللعبتين, وبعد فترة قصيرة من كتابة ثلاثية (لعبة القناني الخشبية) عام 1787 سافر موزارت الى براغ لتقديم العرض الاول لعله (دون جيوفاني).
وعلى الرغم من الظروف المالية الشاقة تواصلت البروفات الى ان حدثت مشكلة مع زرلينا، احدى بطلات عمله، التي كانت تتميز باحتشام شديد، وكان عليها ان تصرخ بقوة وهي ترد على عرض دون للصداقة، ولكنها لم تكن تطلق تلك الصرخة بالطريقة التي تقنع موزارت, فما كان منه الا التسلل زحفا عبر المسرح الخافت الضوء ليقف خلف المغنية ويقرصها بشدة من ذراعها لتطلق الصرخة المطلوبة.
وعندما اقترب يوم العرض كان على موزارت ان يسرع بطريقة غير مألوفة، ذلك انه لم يكن قد كتب الافتتاحية بعد، فاضطر الى السهر ليلا ومواصلة العمل المرهق حتى السابعة صباحا ليسلم مخطوطة العمل الموسيقي الى من يستنسخونها في صباح ذلك اليوم الذي قدم فيه العمل.
|