لقد كانت الصناعة الثقيلة التي بدأت الدعوة الاسلامية فأقامتها، منذ المرحلة المكية، هي صناعة الصياغة الاسلامية للانسان الذي تدين بدين الاسلام,.
وكانت دار الارقم بن أبي الارقم - في مرحلة سرية الدعوة الاسلامية - اي منذ فجر - تلك الدعوة - هي اولى المؤسسات التربوية التي اقامها رسول الله عليه الصلاة والسلام,.
وقبل فتح المسلمين للمدائن والأمصار والأقطار، وقبل إقامة الدولة,, وتغيير الواقع,, وتطبيق القانون,, وبلورة العلاقات الدولية,, كان الفتح الاسلامي للقلوب والعقول بهدى القرآن الكريم، ذلك الذي اصبح خلق سلوك وممارسات وسجية للحياة التي يحياها المسلمون,, بل أن اولى المدن التي فتحها المسلمون - قبل الهجرة النبوية,, وقبل الدولة الاسلامية - وهي المدينة المنورة - قد فتحها المسلمون بالقرآن الكريم!!.
وبعد انجاز الصياغة الاسلامية - بالتربية للانسان, جاءت كل الانجازات والفتوحات، وفي ميادين الحضارة وعلومها والثقافة وآدابها وفنونها,, فكانت تجسيداً لهذا الذي سبق وتم انجازه في نفس الانسان، جاءت جميعها مصاغة بمعايير الاسلام، التي سبق وصاغت نفوس وعقول وقلوب الذين اهتدوا بهدى الاسلام.
* ان الدعوة الدينية - في الاسلام - لم تقف عند حدود تدين الانسان، وتحقيق عبوديته لله بالشعائر المعبرة عن الايمان القلبي، والمفصحة عن علاقته بالسماء,, وانما امتدح هذه الدعوة - لتحقق ائتلاف هذا الانسان بالأمة، والمجتمع، والكون، فتوحدت في نفس هذا الانسان عوالم الغيب والشهادة، وائتلفت فيها وتوازنت علاقات الفرد بالمجموع، والخاص بالعام، فتدينت الدنيا مع بقائها دنيا، عندما صاغ الاسلام نفس الانسان المسلم ووجدانه وعقله تلك الصياغة التي ائتلفت فيها وتوازنت آيات الله في الوحي السماوي بآياته في الأنفس والآفاق,.
* إن دين الاسلام لا يقوم ولا يقام بالتبتل الفردي والخلاص الذاتي، وانما لا بد لاقامته وتحقيق كامل فرائضه من أمة ووطن واجتماع ومجتمع، وفروض اجتماعية يتوجه الخطاب فيها والتكليف بها للأمة، وهذه الفروض الاجتماعية أهم وآكد من الفروض الفردية، بدليل ان اثم التخلف عن الفريضة الفردية يقع على الفرد وحده، بينما اثم التخلف عن الفريضة الاجتماعية يقع على الأمة جمعاء.
* وفي دين الاسلام اقترنت الهجرة في سبيل الله بتأسيس الدولة واقامة المجتمع، وتطبيق القانون، واقامة نسيج اجتماعي بين الرعية يحقق المؤاخاة، لا في الحقوق الدينية المجردة فقط، انما في امور المعاش الدنيوية ايضاً,, بل لقد امتد هذا النسيج بمعايير المواطنة وحق الاختلاف حتى في الدين الى حيث ضم هذا النسيح غير المسلمين مع المسلمين.
فالهجرة الى الله ليست رهبانية، تخلص فيها وبها الذات، بمعزل عن الحياة والناس,, بل ان رهبانية الأمة الاسلامية هي الجهاد، الذي هو فريضة اجتماعية تستلزم وجود الأمة والوطن والاجتماع,,
* لقد أحدثت الدعوة الدينية الاسلامية اثراً تكوينياً تربوياً في شخصية الفرد المسلم، اصبح عاملاً نفسياً حقق ائتلاف العناصر الفردية في المجتمع الاسلامي، الطبيعي منها والشرعي، المدني منها والديني، العقلي منها والنقلي، المادي منها والمجرد,, فكان ذلك الائتلاف حضارة اسلامية، ابدعها الانسان الذي صاغته الدعوة الاسلامية,, وتلك خصيصة من خصائص الدين الاسلامي والحضارة الاسلامية,, فالرسالات الدينية التي سبقت رسالة الاسلام الخاتمة، اما انها تزامنت مع حضارات غيرمتدينة فتعايشت معها، دون ان تغيرها وتصبغها، بسبب وقوف تلك الرسالات عند حدود خالص الدين,, واما ان تلك الحضارات السابقة على الحضارة الاسلامية قد عاشت في ازمنة الفترة التي خلت من رسالات الدين,,
بينما تميز الاسلام بكونه دينا فجر حضارة وصاغ مدنية، واثمر اجتماعا انسانياً، والف في نفس الانسان - بالمنهاج التربوي الشامل - ذلك الائتلاف المتوازن الذي جعل هذا الانسان يبدع الحضارة المصطبغة بصبغة الدين,, لقد حقق الدين الاسلامي الائتلاف والتوازن والامن في نفس الانسان المسلم فجاء الابداع المدني لهذا الانسان - اي الحضارة الاسلامية - ثمرة مجسدة لهذا الذي احدثه الدين في نفس هذا الانسان,, فلما حدث وبعدت هذه الحضارة وثقافتها عن هذه الصبغة كان هذا الخلل الذي نشكو منه، والذي حدث منذ قرون، والذي تطبّ لدائه كل دعوات وحركات الاصلاح في أمة الاسلام.
* ومن دعوات الاصلاح من سلك طريق الفردية المطلقة، الباحثة عن خلاص الذات الفردية، وتنكب طريق المجتمع والحضارة - كالصوفية المغالية في التحلل من الضوابط والمعايير الاجتماعية للشريعة -,, ومن المصلحين من ارجع الداء الى الفكر - كحجة الاسلام الغزالي ]450 - 505ه 1058 - 1111م[ ومنهم من ركز على تنقية العقيدة مما شابها وطرأ عليها - كشيخ الاسلام ابن تيمية [661 - 728ه 1263 - 1328ه[ ومنهم من عالج جانب الشريعة بابراز مقاصدها - كالشاطبي ]790ه 1388م[ ومنهم من ركز على الجانب السياسي في عوامل الخلل - كجمال الدين الأفغاني ]1254 - 1314 ه 1838 - 1897م[ ومنهم من لفت الأنظار الى اصلاح مناهج الفكر والتجديد كالإمام محمد عبده ]1265 - 1323ه 1849 - 1905م[.
* ثم كان العصر الحاضر - عصر الأخذ عن الغرب - والذي شهد ثمرات واضحة لكل دعوات الاصلاح السابقة,, ومع ذلك بقي الخلل,, وبقيت الأمة تبحث عن مفتاح الاصلاح وطريق الخلاص والنهوض.
* واذا كان الاسلام هو سبب تقدم المسلمين ونهوضهم الحضاري، وازدهارهم الثقافي,, فما سبب التخلف الذي اصاب المسلمين مع بقاء الاسلام كما هو، على حاله الذي كان عليه عندما فجر ينابيع التقدم في الحياة الاسلامية؟.
ان السبب هو غيبة الروح - روح الدين الاسلامي - عن الحضارة - الحضارة الاسلامية,, هو انقطاع الاتصال بين الاسلام وحضارة المسلمين,, هذه الروح التي جعلت الحضارة الاسلامية بل والتي فجرتها وصبغتها بصبغة الاسلام.
لقد جلس الحسن البصري ]21 - 110ه 642 - 728م[ الى واعظ من الوعاظ فلم يتأثر قلبه بموعظته فسأل الحسن الواعظ: يا اخي ابقلبك مرض ام بقلبي ؟!,, ان انقطاع الاتصال لغيبة الروح هو سبب المرض والمأزق الحضاري الذي تطب له وتبحث عن علاجه مختلف مدارس الاصلاح.
فما هي هذه الروح التي جعلت الاسلام، دون الديانات الاخرى يصنع حضارة وثقافة، ولا يقف عند مجرد الدين؟.
واين موطن الخلل الذي عطل الفعل الاسلامي في الحضارة والثقافة,, فتراجعت الحضارة الاسلامية وضمرت الثقافة الاسلامية، مع بقاء الاسلام الدين كما هو، وبقاء الايمان به والاستمساك بعراه؟,.
لقد عرض الشيخ محمد الفاضل بن عاشور لهذه القضية المحورية عندما تحدث عن:
1 - تميز الاسلام الدين بافراز الحضارة وبناء الثقافة,, فاذا كان الاسلام باعتباره دينا يشترك مع غيره من الأديان في القضايا التي هي موضوع الديانات عامة، فان للاسلام نواحي ينفرد بها عن تلك الديانات التي اشترك معها في القضايا الدينية بصفة عامة، اذ تكون له جهات اتصال بالثقافات والحضارات ليست لغيره من الاديان الاخرى,, فهذه التي نسميها الحضارة الاسلامية، او تلك التي نسميها الثقافة الاسلامية انما هي سلاسل من الاحداث والاوضاع والكيفيات الاجتماعية والذهنية كان الاسلام مبدأ نشأتها وسبب تكوينها,, فلم يقف الاسلام عند التعايش مع العلم وانما اصبح كل موضوع علمي ذا صلة بالعقيدة الدينية,, وصار الارتباط بين الدين والمعرفة العقلية، او بين علم الطبيعة وعلم ما وراءها ارتباط التفاعل والتماذج,, ونشأ من ذلك اتجاه نحو الحياة والسلوك فيها يدفع به العامل الديني الاعتقادي في كل وجه من وجوهه، وسبيل من سبله,, فصار الداعي الديني يتجلى فيما يصنع العالم وما ينتج الاديب، وما يصوغ صاحب الفن,, وصارت المعرفة العلمية سنداً لكلام المتكلم وفقه الفقيه وتصوف الصوفي، على الصورة التي ربطت عناصر المعرفة، واخرجت كتب العقيدة الاسلامية جامعة للمعارف الطبيعية والرياضية والانسانية مع الحقائق الاعتقادية، يتجانس فيها العلم مع الدين ويتساند العقلي والنقلي,, لقد تكون المجتمع الاسلامي بإثر دعوة دينية,, انه مجتمع ديني بالمعنى الأخص كان الدين فيه العامل الأول المباشر,, ومن دعوة الدين والايمان بها، اكتسب الشعب الذي استجاب لتلك الدعوة وامتاز بذلك الايمان خلالاً نفسية جديدة,, لم يستفد علماً ولا صناعة ولا قوة مادية ولكن الذي اكتسبه من الخلال طوع العلم والصناعة والقوة المادية، فكانت المدارك الدينية وحدها هي التي فتحت امام نظر المسلم آفاق الكون للتأمل والاعتبار والمعرفة والايمان.
فالحقيقة الاعتقادية الالهية هي الاساس لكل ما بنت الحضارة الاسلامية من هياكل حسية ومعنوية، وانسان هذه الحضارة بالدين فكر,, وبالدين تحضّر,, وبالدين انتج آثار حضارته وبالدين اقام الدولة الصائنة للمجتمع وحضارته,, وكذلك استمرت مظاهر الحضارة متصلة في نفسه بالدين وعوامل الدين فعالة في مظاهر الحضارة,,
2 - كذلك امتازت هذه الحضارة الاسلامية وثقافتها بالتوازن والانسجام لأنها ثمرة لامتياز الاسلام بتحقيق التكامل والتوازن والانسجام في مصادر المعرفة الانسانية,, فكل الحقائق المتصلة بالمادة والمتصلة بما وراءها هي في متناول الانسان، يستطيع ان يتوصل اليها بمداركه العديدة المدرّجة المستند بعضها الى بعض في غير تنافر ولا تدابر ولا تناشز,, فالمدركات الغريزية وراءها المدركات الحسية، ثم المدركات الحسية وراءها المدركات العقلية,, ثم المدركات العقلية تؤدي الى المقدمات المفضية الى تلقي المدركات الغيبية الآتية من طريق الوحي والي التسليم بها والاذعان لها,, وتبقى هذه المدركات كذلك متعاونة متساندة لا يمكن ان يحصل بطريق واحد منها ما يتناقض مع الحاصل من طريق مدرك آخر، الا ان بعض ما يقصر عن الاحاطة به احد هاتيك الطرق يمكن ان يتصل به طريق آخر منها حتى تنتهي الى الاذعان للمدركات الحاصلة بالطريق الخارق للعادة وهو طريق الوحي,.
فعقل الانسان وعقيدته وحسه المادي وعواطفه الغريزية كلها متجانسة متعاونة لا يخشى بعضها بعضا، ولا يقطع احد سبيل الآخر.
|