Sunday 25th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 12 ربيع الثاني


فضاء الكتابة
ارتحالات الجسد والروح 1 - 5
احمد الدويحي

جاء يودعني,, يقضي معي الليلة الأخيرة,.
وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة, حينما عرف نيتي وقصدي قال (تبغى تغير جلدك أيها الذئب,,؟!).
رددت بهدوء دون ان اكسر له هذه المشاعر المتدفقة نحوي (قل حنش,, وربما اي زواحف اخرى,,) ضحكنا وكنت اتفرس ملامحه محتفظا برزانة في الحديث, ليظل صاحبي على نفس الوتيرة من الحرارة ولانني اعرف كم هو متضجر وملول ولم اكن اقل منه حالا.
ولئلا يفلت منا تناغم الحديث, صمت فسمعته يتأوه.
انتظرت ثواني, مددت له بفنجان الشاي تناوله وتطلع الى وجهي يتفرس ملامحي كاول وهلة, سألني:
- أتعرف احداً هناك,,؟!
خشيت ان أقول له (نعم) وطبعا انا لا اعرف احداً.
فقد اذكر له اسماً (أي اسم) من الاسماء الثقافية والسياسية على سبيل الدعابة من التي نعرفها خلال القراءة والمطالعة في الصحف والفضائيات, ولئلا ادفعه الى حديث غير جاد, فينفلت مني احتضانه في الليلة الاخيرة,, وقد مضى على آخر لقاء بيننا اكثر من ست سنوات, فرقت بيننا اوجه الحياة والمدن, وان كنت اشعر اننا مع بعض دائما كأننا مع مدينة واحدة, في ارض واحدة.
ويسيطر علي هذا الاحساس الساخن, في مرات الاتصالات النادرة التي لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة.
قلت له بأسى:
- لا,, لا أعرف احداً,,!!
وبذات الهدوء المفعم بالفرح قال:
- طيب ممتاز,, تبغى تعرف شاعر تنظيرات وفله.
ولاّ شاعر معلقات وفله ومرسيدس,,؟!
ضحكنا معاً, فقلت بذات الروح:
- طبعاً,, نظرك كافٍ,,!!
وكدت أضيف (طيب دلني على قاص تتوفر لديه بعض هذه المواصفات ,,), لكنني أحجمت امام اضافاته العجيبة (خلي بالك,, لا يمكن جمعهما في مكان واحد,,) وفهمت.
كنت قد قدرت بأنني سأحضر بعضا من فقرات مهرجان جرش الثقافي, وربما احضر في حالة حاجتي لتجديد روحي وطاقتي بعض مباريات المنتخب السعودي الأولمبي في عمان, وقد اوصتني كبرى بناتي بذلك لترى صورتي في التلفزيون , وخصوصا مع المنتخب العراقي الشقيق اذا سمح لي برنامج العلاج, ولم أكن أدري أين أقيم,,؟ وقد استعنت ببعض المعلومات عن طبيعة التنقلات والسكن والصرف, ولم اكن اعلم ان صاحبي سيسألني سؤالا محددا:
- كم ستصرف ,,؟!
ولما أخبرته , بعد ان دحضته بنظرة فاحصة, أنني سأعتمد على بطاقة الصراف الدولي, أجابني باطمئنان:
- طيب عال,, اذا بقيت في عمان,, فيه عمارة(,,,) أسأل عن (أم حمادة) ستأخذ عندها شقة خمسة نجوم بتراب الفلوس مقارنة بظروف السكن عند غيرها.
وتناول ورقة وقلم, ورسم (كروكي) الموقع عمارة(,,,) وحقيقة لم أفهم تدفق هذه المشاعر لصديقي الدائم الحذر.
في طريقي الى مدينة عمان, وقد غبت عنها طويلاً, بعد ان جئتها عام 82م آتياً من بغداد اثناء الحرب العراقية الايرانية وقد بقيت في بغداد ثلاثة وستين يوما كل يوم في ثوب.
فتح سائقي عطا باب سيارته, وقد اوقفته كغيري من الذين ينتظرون سيارات الأجرة, لا أدري كيف كان حدسه حاذقا, وهو يشير الي رغم أنني لم أكن الوحيد الذي يلبس ثوبا, ويضع عقالا على رأسه داعيا:
- تفضل,, تفضل ياشيخ,,!!
دسست حقائبي التي لم تفتش في مطار عمان في مقعد سيارته الخلفي, واقحمت نفسي الى جواره وحينما امتد بنا الطريق, وكان يعرف بالتأكيد من اين اتيت, التفت الي عطا قائلا:
- حيا الله ها اللحية,,!!
كتمت ضحكة خبيثة في داخلي, فاللكنة التي ينطقها عطا, هي ذات اللكنة لصديق شمالي, قال لي قبل يومين من سفره (عليك جيرة الله,, اذا وصلت عمان تكلمني,, وكلها ساعتين أكون عندك,, والله لا خليك تشوف اللي ما يخطر لك على بال,,), ثم ان اللحية التي يهتف عطا بحياتها هي لحية نمت على جلد مريض وحساس , يأبى ان تجز, فظهرت بهيئة فوضوية, كأنها شجيرات الحراق التي تنمو حول البيوت في القرى, وحول بيوت اغنام البدو, وتلف النساء بها أطرافهن عندما يستخدمن الحناء.
تمعنت في أنف عطا المقوس, وعينيه المتورمتين, وشعره الاشيب, وقدرت أي نوعية هو من الرجال, ساقتني اليه الاقدار, فقلت له:
- الا قل لي يا ابن العم,, كم اجرتك,,؟!
وبصبر من يحرث في أرض بوار, عسى ان تثمر, رد بهدوء وبدون تردد:
- ما بين الخيرين حساب,, اجرة عمان عشرون دينارا,, معروفة,,!!
صدمني الرد, والمبلغ الضخم الذي حدده, ولانني لم اكن احمل نقودا, ولم أكن على يقين من جهة اقامتي, اذ لا اعرف هل سأقيم في عمان او غيرها, ايقنت ألا سبيل للخلاص من عطا في الوقت الراهن.
ولابد اذاً من مسايرته ومسايسته كما يريد لاجعله يركض ايضا في سراب لكنه بالطبع سألني فجأة:
- أين ستقيم,, ولشو جايي,,؟!
- عندي رحلة علاج وعمل,, اريد ان اسكن في عمان, ثم أذهب الى (ماعين) خليك معقول اذا اردت ان نذهب معاً.
فرد عطا بثقة:
- احنا البدو,, ما بنخون رفيقنا,, وأنت ان شاء الله لحية غانمة,, مشوار (ماعين) معروف بثلاثين دينارا,.
رددت بضيق وسخرية:
- حياك الله,,!!
وبذات الثقة رد عطا:
- الله محيي نباك,,!
ومددت عيني في السفوح الجبلية في طريق عمان, لاخرج من عالم هذا الرجل, اراقب السيارات الممتلئة بالبشر, تمشي وئيدة في محاذاتنا وامامنا, ضغط سائقي في غفلة مني على شريط (كاسيت) لتصرخ احلام ويصرخ معها سائقي مغنيا (نسيت كلمات الاغنية,,) وحينما التفت اليه في حالة احتجاج قال:
- وين تريد تسكن,,؟!
تذكرت (كروكي) صديقي,, انتزعت الورقة التي دسستها البارحة في جيبي وقلت له:
- في عمارة(,,,).
- وين ها العمارة,,؟!
- شوف الرسم واضح,,؟!
- أنت جئت لعمان قبل هيك,,؟!
- نعم,, لكن ذلك من زمن قديم.
- ما رأيك نشوف لك سكن, لتأخذ فكرة, ثم اوصلك لربعك في عمارة (,,,) التي لم اسمع عنها من قبل.
- لا بأس ,, واعتبر نفسك اليوم من ربعي,,!! انطلق عطا يبحث عن شقة في اكثر من خمس أو ست اماكن متفرقة في عمان, كانت الاولى ارخص وانظف , قلت له بعد ان تعب وقد تركته يفعل ما يريد, وبدأ يتذمر:
- خذنا الى عمارة.
- العنوان مو واضح,.
- أنا الذي سأدلك.
بعد جهد طويل, وعدة اسئلة, وصلت الى عمارة في البوابة الرئيسية يقف شاب في المدخل, سألته بعد ان تأكدت انني وصلت حيث أريد:
- (أم حمادة) فيه,,؟!
- نقول لها مين,,؟!
ذكرت له اسم صديقي, رفع سماعة الهاتف, بعد ثوان, ناولني السماعة قائلا:
- خذ أحكي,.
جاء صوت (أم حمادة) منتشياً متمرسا لم تكن تميز صوتي, طلبت مني على الهاتف ان أصعد اليها وطلبت من سائقي ان يظل في مكانه, وقد حفظت رقم سيارته, اذ لازالت حقائب سفري بداخلها.
صعدت الى الدور الثالث, حيث كانت (أم حمادة) تقيم, بعد ان دلني لمكانها الشاب (حارس العمارة) ابلغتها انني جئت من طرف صديقي نزيل عمارة وسأحل مكانه اذا كان لديها شقة فارغة, والحقيقة انني قدرت قيمة تجوال عطا, لقد اصبحت ملما بأسعار السكن, فقالت المرأة البدينة بدلال غير خافٍ:
- أنت لوحدك,,؟!
ظننت ان عمارة(,,,) لا يسكنها الا عوائل.
ويبدو انني استمرأت (لعبة السراب), فقلت لها:
- مبدئيا نعم,, لكن لن تطول مدة بقائي وحيدا.
فقد تصل عائلتي بعد يومين,,!!
وكنت في الطريق الى عمارة(,,,) قد لاحظت انها اقل نظافة مما سبق ومررت به, اطلعتني (أم حمادة) على شقتي المزعومة, شقة كبيرة وواسعة يبدو ان لها ماضياً ولها خصوصية لا تخفى سألتها عن قيمة الايجار ففاجأتني قائلة بحزم:
- أقل من عشرين يوما ما بنأجر,, والايجار خمسمائة دينار,,!!
فغرت فمي, وقبضت على جبيني امتعاضا, أخذت منها رقم الهاتف, ابلغتها تحيات وسلام صديقي مرة اخرى, وخرجت.
في الداخل في طريقي للخروج حيث ينتظرني سائقي عند الشاب (حارس العمارة) رأيت سبع بنات يدخلن الى عمارة وقد صبغن بارطال من المساحيق, اسرعت الخطى الى حيث سائقي, وقد نهض حينما رآني وفي الطريق الى سيارته قال لي:
شو,,, يارجل ,, كلمت بيتي وفطس (الزلمة) في مكانه,.
وكان يقصد (حارس العمارة) وأضاف بطريقة لماحة:
- شفت البنات,,؟!
- أي بنات,,؟!
رددت عليه بقسوة لئلا يبالغ في هذا الدور فرد كأن لم يكن شيء:
بلغ بي الحنق مداه, فهمت حجم ما تركه من قلق في ذات الشاب لكثرة اسئلته اختصرت الطريق عليه:
- أرجوك,, انا متعب من السفر ,, خذني الى الشقة الاولى.
وصلت الى حي (الصويفية) في غرب عمان حيث اخترت شقة لتكون مقر إقامتي, رأيت سيارات تقف امام بوابة المدخل, ويقف في مكتب الاستقبال أناس محرمون, يلهثون بكلمات الشكر والثناء لشاب في المكتب, ويطلبون منه ابلاغ تحياتهم لزملائه الاخرين, وهم يودعونه, اخذت رقم شقتي وقد رأيتها من قبل, أفرغت محتويات حقيبتي الصغيرة في صندوق الامانات وكان الشاب مشغولا بفتاة اماراتية, نزيلة في هذه العمارة, مضى على وجودها عدة أيام من غير ان تدفع لهم الحساب, وصار صاحب العمارة يطالبها بدفع ايجارها, وطلبت منه ايصال بقية حقائب سفري الى غرفتي , شعرت بنوع من الاسترخاء ولئلا يتسرب الزمن, ابلغت سائقي ان علينا الذهاب في الحال الى (ماعين) وفي الطريق التي قد تأخذ ساعة زمن, بادرته بطلب اذا كان ممكنا, لعله يسمعنا في هذه الطريق صوت (فيروز) واذا لابد فهات (أحلام) وكنت مسترخيا معه بجسدي, وهكذا فعل,, واشجار الزيتون تغطي سفوح الجبال الممتدة بين عمان و(ماعين), اشجار مباركة ترتوي بالبعل وبي رغبة جارفة في استئجار سيارة نقل لتحركاتي, بعيدا عن هذا الصخب, لذا فعيناي تلتقط بدقة معالم الطريق, وقد انحدرت بنا بين جبال هائلة كخيط أفعواني مخيف يضيق في النهاية, ظللت صامتا, استمتع بازعاج احلام التي يشاركها سائقي الغناء, وقد اقفلت عليه باب الحديث عن النساء والمرض والسفر, جعلته يفهم ما أريد, ويبدو انه لم يكن يقل عني قرفا, لكنه لم ينبس بنت شفة, فقط بين آونة واخرى يردد:
- ياحيا الله,.
فأرد مرة بعدم الاهتمام, واخرى بسخرية, دفعت دينارين من جيبه كقرض, لبوابة دخول (ماعين) وامام فندق وحيد ضخم بين جبلين اجردين هائلين لهما سفوح سوداء شديدة الانحدار, اوقف سائقي عطا سيارته وترجلنا معا الى مكتب الاستقبال, شعرت انني وصلت الى مبتغاي, طلبت رؤية الطبيب, وفي مكتب يقع في مقدمة وحدة علاج منفصلة عن مبنى الفندق, أبلغني طبيبي بانه لابد من البقاء تحت رعايته لمدة شهر, فوافقت مبدئيا بما لدي من فكرة عن طبيعة مرضي وعلاجي, ليلزمني بالمداومة لديه صباحا ومساء, واخذت كلامه ونصائحه بيقين تام, لكن ذهني ظل مشغولاً في كيفية البقاء في هذه (العزلة) الجديدة بين جبلين اجردين, او اعرض نفسي لمخاطر طريق مخيف, على ان اسلكها اربع مرات في اليوم او مرتين على الاقل ذهاباً وأياباً, وستأخذ مني في كل مرة ساعة زمن, وخوف مرة واحدة لن يغري بالمجيء هنا مرة واحدة, وفضل طبيبي بقائي هنا, أسيراً لحالتي الصحية بين جبلين لا يحوم الطير بينهما الا بحذر وقد شكلت منها البراكين والمنحدرات والمياه تخر من بين صخورهما السوداء الملساء, قبلة للوافدين من كل مكان, مما جعلني وانا اتطلع عبر نافذته الى عمق الوادي, عن سبب غياب الاستثمار عن هذا المكان.
ولم أكن أدري ان سذاجتي, أو أي شيطان دفعني لذلك السؤال, ليجعل طبيبي يصرخ في وجهي:
- هوه البترول العربي مستثمر بشكل صحيح,,!! وحينما لاحظ دهشتي واستغرابي, وذهولي من رده العجيب, اضاف بحدة أقل:
- مش البترول العربي اهم واوسع شيء لدينا يمكن استثماره,؟!
هززت رأسي المستند الآن على راحة يدي المتكئة على حافة النافذة بايجاب واضاف:
- لا عاد,, تبغى اللي عنده أموال يجي يستثمر في (ماعين),؟!
لم أكن بحاجة لمواصلة حديثي, وجزمت انني بدأت بناء علاقة غير سوية, مع طبيب سأظل شهراً من الزمان تحت رعايته الطبية, وما علي الا أخذ برنامج علاجي ومواعيده, فحالتي النفسية ليست قابلة للأخذ والعطاء والنقاش المنفعل, فدلني على امرأة عراقية تقتعد كرسياً في المدخل, ظننت في البدء انها مختصة في علاج السيدات, أومأت لها برأسي فردت بأدب وسجلت مواعيد حجزي لديها, جذبت سائقي الذي كان يراقب المشهد من ذراعه وخرجنا.
وخرير الماء في شلالات بديعة يغري, ومناظر البشر يتساقطون في مياهها يثير الشفقة, مما ساعدني على لجم لسان سائقي, وقد بدأ يتبرع بالقاء خلاصة تجاربه مع مرضى سابقين وقد عزمت على مرافقتهم في قادم الايام.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved