Sunday 25th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 12 ربيع الثاني


مساحات بيضاء
ريمة الخميس
التراث والموهبة 1 - 2

التاريخ مسار حتمي تصنعه دورات الارض المتلاحقة، وما تلقيه من تراكمات زمنية متعاقبة، ولهذا فبعض المؤرخين القدماء راق لهم ان يطلقوا على مؤلفاتهم في التاريخ اسم الحوليات او الأنال التي قد تعني الاعوام او السنوات ,, التاريخ من هذه الزاوية نظام زمني وحدة كلية تبحث عن الاكتمال ما تزال دائبة السعي اليه في تصاعد الساعات الى ايام، والايام الى شهور ، والشهور الى سنين، والسنين الى تاريخ.
لكن هذا حقيقة هو مجرد الهيكل المفرغ الذي نعمل على ان نملأه ببعض ما نراه منه من زاوية او اخرى، من مادة سياسية، او حروب ومعاهدات، او اقتصاد، او حياة اجتماعية او ثقافة، وفي هذا كفل لنا هذا المسار الزمني الحتمي في تصاعده قدرا من النظام في عرض مادته من السياسة او الفكر او الثقافة كذلك الذي نراه في كتب من مثل تاريخ الفكر او تاريخ الادب العربي، او تاريخ الفن او غيرها وفي هذا ايضا نرتكب افدح اخطائنا في ذات الوقت! ذلك انه طالما ان حركة التاريخ التي نلتف حولها بمادة السياسة او الادب هي حركة تصاعدية باحثة عن اكتمال لايتم، فقد خيل الينا ان مسار المادة ذاتها من الادب او الفن تصاعدي بدوره لاقترانه بحركة التاريخ باحثا عن اكتماله الذي لايتم، اي انه مسار تطوري ناهض بتقدم التاريخ ولهذا رأينا مؤلفات تحمل عناوين مستفزة مثل تطور الفنون او تطور الفكر السياسي، أو تطور الفلسفة، تتبع في رصد هذا التطور مسارا تاريخيا وكأن تقدم الحياة خطوة يوما يعني بالحتم والضرورة تقدم العلم او الفن خطوة مواكبة,, وهنا عين الخطأ وفداحة التصور! وأشد امعانا فيه تلك الاطروحات التي تقول ب الحتمية، التاريخية في تطور الفن كما في تقدم حركة التاريخ.
قد لا يحتاج الامر واثباته الى اكثر من مقابلة بعض النماذج الجمالية من معطيات الفن مثلا في عصر قديم يغيرها من عصر متأخر، حين تخرج النماذج القديمة من تلك المقابلة متفوقة ومعجزة، تتضاءل الى جوارها الاعمال المتأخرة، رغم فقر الامكانيات التي كانت متاحة للقديمة وتوفرها للاخرى.
ويكفي ان تتجه اذهاننا الآن الى اعمال النحت الفرعوينة والى اطروحات الفلسفة اليونانية التي اسست نفسها من صفر البداية ولم تستطع تجاوزها نظريات هذا العصر والى المسرح القديم ومباحث العلوم الطبيعية التي قد تجرنا الى متاهة لا قبل لنا بها,, في مجال العلوم عموما، شكليا، يبدو مسار تطورها مواكبا وموازيا لمسار تقدم التاريخ بدليل معطيات تقنيات عصرنا وموضوعيا، يتفوق الفكر العلمي في بعض العصور القديمة على حجم المنجز في الاداة التي تشبه كرة الثلج في حركتها عبر العصور اضاف اليها عصرنا اضافة صغيرة الى تراكمات سابقة هائلة,, لقد كان الدارس البسيط للعلوم يجري اعقد المعادلات الرياضية والكيميائية في ذهنه في ثانية وأصبح عالم اليوم عاجزا عن اجراء عملية حسابية بسيطة دون استخدام اداته الحاسبة!.
اعود عن العلوم التي قد تضللنا معطياتها الانجازية فتوهمنا بأن للفكر العلمي مسارا تطوريا مواكبا لمسار التاريخ التراكمي اعود الى الفن والادب الى الثقافة عموما، حيث جسامة المغالطة ولحسن الحظ لن يعيقنا عن الاكتشاف منجزات تراكمية كالعلوم تخدعنا، لن نصادف قصيدة اصبح للخيال فيها محرك نفاث أو رواية لأبطالها قدرة الفرار من الاحداث الى سطح القمر او زحام الشوارع، لحسن الحظ ان للاجناس الادبية والفنية ما حفظ لها اطارها وقوالبها، منذ نشأتها الاولى حتى اللحظة، وبقيت التراكمات الانجازية التي طرأت عليها محصورة داخل تلك الاطر، في الوعي والرؤية، وان عملت احيانا على زحزحة حدود القصيدة الى الدراما والتشكيل او الرواية الى القصيدة وفي نطاق وجل ومتردد لاتنداح معه تلك الحدود.
هل يعني هذا كله - هو مجرد مدخل الى طرح مطول - ان الفن والادب لا يمضيان على مسار تطوري مع مسار حركة التاريخ وفق حتمية واحدة؟ بالامكان ان ادفع باجابة فورية لقناعة راسخة فأقول نعم وكأننا بذلك نخالف ناموسا لما تجري به الحياة، وللامانة قد تنبغي الاشارة الى بعض المؤلفات المهمة التي تنبه اصحابها الى ان حركة الفن والادب لا تمضي بالضرورة على مسار صاعد في توافق المؤلفات الفن والمجتمع عبر التاريخ وليس تاريخ الفن في علاقته بالمجتمع والفن عبر العصور وليس تاريخ الفن، وغيرهما, في الفن عبر العصور اشارة الى مدارس الفن الحديث التي راحت تستلهم الفنون البدائية ورسوم الاطفال ، تلك الرسوم البدائية التي قفزت من عمق تاريخي لتحتل مكانة تاريخية حديثة هل نحكم عليها بالضآلة لبدائيتها، ام بتفوق خارق قفزت به فوق العصور الكلاسيكية وعصر النهضة جاءت من قبلها تاريخيا وراحت بعدها فنيا؟
اقول ان حركة الفن والادب لا تمضي على مسار تطوري يواكب مسار التاريخ وفق حتمية واحدة,, فحركة التاريخ تتقدم في كل ثانية غير مبالية بكل ما تزدحم به تلك الثانية، ترصد وتسجل وتضيف فحسب دون ابسط حكم او تعليق، وحركة الفن والادب مشاكسة في ابسط الحالات وشرسة عدوانية في معظمها ، نزاعة الى القتال والاشتباك حين ترق وتنعم وحين تجف وتخشن متلكئة ان رانت الى الكسل، وعنيدة في الوقوف والتشبث عند الحدث حتى توسعه تحليلا وتجريحا، هي دائما في حوار لا تبالي به حركة التاريخ وفي هذا الحوار قد تخرج مثخنة بالخسائر فنيا او محملة بالانحاز، ولهذا عرفنا عصورا سميت بالعصور المظلمة وأخرى عرفت بالعصور الذهبية.
حركة التاريخ في معناها المجرد يصنعها التوالي الزمني الحتمي في تصاعده، فما الذي يصنع لحركة الفن والادب مسارها من النهوض او التراجع اذا كنا قد اسقطنا عنهما الارتهان والارتباط؟
التراث والتقاليد، عوامل تحفظ للاجناس الادبية والفنية حدودها وتمدها بأسباب البقاء، ولكنها في ذات الوقت عناصر نكوصية تحض على الثبات وقد تدفع الى التراجع.
والذكاء والموهبة الفردية والثقافة، والحساسية، والوعي عوامل مقلقة ومتمردة، تشعل في الفن توهجه وتمده بدماء جديدة هي عوامل تدفع به الى التطور والتقدم ولكنها في الوقت ذاته تسعى الى الاطاحة بثوابته وحدوده في كل مرة جديدة تأتي بعد محاولة فاشلة وبين عوامل الثبات وعوامل الاطاحة اشتباك دائم هو ما يولد للفن والادب حركة المسار تقدما او تراجعا لكن الامر لا يعالج هنا هكذا في مجرد اشارة.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved