Sunday 25th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 12 ربيع الثاني


أفق
قصص النوم في الماء ؛ رؤيا داخلية مغلقة وفانتهازيا ممتعة
محمد الخرز

لكأني اخال ان الكاتب القاص ناصر الجاسم حين عمد الى عنونة مجموعته القصصية الصادرة عن نادي القصة السعودي 98م بعنوان (النوم في الماء) كان يشير بطرف خفي الى نوع من القص الفانتازي، يتسلل داخل هذه المجموعة ويحركها باتجاه حافة الجنون السردي، فدلالات كلمة النوم تحيلنا الى فضاء واسع من عالم الاحلام ، او كما يسميه اريك فردم باللغة المنسية، فهذه اللغة او هذا الفضاء يخلق منه القص الفانتازي حركته داخل المجموعة القصصية، ففي قصة (موت القصائد) يتنامى القص الفانتازي، حينما يبدأ السارد او الراوي بالغطس في قاع النبع: (فكرت وانا ألعب في القاع كسمكة من اسماك الزينة فيما رواه لي راعي النبع ذات ليلة شتوية سقط في ليلة حالكة السواد نيزك من السماء فشق الارض وتدفق ماء النبع ساخنا ثم سكنته جنية فيما بعد قررت ان اغسل تاريخي وجرحي الاسود بالجنية,, كنت اعرف ان الجنية تختار قربانا لها كل عام من السابحين او السابحات,, شققت جلدي بشريحة زجاجية فنزف دمي وفشلت في اخراج الجنية) ولكن حينما نتساءل هل استطاع القاص ان ينجح في توظيف هذه التقنية القصصية ام انه تعثر في مهمته؟,, من الواضح ان القصة تريد البحث عن خلاص من هذا الجو المأساوي المسيطر عليها من كآبة وحزن والم، فالخلاص لا يكون الا بالموت، لذا نرى الكاتب نجح الى حد ما في ارساء فكرة الخلاص او الهروب عن طريقه المتخيل الوهمي لكنه فشل في تنمية الحدث الدرامي داخل هذه التقنية وبالتالي فشل في شد انتباه القارىء الى هذا النوع من القص, اما في قصة عرس الجن يبرز الاسلوب الفانتازي كبنية فنية تدخل في بناء الحدث الدرامي عبر السياق السردي للقصة، ويبدأ حينما تنجذب الشخصية الساردة في القصة الى حفل للجن وراء المستنقع: (,, كان الجن وراء المستنقع يحتفلون يغنون ويرقصون انجذبت بكل حواسي برغم الجرح الزاجر الى عرس الجن,, جعل الجن يعيقون تقدمي في عبور المستنقع,, انقسموا الى فئتين ,, فئة تعيق,, وفئة ترقص وتغني,,) ويبلغ الحدث ذروته (ركضت في المستنقع,, الجرح بالركض ناقم جدا) الى ان يصل الى الخاتمة (رقصت على اليابسة والرقص بالجرح قاتل جدا,,),, انها فانتازية ممتعة اراد الكاتب ان يعبر من خلالها عن مراحل اليأس والاحباط التي يواجهها الانسان في حياته وفي عالم مدينته المسكونة بالحزن والضياع والبحث عن حل له في عالم الماهيات,, عالم الصفاء الروحي البعيد عن ضوضاء العالم المادي، اما بقية القصص، فانها تندرج ضمن القص الواقعي الذي يرتكز على خلفيات ثلاث: خلفية ذاتية - خلفية اجتماعية - خلفية سياسية، وعندما تنتقل من نوعية القص الى مكونات البنية سوف نقوم بالتركيز على ثلاثة مستويات: السارد ، المبنى الحكائي، المتن الحكائي.
- السارد او الراوي:
ان الشخصية الساردة في معظم قصص المجموعة، تتحرك داخل الحكي، وتشكل الشخصية الرئيسية في القصة ، حيث تدخل في بناء الابعاد المعمارية لها، ويتضح ذلك مثلا - في قصة (احتفالات نمل الجيل والغربان) حين يبدأ العرض القصصي بوصول البطل (الشخصية الساردة) الى الجبل عند الغروب,, (,, وصلت الجبل وغناء الغروب يفيق كان نعيق الغراب يزحف هادئا الى اذني,, وقفت ارمي على الجبل حصى ولم يرد عليَّ الا الصمت) وهكذا يستمر السياق السردي على هذا النمط حتى نهاية القصة، وكذلك على هذا المنوال تبدأ قصة (النوم في الماء),, (حشرة الخوف تتكاثر في عروقي معبأة بها عظامي,,) حتى نهايتها ولكننا نجد ان القصة الوحيدة التي انفلتت من سلطة السارد وتحررت منه هي قصة (التكسرات) حيث تكون وضعية السارد فيها خارجا عن نطاق الحكي، انه مجرد راوٍ او متتبع لمسار الحكي لكنه لا يشارك في الاحداث داخل القصة حيث تبدأ (الموت ينتقل بين الاسرة,, يقف على النوافذ يختبىء خلف الستائر,, يسخر من وراء نظارات الاطباء,, يطل من ثقب الباب,,) وهكذا يستمر السياق السردي حيث يصل الى لحظة ظهور الشخصية الرئيسية في القصة لتقوم بمهمة السرد,, (,, كان من ضمن الراقدين شاب ظل ساكنا مع الموت ثلاثة أشهر,, صبي أيتها البيضاء الماء المحلى بالسكر في دمي,, فدمي يسكنه سبخ,,) ويظل السرد تحت تصرف هذه الشخصية حتى نهاية القصة, نستنتج من هذا كله ان الكاتب ومن خلال تجلياته داخل مجموعته القصصية، يعاني من الشعور الحاد بالضياع، وهذه نتيجة منطقية بسبب ما يدور من حوله من صراع وتمزق داخل بنيته الاجتماعية في عالمه الواقعي لذا نراه قد لجأ الى تجربة الكتابة هاربا من هذا كله الى عالمه المتخيل راسما شخصياته متحاورا ومتحركا معها في فضاء النص القصصي اذن هناك معادلة مطردة، فكلما تعمق الشعور بالضياع ازداد لجوء الكاتب الى فضائه القصصي ملتحما معه - كما بينا قبل قليل - اما حينما ننتقل الى المستوى الثاني (المبنى الحكائي) سوف نتوقف عند آليات الاسلوب السردي الذي اتبعه الكاتب في مجموعته القصصية فمن خلال نظرة شاملة، نجد ان السرد الذاتي (حسب تصنيف الناقد الشكلاني توماتفسكي) هو السرد المهيمن في معظم قصص المجموعة فنظام السرد الذاتي - كما نعلم - يجعل القارىء يتابع مجرى الاحداث من خلال زاوية نظر الراوي حيث يعطي الاحداث تأويلا معينا يفرضه على القارىء ويحرك شخصياته من زاويته دون ان يعطي حرية الحركة لها، والاستقلال بذاتيتها حيث يصبح الراوي هو الصوت الوحيد المسموع في عالمه القصصي بخلاف تقنية تعدد الاحداث التي نجدها في عالم دوستوفسكي الروائي ومثالا على ذلك قصة (النوم في الماء) وعند نهاية القصة (,, قد تكون حشرة الخوف في دم عنون اصغر من التي في دمي,, يبدو انه مهمل تغذيتها بالبحث,, مضت ساعة ولم انم,, فادركت ان الانسان ينام ثلاث ارباع عمره ويضيع الربع الاخير في انتظار النوم يأتي) بعد هذا العرض يتبادر الى اذهاننا سؤال هو: لماذا عمد الكاتب ناصر الجاسم الى استخدام هذا النوع من الاسلوب السردي في مجموعته,,؟ إن مرد ذلك في اعتقادي راجع الى هيكلية البناء التربوي داخل مجتمعاتنا العربية وما تنطوي عليه من اسلوب يقوم على التسلط والقهر، فما الكاتب سوى فرد من افراد هذه البنية الاجتماعية، يتحرك ضمن اطارها الواسع والشامل، من هذا المنطلق تبرز امامنا الرؤيا الداخلية المهيمنة على عالم النص القصصي وذلك بسبب ظهور الاسلوب السردي الذاتي بالكيفية ذاتها التي حكمت هذه المجموعة القصصية، ومن اجل تقصي ابعاد هذه الرؤيا في المجموعة لجأنا الى انتخاب قصة من قصص المجموعة وحاولنا عرض مظاهر الرؤى فيها ففي قصة (تغريدة الوهج) تنكشف امامنا الرؤيا الداخلية المغلقة التي تؤدي الى عدم تحديد ملامح شخصية الراوي فهو يظهر فجأة وبدون اية مقدمات او تعريف عن شخصيته داخل النص: فمن هو؟ ومن اين اتى,,؟ ومما يزيد من عمق احساسنا بانغلاق هذه الرؤيا بروز تيار الوعي (المنولوج الداخلي) كتقنية فنية يلجأ لها القاص في سرده، ويتضح ذلك في المقطع التالي حين تقوم الشخصية الرئيسية باجراء حوار مع النفس عن الحزن وتصنيفاته يبدأ متسائلا: (لماذا لا يقسم الحزن الى فترات عمرية تبدأ بطفولة تليها مراهقة يتبعها شباب وتختم بكهولة وشيخوخة، صنفت حزني اعتباطا تصنيف باحث تنقصه الحيادية والموضوعية بانه من النوع المراهق الذي يرفض الانصياع للاوامر ويجد في التمرد عليها) وكذلك يستمر احساسنا حينما يجري الراوي حوارا ذاتيا مع مذيعة الراديو داخل مركبته القيادية عن تصنيف الشباب, وهكذا يتبين لنا ان هذه الرؤيا افتقدت القدرة على اعطائنا عالما واسعا منفتحا على الواقع بجميع مستوياته ولكن الشيء الذي يستوقفنا هو استخدام الكاتب في هذه القصة تكنيكا سرديا بارعا وظفه في بناء الحبكة القصصية، انه لجأ الى اعطاء الشخصية الساردة بعدا اخر، يتمثل في هذا التوأم الذي يشبهه,, انه الوجه الاخر للراوي ,, انه تكنيك يذكرنا براوية (هاتف المغيب) لجمال الغيطاني من كل هذا نصل الى ان تضافر الرؤيا المغلقة مع هذا التكنيك السردي، اوجد صورة لها مدلولاتها العميقة والتي تحيلنا كما قلنا من قبل الى ظاهرة التمزق الاجتماعي والفكري والثقافي الذي يعيشه الانسان داخل مجتمعه، وهذا ما يفسر بروز هذه الرؤيا المغلقة بجميع سلبياتها والتي تنسحب على اغلب قصص المجموعة، والان قبل ان ننتقل الى المستوى الثالث، نلاحظ احتفاء الكاتب بالاسلوب المجازي التنبيهي او بما نسميه بشاعرية التعبير في سياقه السردي، ولكن لنا ان نتساءل: هل دخل هذا الاسلوب في نسيج البناء الفني للقصة؟,, أم انه سقط في حضن الشطحات اللغوية والذي لا يخدم اي نص ابداعي,,؟ فحين نستعرض بعضا منها مثلا (والوجع متجذر في صدري كعروق شجرة طلح عجوز) او (انشأت اصبح كطائر ببغاء في قفص يخطط بصوته للحرية,,) او (,, بدا لي لحمي مطهوا في محرقة الوجود,,),, (,, استشعرت عقلي يخرق افكاري النجسة كدم دبر,, بدأت اضراسي تسلم على لحم اصابعي,,) او (,, افكاري تحفر في الغربة خطوطا بيضاء تجرحه كجسد ملقى امامها,) نجد ان هذا الاسلوب باستعاراته وتشبيهاته لا يرسم لنا صورا متتابعة، تسقط ظلالها ورموزها على عناصر مكونات العمل الفني من مكان وزمان وحدث وشخصية بل يبقى مأسورا ضمن نطاق لغة الكاتب وحده، فماذا يفيدنا مثلا حين يشبه الوجع المتجذر في الصور كعروق شجرة طلح عجوز، لاشيء انه يثير دفقة عاطفية تجاه السارد فقط لكنه لا يخدم العمل الفني اطلاقا هنا يجب ان نهمس في اذن الكاتب لنقول له: ان اللغة داخل العمل القصصي هي لغة مهجنة - كما يقول الناقد الروسي باختين - تتشكل حسب تشكل الشخصيات والاحداث والمواقف بخلاف اللغة في الشعر والتي تعتمد على لغة الشاعر وحده.
اما بالنسبة للمتن الحكائي، فسيقتصر حديثا على اتجاه القصة، فمن الملاحظ ان الكاتب يتجه في بعض قصصه من الاتجاه التقليدي الى الاتجاه الحديث، فليس هناك عقدة تشتمل على تمهيد وخاتمة بل تنطوي على مواقف تتداخل فيما بينها حتى تصل الى لحظة تسمى لحظة التنوير، فلهذا الا يمكن ان نمسك بخيط مضامينها امساكا واضحا، وفي اعتقادي ان قصة (الفرس) هي من انضج قصص المجموعة، فهي قصة ذات حبكة متقنة وذات مغزى عميق حيث يتنامى الحدث فيها مع نمو الشخصية ، فشخصية (ناوي) نابضة بالحياة والحرية، الا اننا نجد انها لم تسلم في اللغة الخطابية التقريرية المباشرة كما لم تسلم غيرها من قصص المجموعة ويتضح ذلك في القصة، حيث يتحدث (ناوي) مع الراوي داخل المطعم: (المطاعم اماكن الحب والبوح والترف والسعادة والمطر ماء ميمون سأغرس الخصلة غدا قبل ان تجف الارض,, ارض العيون لا تحتمل ,, انها الارض الميمونة وشيوخها ركع معمرون,,) انها خطابية مباشرة فلو انتزعناها من جسد القصة لما اختل بناؤها الفني على الاطلاق والسبب لوجود هذه الخطابية في القصة راجع الى انشداد الكاتب لمدينته العيون والتي برزت في هذه القصة دون غيرها من القصص مما اغفل بقية الجوانب الفنية في القصة، لكنها تبقى قصة جميلة من دون ادنى شك, مجمل القول يبدو ان العلاقة التي يقيمها القاص مع لغته هي علاقة اختزالية لا تتجاوز رؤية الكاتب وموقفه من الحياة الى افق ارحب واوسع من ذلك,, انها لغة لا تخترق الوعي الزماني والمكاني لذلك لا تأتي شخصياتها محملة او مثقلة باشكاليات وجودية وحياتية معمقة بل ان الحالة الوصفية الاسترجاعية للغة السردية تبدو الاكثر توضعا وقربا للقاص في الكشف عن وعيه القصصي وعن الركيزة الثقافية والمعرفية التي تندس في ثنايا السرد، الامر الذي يفضي باللغة عنده الى فعل تسييح الكائن والحياة والكون لافعل تحريري لها وحتى في حالات دفع الوعي القصصي الى واجهة المشهد في القص يظل وجوده مرتهنا بالاسقاطات الخارجية التي ترتبط باللحظة السردية فقط دون ان تشكل هذه اللحظة بؤرة جدلية تتولد من خلالها الشخصيات والاحداث ومفهوما الزمان والمكان واخيرا يقول الناقد الروماني لوسيان جولد مان: (كلما كان الادب عظيما كان شخصيا,,) ان الادب الشخصي كما يقرره جولدمان هو الرؤية الخاصة التي تشكل وعي الكاتب للحياة والكون وموقفه منهما وبيئته الاجتماعية المتجذر فيها كما نرى في ادب انطوان تشيكوف وماركيز وغيرهم، من هنا نحن نتساءل هل الكاتب انفتح على هذه الرؤية وحاول الوصول الى مخابئها، نحن نتمنى ذلك في تجربة الكاتب المستقبلية.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved