Sunday 25th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 12 ربيع الثاني


تلويحة
ذاكرة القرى - 3 -
عبد العزيز مشري

* الحقيقة التي لا يمكن لتغيرات الزمان ان تغيرها,, هي اني وقفت طويلا امام بعض الجبال التي استحالت الى اجزاء تفصلها الطرقات وبعضها اصبح مسكونا من حلمة رأسه الى آخر تراخيه في الوادي ,, مسكونا بالناس الذين لاتراهم او تسمعهم,, بل انهم يستهلكون انفسهم نساء واطفالا وشيوخا في البيوت الاسمنتية التي غطت الجبل,, لقد قضت الصياغة الظرفية العجيبة عليهم بانفاق اعمارهم داخل صناديق الاسمنت هذه، ثمة شيء واحد يمكننا ان نعتبره دليلا على وجود احياء في هذه المساكن اليوم في القرى الجنوبية,, ذلك هو طريق السيارة الذي يحملها عددا من المرات في اليوم بين المسكن ذاته وبين الاماكن البعيدة عنه,, كالذهاب لاحضار مطالب الاستهلاك بما فيها اولا الاستهلاك البطني.
***
وقفت طويلا امام الجبال التي ورد ضرب المثل العربي بها,, بانها (,,لا تتقابل) وانها (لا تتحرك) وانها ليست ثمة في الحياة امام الانسان ما هو اصعب وارفع واقوى منها، ولا اريدك ان تنظر الى هذا,, فهو لا يذهلني او يذهلك امام جبروت وتطور الالة في زماننا,, بحيث جعلت الجبال مسواة بالارض او غيره وانما تعال معي الى مسألة غاية في الاهمية وهي:
كيف يمكن ان تعتبر الجدلية التاريخية التي نشأت معها الاجيال الشعبية في القرى وهل يمكننا ان نمحها بممحاة قلم الرصاص ونهيل عليها تراب وغبار الذاكرة لاننا اليوم لم نعد بحاجة الى سفسطة الامور وادخالها في مواثيق التاريخ اذ ان الملامح الشعبية - القروية - تحديدا- لم يعد لها ولا حتى بقايا في الواقع,, اين ذهب تاريخ الناس وهل تطوره كان متمرحلا مستوعبا,, ام انه كان واثبا بل طائرا بحيث لم يمر على اية مرحلة تمكنه من معرفة هويته الانسانية ذات الجذور العميقة جدا؟!
***
وقفت لأتساءل:
هل وعينا باجترار التاريخ الذي مر خفيفا وثقيلا وحزينا وسعيدا وقويا وضعيفا وجافا ورطبا مع حوار الانسان - مع الطبيعة - لاستنتاج طرقه المعيشية,, هذه الثقافة البعيدة المتراكمة التي تكونت عبر آلاف السنين فخلقت الكلام المعبر شعرا وحكمة ومثلا، وملبسا وشعائر ونوع غذاء ونحت اداة للانتاج وتعامل مع المواسم وادارة في العادة واستنباط قانون و,, و,,,, الخ؟
هل جمعت في صندوق داخل كيس بلاستيكي لترمى مع الفضلات,, ام انها محفوظة في ثلاجة - ثلاجة امريكية الصنع لا تتسرب منها البرودة,, ام انها ذهبت الى المقابر مع الآباء والاجداد,, واوكلناها امانة الله القوي على كل الدهور؟!
مالذي بقي من كل الماضي,, وهل الماضي في حركته خارج فعل وثقافة الانسان؟
أذكر شعرا ل(محمد العلي) اراه هنا مناسباً حين تساءل بألم:
ما الذي سوف يبقى
اذا رحت اجرد عنك الزمان
انزع عنك الاساطير
ارمي بالمحار الذي في الذاكرة
الى الوحل)؟!
ربما تبقى صور مغطاة بالغبار,, ربما تبقى - هنا - ذاكرة القرى.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved