Saturday 24th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 11 ربيع الثاني


شاعرة في الظل

شاعرة في الظل لهذا العدد شاعرة ولدت ونشأت وترعرعت في البادية, عايشت الصحراء بحلوها ومرها,, شعرها صادق لا تكلف فيه - وهذه صفة ملازمة لشعراء وشاعرات البادية لأن ما يحيط بهم من هواء او ارض او سماء او شراب اوطعام وحتى الادوات التي يستعملونها في حياتهم لم تمتد اليها التقنية الحديثة فهم على الفطرة وشاعرتنا منهم فحريا ان يكون شعرها على السجية, انها تصحو باكرة لترى الشمس وهي تشرق مرسلة اشعتها الذهبية فلا جدار يصدها او بنايات تحجزها, يأتي ليل الصحراء فيخيم السكون والهدوء فتسطع النجوم ويضيء القمر فتسبح في خيال ليس له حدود خيال صاف كصفاء السماء وتارة تتلبد السماء بالغيوم وتمطر لترى ماء يترقرق ويجري على الأرض بانسياب لم تمتد اليه اليد لتغير مساره ومجراه واضعة السدود والعقوم ثم تلبس الارض زينتها وتتجمل بأجمل حليها الوان زاهية صاغها الرحمن بأجمل وابهى صورة, تلك هي احدى الصور لحياة الصحراء التي عاشها الاباء والاجداد والاولون لذا أليس حريا ان يكون ذهنهم متوقدا وصافيا كصفاء بيئتهم وشاعرتنا التي نحن بصدد قراءة اشعارها بشكل مقتضب وان كنت اتمنى ان يكون شعرها ارقى من ذلك الا ان ما يميزه ما اسلفت وكذا صدق عاطفته وصدق العاطفة في الشعر يظل العمود الفقري للقصيدة وكم من قصيدة نقرؤها ولا نجد بين ثناياها صدق عاطفة الشاعر فهي قصيدة ممجوجة وان كانت سليمة المعنى ذات وزن وقافية وبالنسبة للقصائد التي سنتناولها في هذه العجالة يلحظ القارىء الكريم ان بعض الالفاظ قد تكون غريبة عليه لانها خاصة بقبيلة الشاعرة وهي قبيلة الظفير التي تقطن حفر الباطن فتلك القبيلة لها لهجة ومفردات خاصة بها تميزها عن سواها من القبائل الاخرى فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد انهم يقلبون حرف القاف الى حرف (غ) واحيانا يقلبونه الى جيم كقولهم الى رجيب بدلا من رقيب وكذلك عند قولهم لكلمة هاه يمدونها الى خمس او ست حركات وقد تابعت الالفاظ في القصائد التالية محاولا فصلها عن المعنى فوجدت نفسي محرجا فلو اخذت برأي بعض النقاد الذين ينادون بان للمعاني الفاظا تماثلها فتحسن منها وتقبح في غيرها لانهم يقولون كم من معنى حسن قد شين بعرضه الذي ابرز فيه ولكن الشيخ المنفلوطي له رأي اخر ولعله هو الاصوب حيث يتعجب من الذين يغرقون في الاحكام بين اللفظ والمعنى فلا يريد ان تقول ما اجمل اسلوب القصيدة لولا معانيها او ما اجمل الشمس لولا شعاعها! وأعد القارئ في وقت لاحق ان استعرض بعض الاشعار النبطية لا أتناولها بدراسة مقتضبة مؤملا ان تدغدع تلك الدراسة او المقالة بالاصح مشاعر شعراء النبط بغية الارتقاء به واملي ان يدرك القارىء الكريم ان الاسطر السالفة الذكر لا اقصد بها شاعرتنا بذاتها.
نعود الى شاعرتنا الكريمة ذات الحسب والنسب والعفة التي ولدت في قلب الصمان لا تلك البقعة التي اختارها راكان بن حثلين عن سواها من الامصار كما في قصته المشهورة ولدت تلك الشاعرة وتفتحت عيناها على البهم والغنم والماعز والابل وعند بلوغها سن الطفولة كان لزاما عليها ان تبدأ حياتها العملية مبكرة شأنها بذلك شأن قريناتها في البادية ولا يغرب عن البال ان حياة البادية حياة منظمة ومرتبة فهناك وظائف لكل فرد من افراد الاسرة وكل وظيفة لها شروط وانظمة تحكمها وشاعرتنا مع أخيها خالد بدأت حياتها العملية بالتدرج فعملت برعي البهم والبهم هو صغار الغنم وكلمة البهم كلمة عربية وعامية في آن واحد ألم يقل الشاعر العربي:
صغيرين نرعى البهم
ياليتنا لم نكبر ولم يكبر البهم
وعندما شب طوقها واجادت رعي البهم بنجاح مع اخيها تمت ترقيتها الى وظيفة اعلى مرتبة وهي رعي الغنم ولا يغرب عن بال القارىء المطلع ان رعي الاغنام علم قائم بذاته وفن وموهبة وله اسراره الخاصة ولا يدركها الا من امتهن هذه المهنة وقد يظن البعض ان تلك المهنة سهلة لا تتطلب سوى جمع الاغنام والسير بها الى الفلاة والرجوع بها فهذا ظن يطفو عليه الجهل فهل يعلم القارىء الكريم ان راعي الغنم يعرف حتى نفسيات شويهاته فما بالك بأمراضها وعطشها وجوعها وحتى ثغائها له نغمات وكل نغمة لها مدلول خاص بها وان لم تصدقوا فاسألوا العارفين بها حتى ان صاحب الغنم يعرف اغنامه مهما كثرت كمعرفته لاولاده.
قلنا ان شاعرتنا استلمت المنصب الجديد مع اخيها خالد لسنوات ولكن خالد تمرد على تلك الحياة واغرته المدينة اسوة بغيره فقرر السفر الى الكويت ليلتحق بالعسكرية ولكن اخته لم يرق لها بالا بهذا التمرد وليس لديها القوة في رده وثنيه عن عزمه وكل ما لديها ان تظهر أفضل ما يختلج في نفسها بابيات شعرية والشعر في نظرها هو المتنفس الوحيد لها ويريح فؤادها ويثلج صدرها فكأنها تقول (لولا الحياة الشعرية التي يحياها الناس احيانا لسمج في نظرهم وجه الحياة الحسية ومر مذاقها في افواههم) وعندما اصر اخوها خالد على السفر قالت:
نطيت لي رجم طويل رفيعي
في رأس لهبوب تعلت مبانيه
ارجب على اللي صار حبه طبيعي
لا بايع حبه ولا نيب معطيه
حنيت اللي للوقت باله وسيعي
ما هوب مثلي مذهبه ما يخليه
ياليتني يا بوي خلي يطيعي
والله كود للسفر لا احمش واخليه
ياونتي ونات ذيب مجيعي
اجرد عليه الليل والصبح جافيه
قام يتذكر في مديد الطليعي
وبحاله والمال بدين راعيه
او ونتي ونات راعي قطيعي
اصبح عليه الصبح يأخذ تواجيه
ولكن خالد اصر وسافر لانه تعب من تلك المهنة وخصوصا عندما امحلت واجدبت الارض والشيء بالشيء يذكر فالشاعرة جوزاء الشمرية سبق ان اصابها ما اصاب خالد فلقد ضاقت ذرعا برعي الغنم وقالت:
من لامني بالغنم يرعاه
ويجرب اللي جرى ليه
خص لقل الحيا تلقاه
يذكر من ديرة الداويه
وتمضي السنون صراعا وتتولى مسؤولية رعي الغنم وابوها يتولى مسؤولية رعي الابل والابل لها شأن خاص وليس من يجيد رعي الغنم يجيد رعي الابل فلكل منها شأن وفن وتجدب الارض فالابل لها مرعى يختلف عن الغنم ويشد الرحال ابوها من اجل رعي الابل بعيدا عنها فكان للابل مرباع وللغنم مرباع آخر ولم يعجبها نظرا لتفرق وتشتت الاسرة لتقول:
نطيت لي رجم رجم طويل وعالي
وقفت وهل دمعها مقدم العين
ترى المحل عذاب راعي الحلالي
حنيت انا اللي حط بالقصر بابين
ثم تخاطب اباها وتعرض له هذا الرأي:
يا بوي انتم ما دريتهم بحالي
تمضي علي كل ساعة تقل حولين
وانتم ربيع القلب وانتم ظلالي
يا غيركم يابوي ما شفى على شين
يا ليتني يا بوي بيدي المقالي
اما نبيع الفرج والا البعارين
ان لحياة البادية السابقة جمالا مطبوعا بينما المدينة حسنها مصنوع,, حياة البادية فيها البساطة في التفكير والتعبير والبعد عن التكلف والتصنع,, النفس تنطلق على سجيتها لتستجيب لاهوائها ودواعيها وفق اسس معينة.
ان شاعرتنا عندما استهلت قصيدتها بالرجم كانت محقة بذلك ولم ترسل مشاعرها الفياضة وهي قابعة في اسفل الوادي لانها تدرك ان بث شكواها من علو كفيل لارسال تلك الكوامن الى والدها وهي نظرية حديثة نراها في محطات الارسال وكأنها تدعو الى الوقوف على علو الكون الفسيح والتملي من روائع ما فيه وكأنها تستجيب للشاعر الاندلسي الذي قال:
وأرعن طماح الذوابة باذخ
يطاول اعنان السماء بغارب
حتى ان الشاعر نفسه بين لنا في تلك القصيدة ان هذا الجبل الشامخ الاخرس افضى اليه باسرار حيث يقول:
اصخت اليه وهو اخرس صامت
فحدثني ليل الثرى بالعجائب
ولا نبعد بعيدا فها هي الشاعرة رجاء بنت ضافي الدوسري تؤكد في مطلع قصيدة لها ان من يعتلي الرجم ليشرف على من حوله لابد ان تهيض مشاعره وتبرز كوامنه الشاعرية وهو رأي آخر فهي تقول:
انا بادية وقت الضحى رأس رجم بان
وترى من بدا المشراف لازم بيشعر فيه
والقصيدة طويلة قرأتها في كتاب (شاعرات من البادية الجزء الثاني) لمؤلفه استاذي وصديقي الكريم الاديب المعروف عبدالله بن محمد بن رداس اما شاعرتنا ام محمد شقيقة خالد التي نحن بصددها والتي كانت حياتها اساسها الترحال طلبا للماء والكلأ عندما عادت الى منازل عشيرتها بعد عشرين عاما تذكرت المكان فقالت:
البارحة عيت عن النوم عيني
لكن في عيني سيوف شطيره
وان قلت جوزى من سهرك ارحميني
تعاهدت لي ما يهملج نظيره
تعاهدت لي واحلفت لي يميني
يمين عليه يوم ضاقت عشيره
إلى أن تقول:
تقول اميز فكرتي واعذريني
يا بنت في دنياي ماني غريره
الدبدبة ودت على طارشيني
تقول يالظفران مانتي جبيره
عشرين عام ما تفرق قطيني
وين الجموع اللي تفك المغيره
الى ان تذكر قبيلتها وتمجدهم قائلة:
عاداتهم للضيف ذبح السميني
فلبية تثني خلاف الكسيره
قبيلة بافعالها بينيني
يشهد لها التاريخ بكل ديره
اعتقد اننا عرفنا الشاعرة وانها من قبيلة الظفير وللظفير عادات وتقاليد اصيلة وحميدة سنفرد لها مقالا خصوصا ومن عاداتهم حدثني الشيخ علي السحيباني,, رئيس محكمة حفر الباطن السابق يرحمه الله ان من اغرب القضايا التي مرت عليه قبل اربعين سنة ان احد افراد القبيلة جاء شاكيا مدعيا ان فلانا بن فلان قد حل عليه ضيفا في ليلة بردها قارس وقدم له ما تيسر من العشاء فالجود من المأجود وكان هذا الضيف من بيت امارة وشيخة فلم يعجبه ما قدم اليه وقام آخر الليل وتسلل الى احدى شويهات المضيف وذبحها وكانت منيحة عياله التي يعتمد عليها بعد الله في توفير الحليب له ولابنائه ويضيف الشيخ يرحمه الله قائلا: وعندما حضر المعني بالامر المدعى عليه واستفهمت منه اعترف وعلل قيامه بتلك الفعلة ان السبب يعود الى ان القبيلة قد تعارفت على اكرام الضيف وان لكل ضيف منزلة فإن كان من بيت الامارة والشيخة فلابد من ذبح ذبيحة له الا ان مضيفي لم يعمل ذلك فقمت بمجازاته بذبح شاته, قال وحكمت عليه بدفع قيمة الشاة بما يوازي مثيلاتها في ذلك الوقت.
نعود الى شاعرتنا الظفيرية بعد ان سكنت المدينة وبدأت تخالط قريناتها ممن تحضرن قبلها فتراهن يتفاخرن بكثرة الملابس والذهب والبذخ ولم يعجبها ذلك التفاخر لتقول:
قلبي اللي دق هجوسه وداره
واهنى قلب من الهاجوس خالي
شفت بالي في منازيل الزباره
وزين مبنى البيت ياقرم العيالي
ما حلى وقت المسا شب المناره
بربعه عليه من المعبود حالي
واجتمع به مجلس ماكر حراره
من سلايل من يفكون التوالي
والقهوجي زود بالدله بهاره
ما يحسب بالثمن لو كان غالي
صبه للي يمينه ثم داره
لين تسمح بال سامحين القبالي
والهدود شايف جيد دم غاره
شاف سبر القوم يرجب رأس عالي
الا انها تستدرج وتقول:
منوتي هذه ولا للقلب كاره
طايف دوره مثل دور الهلالي
ثم تستطرد وتقول ان هذا الوقت اصبح للمرأة السيادة على الرجل لتقول:
صار كل الدور من صوب العذارة
أحكمن وحكمهن ما به عدالي
حكمهن بيد على حكم النصارة
للبضايع ما يردن راس مالي
قد تكون محقة في هذا القول فالشيخ ابن عريعر عندما وطئت قدماه تلك الديار ومكث بها عدة اشهر لاحظ ان الفرس تقوم بحركات مريبة تجاه الحصان فأمر قومه بالرحيل!! والعبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الاشارة ونختتم مقالتنا عن هذه الشاعرة بابيات تتذكر فيها معاناة البادية فتقول:
الله من وقت البداوة يعيضي
يزعل انفوس للبداوة شفيات
ان اشملت جابت عجاج ونفيض
وان شرقت جابت من العج دفعات
يالله فيحال البداوة تعيضي
ترهجلهم عقب المحل والكسافات
بوبل نويه دافي مستريضي
ياخذ ليالي والخباري مليات
ويصير مرباعه ومصيفي وقيضي
ويزين كيف اهل البيوت المبنات
وختاما آمل ان اكون قد ابرزت الشاعرة التي كانت قابعة بالظل.
عبدالله محمد العطني
حفر الباطن

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
تقارير
عزيزتي
الرياضية
ملحق الطائف
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved