Saturday 24th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 11 ربيع الثاني


الثقافة قرآت حرة واعية و لاحجر عليها من العولمة بهذا المفهوم

قال أبو عبدالرحمن: الثقافة في معاجم اللغة الحديثة، وفي كتب المصطلحات الحديثة مطابقة للمدلول اللغوي، متجاوزة له أيضا، لانها اطلقت على مصادر الثقافة، وذلك تجوز سائغ وصفاً لاتسمية,, كما ان تلك المعاجم لاتفصل بين المعارف ومواد الحضارة الملموسة, قال ابو عبدالرحمن: الجاري ممارسة في مفهوم السواد الاعظم من المعاصرين: ان الثقافة هي حصيلة قراأة (1) ,, وهي قراءة غير مقيدة بحقل معرفي، بل هي قراءة حاذقة في عدة فنون، فينبغي ان يكون هذا هو المصطلح عليه في التدوين المعجمي؛ لانه مطابق للفهم العام، ولانه يحقق اصطلاحاً يخرج عن التطابق اللغوي,, وهذا هو غاية الاصطلاح على كل مستجد، وعلى كل ظاهرة لم يقيدها اصطلاح,, كما ان الاصطلاح المذكور آنفاً يخرج مفهوم الثقافة عن مسميات قائمة كالأدوات الحضارية المادية,, إن الثقافة أخذ من كل فن بطرف بغير المفهوم الاصطلاحي القديم لكلمة (ادب)، بل لهذا الاخذ ميزتان:
اولاهما: انه أخذ من كل فن بطرف عن حذقٍ وفطنة وروية.
واخراهما: انه ليس الغرض منه المسامرة والتسلية وسطحيات الفنون,, بل هو ضرب في اعماق العلم والفكر والادبيات.
قال ابو عبدالرحمن: والحذق الذي يعنيه مصطلح الثقافة له ايضا جهتان:
اولاهما: الحذق في الاخذ، وذلك بقرأة متأنية، واخذ صائب.
واخراهما: تكوين ملكة حاذقة قادرة على الإبداع، وخدمة المثقف لتخصصه او تخصصاته، وذلك بالأخذ الحاذق من معارف اخرى؛ لان الحقول العلمية يغذي بعضها بعضاً.
والثقافات تتفاوت جودة وشمولاً، واعلاها ما كان عن عدة تخصصات في عدة حقول مع حذقٍ متنوع لكل ما له علاقة بتخصصاته من الفنون الاخرى.
قالت ابو عبدالرحمن : ليس
ذا ثقافة فلسفية من كان يحفظ فهرسة مباحث الفلسفة، ويستحضر في ذهنه اسماء عدد من الفلاسفة والمؤلفات الفلسفية,, إنما المثقف فلسفياً من له حذق لبعض مسائلها وان قل نصيبه منها بعد علمه إجمالاً باهم مباحثها، والمذاهب فيها,, ويكون حذقاً يفيده فلسفياً في دعم براهينه واعتراضاته، وتحرير دعاواه في مباحثه في الفقة واللغة والتاريخ والتفسير والحديث,, إلخ وأصولهن وعلومهن.
والعلم المادي حصيلة مبادئ نظرية، ويستنبط منه مبادئ نظرية لتطلعٍ مستقبلي، لهذا يكون مصدر ثقافة تتصف بانها علمية تضاف الى الثقافة الادبية، بحيث تكون الثقافة المجردة من الثقافة العلمية ثقافة قاصرة لاتليق بالعصر الحديث,, وقد ذكر الاستاذ مجدي وهبة وكامل المهندس:
ان الذي فجَّر الوعي بهذه الثنائية العالم الادبي سير تشارلس سنو عام 1959م في محاضرة له في كمبردج اثارت نقاشاً حاداً ووجهات نظر مختلفة (2).
ويراد بالثقافة الادبية كل الإنسانيات ذوقاً وتنظيماً وفهماً وحفظاً كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم السكان وعلم السياسة واصول الحكم والاقتصاد والنظام والإدارة وعلم النفس والفنون الجميلة,.
يُؤخذ من كل ذلك المدلول النظري الاستنباطي الذي يمارس بالقراءة والكتابة.
قال ابو عبدالرحمن: والعلم المادي تسيّره وتبرمجه قيادات وهيئات (3) ومؤسسات لاسبيل الى مخاطبتها والتأثير فيها إلا بفكر يملك الثقافتين معاً ليكون مثلاً قادراً على كلمة مسموعة توجه السلوك بتوظيف مواد الحضارة في الحق والخير والجمال، ووأد مالاقيمة له إلا الدمار والإباحية ومحادة الله في تدبيره الشرعي والكوني(4),,, وإذا وصل الامر الى هذا الحد فسنة الله الكونية لاتتغير كما هي في كل حضارة كافرة سادت ثم بادت,, هذا هو الجانب الفكري العملي من الثقافة العلمية التي لا تستغني عن ثقافة ادبية تخاطب القلب مادام تقدم البشرية لايقاس باليسر المادي بقدر مايقاس بإتاحة المجال الذي يعاون المرء فيه اخاه، ويتعاطف معه؛ فيكون الإنسان اجتماعياً يتعاطف مع الآخرين (5).
قال ابو عبدالرحمن: ولم يوفق قرار مجمع اللغة العربية في تسمية العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها - ثقافة !! والواقع انها ليست بثقافة، ولكنها مصدر للثقافة, ولاضرورة لهذه التسمية المجازية لانها خلط بين الشيء ومصدره لغير ضرورة ملجئة، ولانها تسمية تحكمية في تخصيص ماذكر,, والواقع ان كل ماهو في الوجود من ملموس ومسموع ومقروء ,, الخ فهو مصدر للثقافة.
واما رياضة الملكات فهي تثقيف لاثقافة,, والتثقيف على معناه اللغوي العام إلا ان يكون بالقراءة، فيكون تثقيفاً بالمفهوم الاصطلاحي الاخص,, وتنمية العقل والاخلاق والذوق,, إلخ غايات ثقافية؛ فلا تسمى ثقافة.
ولايصلح قولهم: احدى مراحل التقدم في حضارة ما تعريفاً للثقافة، وإنما ذلك ظاهرة تاريخية إذ يبدأ نشاط الامة العقلي بما تفرزه العواطف من آداب،فيكون الاتصال بالعقل؛ فتكون الفلسفة والمنطق وعلم الكلام والإبداع الفني المرتكز على الخيال,.
والخيال عطاء عقلي ثم تكون الثقافة العلمية والادبية - الاولى تلي الحضارة المادية، والثانية تسبقها.
ولايصلح ايضا للتعريف قولهم: السمات المميزة لإحدى مراحل التقدم في حضارة من الحضارات وإنما ثقافة العصر تكشف عن السمات؛ ففرق بين التعريف بالشيء والإشارة إلى آثارة,, وإنما يكون ذكر الاثر شارحاً للتعريف حال الضرورة.
قال ابو عبدالرحمن: وبكل مامضى يبين عموم وضلال وميوعة تعريف وبستر في قاموسه.
ومادامت الثقافة حصيلة قراءة حرة واعية حاذقة - استناداً الىالمعنى اللغوي - فلا حجر على المثقف (بهذا الشرط التلقائي)؛ لان المفكر يتلقى معارفه بحرية وانطلاقة فكرية ثم يلتزم مسؤولية البرهان الذي يوجه السلوك ويقوده,, ومن السلوك الثقافي الحر ثم الملتزم: أن يكون المفكر نبراساً هادياً لقاصري المدارك واشباه العوام - وان يكون ذا جلد في كشف كل حيل التضليل وانقاذ ضحايا المغالطات,, وهكذا كان مثقفونا الكبار من ائمة الفقة والحديث والتفسير والعقليات منذ القرن الهجري الاول إلى امثال ابن جرير فابن حزم فابن تيمية,, إلخ رحم الله جميعهم ، وذلك عندما كانت العالمية صفة للثقافة الهلنستية التي هي خليط وثنياتٍ وافكار وميتافيزيقيات وعلوم مادية وعقلية نافعة ومأثورات اديان صحيحة او محرفة ,, كل هذه تمركزت في جنديسابور بإيران والرها ونصيبين وانطاكية وقنسرين والاسكندرية وحران وأديرة العراق والشام ومصر,, وكانت مصادرها يونانية وسريانية وفارسي ة التحم بها مثقفو المسلمين منذ القرن الثاني الهجري (6).
وكل حذقٍ ثقافة بالمعنى اللغوي الاعم؛ فعالم اللغة ذو ثقافة لغوية، والإمام في الفقة ذو ثقافة فقهية,, ولكن المعنى الاصطلاحي يشترط تعدد الحذق في عدة حقول,, واحد منها اوبعض منها تخصصي كلي وبعض منها حذق جزئي ومعرفة إجمالية, والثقافة عالمية بطبيعتها؛ لأن المثقف لايبدأ من فراغ، ولان حتميات التاريخ تجعل العقول والمواهب والمهارات والاذواق في تلاقح بين كل الشعوب,, وعلى فرض وجود ثقافة محلية منغلقة على نفسها: فإن العالم لم ينغلق دونها، بل يغزوها الرحالون ويفقهونها ويلحقونها بثقافات العالم؛ فهم إيجابيون في عولمة الثقافة المحلية، والمحليون سلبيون في تقوقعهم,, وكان هذا قبل وسائل العصر السريعة التي لم تترك اي ثقافة محلية تغيب عن الاذهان.
وإذا كانت العولمة الثقافية كما ينبغي ان تكون عولمة برهانية: فمعنى ذلك ان العولمة لما هو حق وخير وجمال,, ولما كان البرهان محفوفاً بالإلف والعصبية والاهواء والمحلية وسوء القصد، والمنافع المؤقتة المرجوحة بنتائجها السيئة الوخيمة، وكان الاجماع على البرهان سلوكاً محالاً (لان الاختلاف سنة الله الكونية في خلقه)وكان من الضروري تحقيق مايجب ان يكون انسانياً مشتركاً؛ لتحقيق الوازع والدفع وسلامة الفطرة الإنسانية والطبيعية والمتاركة لخصوصيات الشعوب التي هي اختيار حر للجماعات فيها: فإن للعولمة الثقافية مبادئ متمثلة في التالي:
1- ان يقود العولمة عقلاء يوجه البرهان سلوكهم؛ ليحققوا القاسم المشترك الذي لايحيف على الخصوصيات؛ فتبقى الدول والشعوب متعاونة في الاخذ في ظل عدالة اطبقت عليها الاديان والعقلاء.
2- محاربة ووأد مايفرض بالضغوط، ويروج له مما ينشر بكل وسائل الإعلام والبث باسم حرية الثقافة مما فيه تفكيك الجماعات وتدمير الاخلاق وتضليل الإلحاد؛ فإن ذلك نظير الدعارة والمخدرات في الماديات، بل هو الداعي إليها.
3- اكثر شعوب الارض ذوو اديان ربانية دخل بعضها التحريف وبقي منها اصول هامة مشتركة تدعو لصلاح الاسرة والمجتمع والفكرة، وتحافظ على العقل والعرض والنفس والمال ودين الآخرين,, وهذا يعني تبصُّر قادة العالم العقلاء في عبودية القانون الوضعي الذي اصبح معولماً ثقافياً وممارسة بكل الحيل الإبليسية؛ فكان قاهراً لحرية المصلحين، حاكماً للدول العظمى ذات الاديان، ملغياً للاسرة والشرف والفضيلة والقوامة؛ لان مخالفته جريمة,, وهو قانون - مهما اختلفت مواده الفرعية في بلد دون بلد - يقوم على ما سمي حقاً طبيعياً، وماهو إلا الظلم للحق البرهاني وحيف مع الجانب البهيمي الحيواني، واسقاط للقانون البرهاني الذي يعدل - بسلوك ذي مسؤولية برهانية - بين الغرائز والنوازع,, وبتبصر اولئك القادة تكون قوانينهم مبنية على ما اجمعت عليه الاديان، وما تمليه واجبات البرهان العقلي والاستطيقا الجمالية والخلقية المستندة على قيمة الحق في تكوين الذات وتوظيف الإدراك الحسي الباطني - خلقاً، وجمالياً - وفق مقتضى البرهان.
4- ان تكون الدول والشعوب حرة في التناول الثقافي الذي تريده عن برهان، ولايفرض عليها نمط ثقافي بضغوط إغراآت مبرمجة.
5- جعل دعوات الإصلاح البرهانية جزءاً من العولمة الثقافية؛ لان المفكر بعد حريته في الاطلاع ستلزمه مسؤولية ما اوجبه الفكر، وسيكون عنده مفهوم الثقافة المضادة؛ فتظل له حريةالكلمة (7) في النقد والبناء (8).
ولست مع من يجعل الثقافة المضادة كل ماليس محلياً,, قال الاستاذ مجدي وهبة وزميله:الثقافة المضادة ُأطلق حديثاً على اي تعبير ثقافي يحاول ان يحل محل الثقافة التقليدية بمعناها المألوف,, وقد طُبّق هذا الاصطلاح على الولوع بموسيقى الجاز وبالأغاني الشعبية والفلسفة الهندية المشتقة من مصادر دينية شرقية وغربية تميز آراء جماعة الهيبيز (9).
قال ابو عبدالرحمن : الثقافة المضادة ما أبطله البرهان سواء أكان محلياً ام عالمياً,, وأمتنا ذات دين صحيح؛ فبرهانها من عقلها الذي خلقه الله، ومن دينها الذي انزله الله,, وذوقها الجمالي والخلقي تربية هذا البرهان,, وإلى لقاء إن شاء الله.
* الحواشي:
(1) أسلفت في حديث الأسبوع الماضي برهاني على هذا الضبط.
(2) معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص13.
(3) قال ابوعبدالرحمن: هذا هو الضبط الصحيح، وإنما تكون على نبرة عندما تكون الياء ياء َمدًّ
(4) كل جحد للعناية والقدرة الإلاهية،وكل افساد للفطرة في البشر والطبيعة من محادة تدبير الله الكوني.
(5) معجم المصطلحات العربية ص 130 بتصرف واختصار غير مخلين.
(6) المصدر السابق ص129 - 130.
(7) قال ابو عبدالرحمن : محال ان تجد في دول العالم كأوربا وأمريكا من يقول واعظاً موجهاً في الاسواق والحانات والفنادق؛ لان القانون والعولم ة يأبيان ذلك,, بل الكلمة لدعايات الإغراء,, وغاية مافي الامر ان شباباً وشابات فروا إلى الصوامع مترهبنين.
(8) هذه الحرية في ديننا =- وعند العقلاء - تعني المعادلة بين المصالح والمفاسد، وهي مشروطة بالحكمة والبصيرة والموعظة الحسنة,,, وقد نهى الله عن سبة آلهة المشركين حتى لايسبوا الله عدواً بغير علم.
(29) انظر معجم المصطلحات العربية ص 129 - 130.
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
تقارير
عزيزتي
الرياضية
ملحق الطائف
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved