التنمية الاقتصادية مصطلح شائع الاستخدام في الكتابات الاقتصادية، يراد منه تلك التغيرات الانمائية التي تصيب القطاعات الاقتصادية في المجتمع بهدف تحقيق الحياة الكريمة للأفراد، وتأخذ التنمية الاقتصادية مكاناً بارزاً في الدراسات الاقتصادية والاهتمامات الدولية المعاصرة، اذ تجد فيها دول العالم - ولا سيما الدول النامية - سبيلاً للقضاء على التخلف القائم في مجتمعاتها، وعلاجاً لمظاهر هذا التخلف، من سوء التغذية وانخفاض المستوى الصحي والتعليمي، وتدني معدلات الانتاجية، وانخفاض مستوى العمالة, وقلما يخلو برنامج اي دولة - نامية او متقدمة - من التركيز على سبل واهداف التنمية الاقتصادية وان اختلفت درجة التركيز هذه من دولة لأخرى حسب ظروفها السياسية والاجتماعية ودرجة تقدمها الاقتصادي وتوجهها العقدي، لما لها من آثار تنموية مباشرة وغير مباشرة فمن الآثار المباشرة: زيادة الدخل القومي والناتج القومي وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة التوظف وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، اما الآثار غير المباشرة فمنها: تحقيق الامن الاجتماعي وتوفير اسباب الأمن الصحي والغذائي وانتشار التعليم وتقليص الامية.
وكثيراً ما طرح اساتذة وخبراء الاقتصاد تساؤلهم حول كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية؟ او بمعنى آخر: من المسؤول عن تحقيق التنمية الاقتصادية؟.
فمنذ ان ارتبطت التنمية بالاقتصاد والمؤلفات الاقتصادية تتسابق في تحديد الاسباب الرئيسية وراء تحقيق عملية التنمية الاقتصادية, والذي يستقرىء معظم هذه المؤلفات خاصة تلك التي كتبت قبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي سيكتشف - باستثناء القليل منها - تركيزها على مقومات التنمية الاقتصادية، عنصر رأس المال والموارد الطبيعية والعمل بصورته التقليدية الذي يحصر مفهوم القوى العاملة بالأعمال اليدوية التي تتطلب القليل من المهارات والمعارف, والموضوع الذي انشغل به الاقتصاديون طويلاً عند تفسيرهم اسباب التنمية الاقتصادية هو موضوع الثروة التي كان ينظر اليها على انها مصدر قوة الدولة.
فالفكر الاقتصادي للطبيعيين يرى ان (الزراعة) هي مصدر الثروة، والفكر الاقتصادي للتجاريين يرى ان الثروة تتحقق في الحصول على اكبر قدر ممكن من (الذهب والفضة) اما الفكر الاقتصادي الكلاسيكي فيرى ان (الانتاج) في القطاعات الزراعية والتجارية والصناعية وغيرها هو المصدر الوحيد للثروة ومن هنا بدأ يدخل العمل كأحد عوامل هذا الانتاج جنباً الى جنب مع الأرض ورأس المال.
ثم تطور الاهتمام بعنصر العمل حتى انتشر الاعتقاد لدى الاقتصاديين بأن (العمل) هو مصدر الثروة, وعلى هذا الأساس بدأت الدراسات والمناهج الاقتصادية منذ افكار التقليديين المحدثين 1873م - على يد الاقتصاديين مارشال وأر فنج فيشر - تركز على (العنصر البشري) او اما يطلق عليه في أدبيات الفكر الاقتصادي المعاصر (رأس المال البشري) الذي لم يكن يلقى من الاهتمام القدر الذي يتناسب مع اهميته في عملية التنمية الاقتصادية.
لقد فشلت الكثير من النظريات والنماذج الاقتصادية للتنمية في الدول النامية، وذلك لاعتمادها على فكرة تتلخص في ان عملية التنمية ترجع في جوهرها الى تراكم رأس المال المادي، ومن هنا اخذت الدول النامية على حين غرتها الى التركيز على سياسة (تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية) في شكل منح واعانات وقروض متنوعة والتي كانت تنادي بها المنظمات والمؤسسات الدولية (المالية والنقدية والتمويلية) في الوقت الذي كانت تعاني فيه الدول النامية من شح الخبرات والمواهب البشرية التي يمكن ان تقود التنمية في بلدانها آنذاك.
ومن هنا بدأت الأفكار الاقتصادية تتبلور في ان المشكلة الاقتصادية للتنمية ليست في عدم وجود الثروة المادية وانما في (القدرة على كيفية ادامتها) والتي لا تتأتى الا عن طريق البشر، ولهذا توسع مفهوم رأس المال حتى أصبح يشتمل على رأس المال البشري ورأس المال المادي، كما توسعت على ضوء ذلك مقاييس الثروة بحيث تضم الثروة البشرية والموارد الطبيعية ومع اهمية الموارد الطبيعية الا ان البشر هم اكثر اهمية، هذه الحقيقة اشار اليها تقرير التنمية البشرية لعام 1990م والذي جاء فيه: (ان الناس هم الثروة الحقيقية لأي أمة، وان الهدف الأساسي للتنمية هو ايجاد البيئة الملائمة للافراد، ليتمتعوا بحياة طويلة خالية من العلل) ولهذا فان التنمية الاقتصادية ينبغي ان تبدأ بالانسان الذي هو مصدر الثروة وذلك بتنمية قدراته ومهاراته وتوسيع معارفه والحفاظ على صحته وبيئته مع ضرورة الانتفاع من هذه القدرات والمعارف في تحقيق عملية التنمية.
وتلخص لجنة الأمم المتحدة المعنية بتخطيط التنمية هذا قولها: (ان الناس ينبغي ان يوضعوا دون منازع في مركز التنمية، واهم الاسباب التي تدعو الى ذلك ان عملية التنمية الاقتصادية اصبحت تفهم وبشكل متزايد على انهازيادة القدرات المتاحة للناس).
وما نلمسه ونشاهده في السنوات الأخيرة من ازدياد الطلب على اصحاب الكفاءات العلمية والخبرات العملية في كافة المجالات التي تحقق التنمية الا دليل على الأهمية الاقتصادية للقدرات التي يحملها الانسان, ان الانسان وكل انسان لديه قدرات اساسية منها فطري ومنها مكتسب يستطيع من خلال تنمية واستثمار هذه القدرات - من خلال التربية والتعليم والتدريب والصحة الجيدة - ان ينهض بعملية التنمية الاقتصادية في المجتمع.
واخيراً اذكر القارىء الكريم بالمثل الشهير الذي اعتنقه اليابانيون يقول: (اذا كنت تخطط لسنة، ازرع حبة، واذا كنت تخطط لعشر سنوات، ازرع شجرة، وإذا كنت تخطط لمائة سنة، علم الناس, فعندما تبذر حبة فانك ستحصد محصولاً واحداً وعندما تعلم الناس فستحصد مائة محصول), فالانسان هو الرأسمال الحقيقي ولا شيء افضل من الاستثمار في الانسان فهل ندرك هذه الحقيقة ونأخذ بها؟؟!!.
سليمان بن صالح الطفيل
عضو جمعية الاقتصاد السعودية