Sunday 18th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 5 ربيع الثاني


تداعيات السردية في رواية الحصون,.
غالية خوجة

كيف يتعامل الروائي والقاص (عبدالعزيز مشري) مع البطل؟ وكيف يتراءى لحظة الكتابة؟
وكيف لنا ان نقرأ جماليته السردية,,؟
يقول عبدالعزيز مشري في الجزيرة عدد 9656:(العمل الفني والقصصي هنا لا يمكن ان يكتب من خارج الكاتب لانه سوف يعيد ترتيب الاشياء بطريقته وفنيته ولمسته الخاصة المرتبطة برؤيته واستراتيجيته الكتابية/ اعادة ترتيب الواقع - مهما كان غير مرض - الى جماليات).
وفي كتابه (مكاشفات السيف والوردة) نقرأ كيفية تفاعل عبدالعزيز مشري مع الكتابة، اذ يقول في الصفحة (20): انني لا اعلقها ب(المزاج) لكنني لا آلفها دون الرغبة الحميمة، ولم اعهدني اكتب ابداعا دون اقامة المودة الحميمة معه وبالتالي يتزامن هذا مع طبيعة العمل فالدراما التي يشكلها النسق الكتابي في الغالب تكون من داخل علاقتي - ولو التصورية - والقادمة من الواقع مع نمنمات البناء حتى يكتمل).
ولنتبين مدى الافق الذي اعاد ترتيبه بفنية من معاناته ومن التحامه بالنبض الكاتب، ولنكشف عن مفاعلات اللحظة الكتابية فاننا سنحاور رواية (الحصون) المنسابة بلغة تطوي في اعماقها تحويلات شتى,.
يتسارد النص ببداية توحي للقارىء وكأن هناك شيئا سابقا مسكوتا عنه: (,, فتشابه حاله مع حال الذي نسي وفاة ابيه وابهج نفسه في العرس), هذا ما قاله احد المتحاورين اللذين دخلت عبرهما الرواية حيزها, وهذا المقول جاء بسردية استبدلت شهرزاد الف ليلة وليلة ب(شهريار) الذي بدا ضميرا ظليا ل(انا) الراوي المنفتح على دالتين متناقضتين: (الموت/ العرس) وكأن (مشري) يريد ايصال جملة ازلية نستطيع صياغتها ب(في البدء كان التضاد).
يتوزع هذا البدء على عناصر النص السردي من خلال (26) مقطعا تراصت مداميكها لتشكل (الحصون), اما كيفية ذاك التراص فتراه قد اتخذ طريقة سرد الحكايا الحدثية اي المتمحورة حول الاحداث وذلك من خلال فضاء نظير قام على التفاصيل الدقيقة واسئلة (الصاحب) كشخصية اساسية مع (المحدث) الا انها كانت شخصية سلبية، مستمعة، ومستفسرة، ولم تبدأ بالاضاءة الايجابية حتى المقطع (15) رغم اظهارها بهيئة شخصية متعلمة تحفظ جزءين من (القرآن الكريم) وكثيرا من الاحاديث الشريفة.
بينما كانت الشخصية الايجابية، والفاعلة، هي شخصية (المحدث) البالغ من العمر عتيا, ويشارك هاتين الشخصيتين شخوص ثانوية كالجدة والاحفاد الحاضرين في لحظة السرد، وكبائع العبيد وابي ناقة، والشاعر، والفقيه، والجان، والتركي العاشق, المستحضَرين الى لحظة السرد عن طريق ما ترويه احدى الشخصيتين (المحدث) للاخرى.
تناسلت الاحداث داخل المتن متنقلة من حكاية لاخرى وكأن منطقة السرد تحولت الى ذاكرة حاضرة تنبش في ذاكرة قديمة وتعدد مداراتها,, وعلى هذا تنشطر الذاكرة النصية الى:
(1)- بؤرة الرواية المركزية المتمثلة بكلام السارد.
(2)- هالات البؤرة: وهي ما تنامى من هذا الكلم وافترع لنفسه بواتق اخرى لم تتعامد لكنها شعّبت افقية البنية ووسعت مجالها عبر لحظتين:
(أ) لحظة ال(فلاش باك) التي تختزل بؤرة الرواية وهالاتها العائدة الى الخلف ستين عاما.
(ب) لحظة الحاضر الموجودة بأدق تفاصيلها، والمكتملة مع الرواية حتى الرقم (26) وكأنها تخبرنا ان الزمن الحاضر بواقعيته كالغروب الذي استهل به النص تضادياته وكالصيف والشتاء وتكرار نوم الصاحب عند المحدث ما هو الا ايحاء يقول ان (شهريار) استمر ليالي وليلة في سرد حرب الحصون التي امتدت حولين, اما السبب المباشر للحرب فيخبرنا به (مشري): (وحاصل السبب ان رعيانهم من الاولاد والبنات، سرحوا غنمهم في حمانا فاختلطت غنمهم بغنمنا، منعهم رعاتنا من الاولاد والبنات فما انتهوا وحميت النفس الغاضبة بينهم وامتدت الايدي من قبل اولادنا، فراحوا الى اهاليهم يندبون وضرب اهاليهم على صدورهم, جاؤونا,, تناقشنا وتشابكنا بالكلام بعثر الغضب عقولنا وعقولهم ساعتها, لزم الغضب الفائر احدهم فمد يده على واحد منا,, هاج الجميع هنا,, وماج من هناك,, وقالوا لا يفصل بيننا غير الحرب، فاما لنا عليكم واما لكم علينا ص 23).
بعد ذلك بدأ الاستعداد للحرب فبنت قبيلة الراوي الحصون (كنا بكل زنودنا الخضراء نحضر الحجارة الكبيرة للبنائين وقد رسموا قواعد الحصن الشامي يواجهه من الجهة الاخرى الحصن اليماني واستوى الاول بعد شهور قائما وفتحاته العليا ست لا تأخذ غير انوف البنادق ص 16) ويذكر المحدث ان للقبيلة المعادية حصنين لا يقلان عن حصنيهما كما يذكر من خلال بندقية جده ب(حرب القرى) التي قامت ضد الاتراك, واشتد وطيس حرب الحصون نتيجة عدم التزام القبيلة الاخرى بأخلاقيات الحرب (ومن اعتدى على امرأة في الطرفين فقد نقض عهدا لا يغسله الا الدم ص 17) وها هم المعادون يقتلون (مريم) أنشط النساء في تضميد الجرحى وفي سقاية الظامىء وفي الزغاريد الرافعة لمعنويات المقاتلين.
و(مريم) هي الشخصية التي نتعرف عليها في نهاية المقطع (13) ليعيد اليها السارد ظروفها وطريقة حياتها كما يعيد الى القارىء التذكرة بالحرب التي كانت مجرد حامل للعناصر الاخرى في الرواية القائمة على حرب انتهت منذ الصفحة (25/ المقطع الرابع): (ولم تحط حرب الحصون اوزارها الا بعد حولين، نحارب ونهدأ ونحارب ونهدأ تدخلت القبائل المجاورة واعلنت عرض صلحها على لسان شعرائها فكان، ما كان بقي في القلوب طارىء للظمأ فقد بقي لنا عندهم رقبة,, لكنها ذهبت مع السنين).
عبر هذه الفقرة وغيرها يوضح لنا الراوي دور الشاعر المهم في حياة القبيلة حيث يتمتع الشاعر بشخصية ايجابية فعالة في مختلف الظروف والاوضاع كالصلح وشن الحرب والاعراس والمراثي.
جاءت هيكلية الرواية - الحكاية - بطريقة التوصيف الموضوعي للتفاصيل الجزئية والكلية على مستوى الملامح الخاصة بالبيئة الجغرافية وعلى مستوى حركات الشخصيات الجسدية والذاكرتية المتسلسلة كمرويّ يسرده المحدث المتساوي مع الراوي الذي وظف عناصره بما يخدم النص , مثلا (القطة) التي يجعلها نقطة حياتية تظهر التضاد بينها وبين عدوها الطبيعي (الفئران) ومقدرتها على الفتك بالثعبان بغية الوصول الى مقصدية مختزلة بمثل شعبي يشي بسبب حرب الحصون: (تحفرها اصغر الفيران وتقع فيها اكبر الثيران ص 22) كذلك عملية ادخال الديك في اغلب النسيج الحكائي، ربما لاشعارنا بان الليل يتسارد الحكايا، وبأن الصباح خدعة لم تطل,, ذلك لان الديك لا يمارس الصياح كي يسكت البطل عن الكلام المباح او يستمر به، بل، يصيح من السكين التي تهيئه لوجبة عشاء شهية للشخصيتين ولاولاد المحدث, يتكرر التركيز على الديك الذي يظل في افكار الصاحب الراغب دائما بملء معدته بلحمه ومرقه والذي لم يدع بيت شعر يخص الديك الا وذكره (ص 76/ص 95).
وعلى ارتباطات تلك العناصر مع المجال المتواجدة فيه الشخصيات تنبني البيئة المجتمعية التي تداولها النص والمنفرجة الى العادات والتقاليد والاعراف الاجتماعية من ثأر وحرب وحياة تناولها الكاتب عبر استضافة المحدث للصاحب الذي عليه كضيف تصرفات معينة اضافة الى القاء الضوء على تصرفات النسوة في الحرب كالتضميد والاسقاء والزغردة وفي البيت (وليس لواحدة ولو كانت بكرا ان تحد شفرتها وتقطع بها رأس ذبيحة لا طائرا ولا بهيما، وهذا ما تعارف عليه اهل القرى والقبائل ص 26) ومن ضمن هذه الافعال العرفية تقاليد الاعراس (خطب واحد من قرية بعيدة وبعد وقت تزوجها، فحضر اهلها وجماعة قريتها ليلة عرسها، فوفى العريس وكمّل واقام كالعادة ثلاث ليال بوافر الضيافة,, في اليوم الثالث كانت (العرضة) وجاء (المخيلون) من القرى المجاورة ، توسط شاعر القبيلة دائرة العرضة وامتدح العريس واهل قريته ,, ص19) وحين قصر العريس واهله مع الشاعر لم يلبث هذا الاخير الا ان هجاه، مما دفع جماعة العريس الى مهاجمة بيت الشاعر ببنادقهم، ولم يبق نقل البيئة الى الرواية حياديا بل نجده وقد اتخذ منحنى انتقاديا في بعض المشاهد التي حرصت على قراءة المجتمع وتحميل تلك القراءة رأيا موظفا باحالات نسقية، شفيفة, وهذا ما نلاحظه في المقابلة التي يقيمها (مشري) بين عشق الرجل التركي وبين ابناء القبيلة من جهة وبين موقف المجتمع من المرأة العاشقة او الرجل العاشق من جهة ثانية (ويل لفعلتنا,, يعشق احدنا واحدتنا فيحب الناس جميعا ويهذب ارذل الشرور في نفسه فنمنع عنه ونقطع ونرمي معشوقته ببالغ الجرح من الكلام، ويستتر العاشق في سر خاطره بحبه كيلا يطلع عليه القوم,, ويبيح لنفسه مثل ذاك الفضاء ويقطعه على جنس اهله يمنعه عن الاحمر ويبيحه للاسمر، وكأنما لهذا قلب ولذاك صخر ص40) كما ان المقطع (16) لم يخل من دلالة غامزة توسلت البقرة لتحولها من مثل الى واقع من يمتلك القوة وتتسع تلك الملاحظات لتشمل انعدام الانسانية نتيجة تقييمها بما تملك (عجبا لحالنا,, نقيس القاصي والداني بما ملك فان ملك فلان اقمنا له في سيرتنا مقاما، واذا عدم تسلينا بسيرته في المجالس، وقد يكون الاول منقوصا في الجمائل بخيلا في ذاته واهله والثاني جوادا ص 78).
ولم تنفصل الخارطة الاجتماعية للرواية عن موروثها الشعبي المستند على ما يقال من شعر في المناسبات كالعرس والحرب (ص 24) وفي الهجاء (ص 30) اضافة الى الموروث الديني: القرآني (ص 58) والاحاديث الشريفة (ص 61) كذلك الموروث الشعبي عن الجان.
اما بالنسبة للغة فقد تراوحت بين تداعيات الواقعي اليومي الذي شكل معظم العمل وبين الواقعي السحري الذي صار كذلك حين ادخل الكاتب المتخيل مع اللغة سواء عن طريق التوصيف (وكأنما ادرك ان قلب الصاحب لم يشخ كقلبه وربما كانت انهار من بعيد او من قريب تسوق ماءها في دمه اليوم ص 40) حيث الوصف يقابل البنية ويبعدها عن تسلسلها التتابعي من خلال شحن الجملة الروائية بايقاع مختزل يجعل من الاحالتين: الداخلية والخارجية لوحة خاطفة تضيف مجالا ابعد من المشهدية المدونة التي استحضرت مياه الانهار من مسافة غير محددة لتوحي بطاقة الصاحب الحيوية ومدى لهفته للاستماع الى المحدث.
وقد تمت تلك الادخالات عبر اعادة جزء من الحياة للخرافة الماضية واسقاطها على اللحظة المعاشة, من ذلك ما صدفته مخيلة الصاحب وهو عائد في الظلام الى بيته (عاد الخوف الذي قفزت باحضانه قصة فلان حينما استدرجته امرأة جنية في الليل ولعبت باشداقه ص 74) ويتدخل النسيج السردي في مواضع اخرى بالنواحي الخارجية التي يمزجها الروائي مع مخيلته بعيدا عن اخيلة الشخوص من مثل ما سرد به الحيزين المكاني والزماني في هاتين الفقرتين:
(1)- المكانية التي اضفاها على بيت الشاعر من خلال جوانية الشاعر وتحديدا في حركتي الاعتكاف والانعزال: (وكان بيت الشاعر يعتكف على جرف في انعزالة قريبة من القرية ص 33).
(2) الزمانية التي بعثرها بين رمزي البياض والسواد اي بين النهار والليل كدائرة جرت فيها الاحداث (كان الليل القروي يهطل بكل سكونه على البيوت الحجرية الصغيرة، ويحيك سوادا واسعاً تنتثر في فضاءاته نجمات فضية بعيدة نقية عذبة كعذوبة حلم اخضر بقلب طفل ص 35) ولا تستقر مرموزات اللونين على ذلك التوقيت بل نلفاها تصبح اشارات للبهجة اذا ما رفع احد قماشة بيضاء فوق داره وفي اعلى مكان في السوق، والسبب الذي ترفع له القماشة البيضاء عائد الى ان المولود كان ذكرا وعلى عكس ذلك فان دلالات القماشة السوداء تشير الى الحزن والتعاسة والى ان المولود انثى.
وبين تلك اللغتين (الواقعية اليومية) و(الواقعية السحرية) تظهر تدخلات الراوية بين حين وآخر لتخبر عن تفاصيل الفضاءات الزمكانية والنفسية حيث تتساوى لغة الراوي مع منطوق الشخصيات وبخاصة الساردة التي يعلم الراوية كل شيء عنها عن حركاتها الظاهرة مثلما يعلم عن ما في ذاكرتها ونسيانها (وهي عادة كانت ترافق المحدث وقتما يفر منه قطيع الكلام، او يدور على قول مهم ضاع في مداخل الذاكرة ص 38) اضف الى ذلك بعض التوصيف الذي كان مهزوزاً كالتشبيه الذي وصف به ضحكة المحدث يقهقه قهقهة متقطعة، لو كانت بلون يقال انها شقراء، وهي شبيهة الى حد بعيد شقشقة الدجاجة العجوز بعد بيضتها ص52 .
وفي موقع آخر نرى الراوية يعترف بان نصه عبارة عن مجموعة خواطر تساردت لتنجز مبناها: ماذا غادر خاطرك ياصاحب الخواطر؟ وأي خاطرة تجر أسمالها الآن، وتبدي غيبتها؟ ص93 .
ذاك المبنى الذي ظهر من خلال متن حكائي ازدواجي: الأول كنص للحاضر منوجد بكل يومياته ولحظاته الحياتية المرورية كماض شكّل النص الثاني نص الذاكرة الذي تشابك كمكانية جوانية مع مكانية النص ومكانية الأحداث، ضاماً اليه الوادي الفاصل بين بيت الشخصيتين الرئيسيتين المنتميتين الى قبيلة واحدة.
ولاتختصر المكانية تلك المنطقة المحيطة بالشخوص الا لتشمل مجازا الأمكنة التي دارت فيها الاحداث المختلفة لنص الذاكرة المتبقي منه: الحصن الشامي والحصن اليماني.
أخيراً أشير الى بعض الأخطاء الطباعية أو النحوية والى بعض الكلمات المكتوبة بالعامية أن يلق ص 18 حيث أن هناك ناصبة لاجازمة, وغنم معها فرس ص16 والفرس تتوجب النصب كونها مفعولاً به.
وفتقافز من عضامها ص 96 لماذا تركت بالعامية ولم تكتب عظامها ؟
ولن أنسى سؤالاًمفاده: كيف لم يعرف القوم عشيقة التركي وقد حُمل أو سُحب من دار عشيقته الى ساحة داره وهو مصبوغ بالدم؟ أين غيّب الراوي مشري أثر الدم عن تلك المسافة؟.
* الحصون/ رواية عبدالعزيز مشري/ اصدارات دار الأرض ط1/1992/ عدد الصفحات 110 .
* مكاشفات السيف والوردة/ عبدالعزيزمشري/ اصدارات نادي أبها الأدبي/ط1 عام 1996/ راجع صفحة 20 .
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved