Sunday 18th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 5 ربيع الثاني


أفق
قصائد العمري: فأس توقظ الطفولة فيما الذات تستعيد كينونتها,,!!
محمد الحرز

حين تصبح الذات مسكونة بقلق الكتابة ومعبأة بالاسئلة ذاتها التي تنبثق من وعي اللحظة، ومن افرازات المنظور الذاتي الذي يعطي مدلولات جديدة للأشياء فيما الذات تتعرى امام اللغة، ليتأسس بذلك القول الشعري، ويبقى شاهدا على المغامرة/ اللعبة قبالة الذات والعالم والاشياء، عندها ينكسر حلم القراءة إذا لم تحمل في حركتها امكانية التجاوز والتغلغل بعمق في سبر أغوار النص ومجاهيله، هذا التوجس هو ذاته الذي يحكمنا ونحن نقارب نصوص الشاعر علي العمري فأس على الرف بوصفها نصوصا تمارس فعل الكتابة الشعرية بوعي يجعل من الشعر لغة الاستثناء نكاد نلمسه ولا نعرف كيف نسميه على حد تعبير محمد بنيس، وبكونها تستجيب لا الى الجماليات الشعرية الحديثة ذات الطابع الشمولي والمتماهي بل الى اكثر الجماليات خصوصية وفرادة والموشومة بأثر المكان وتجلياته في جسد النص والذات معا، حيث يأتي نص علي العمري بمثابة تجريب للغة وهي تبحث عن نفسها من خلال قراءة المكان البكر ودلالاته وخلخلة عناصره المتوضعة في حياة الذات.
وربما لا تسعى لغة العمري لأن تقيم رابطة حنينية بين الاشياء بقدر ما تسعى الى ازاحة ما علق على الأشياء من موروثات تنتمي الى المكان نفسه الذي وعت الذات وجودها من خلاله، الأمر الذي يشحن النص برؤيا انبعاثية متجادلة في مدار الوعي من جهة وانفتاح النص على زمنه الخاص من جهة اخرى, ولعل الطاقة الايحائية المتولدة من حركة النص، لا تكشف عما يضمره النص من تساؤلات مربكة للذات فحسب، بل تفجر تلك التساؤلات في وجه العالم والنص على حدٍّ سواء.
تلك السمات التي توحي بها نصوص العمري، تتولد وتتشكل في فضاء الدلالات النصية من خلال جهاز مفاهيمي لغوي قائم على استراتيجية منظمة، تعطل قوانين النثر اللغوي دون ان تلغيه حيث يتم اعادة منتجة النثر وتوظيفه كحركة تفضي الى شعرنة النص وتنظيم بنائه، وإذا ما ذهبنا مع جان كوهين عندما يقول: (كي يحقق النص شعريته، ينبغي ان تكون دلالته مفقودة اولا ثم يتم العثور عليها، وذلك كله في وعي القارئ) توجّب علينا ان نبحث عن الاندماجات المنفية كمنافذ لقراءة النص التي تتبعثر في نصوص علي العمري باعتبارها مناطق مهشمة ومفككة في بنية النص مما يجعل بالتالي قراءتنا معايشة للنصوص بمعنى ان النص يكشف عن نفسه بنفسه ولأجل ان نقف على تلك المناطق سنورد الأمثلة التالية:
فأس على الرف
أو,,, تذكر أمه على السفح
تدعك السماء بعيونها
ودون كلل تنتظر
الأب الذي يربي عائلة من الفؤوس في غابة
أو ,, صر الحنين في خرقة
وراح بأعضائه الكثة الى مناجم النوم.
ثمة دلالات تتدفق من رحم المسافة المتوترة والفاصلة بين المقطعين السابقين حيث نجد ان هذا التوتر نتيجة المفارقة المختلفة من أبعاد حركة المقطعين فالمقطع الاول (فأس على الرف) لا يحقق اختراقا لقانون اللغة بل يبقى متوضعا في مجال النثر، لكن النص يدخلها في علاقة جدلية، ينقلها من لحظتها الأولى السالبة - كما يسميها السيميائيون - الى لحظتها الثانية الايجابية، وذلك مع الجملة الشعرية الثانية حيث تصطدم دلالات كلمة (الفأس) فيما بينها وتتنافر في فضاء المقطعين، فالأولى تحيل الى حيز سكوني لا يحمل سوى مقومات موته، ولا يتطلع إلا الى فراغه العدمي، لذلك تأتي حركتها مثل خط مستقيم ثابت، أما الثانية فهي بالضد من ذلك، حيث الصخب والامتلاء وكل مقومات الحياة التخييلية ودلالاتها التي تتفجر في حيزها الدلالي وفي حركتها الحيوية، وهنا نضع ايدينا على طرفي الجدلية التي هي بمثابة البنية التي تمنح نصوص علي العمري خصوصيتها وشعريتها وحيويتها في ذات الوقت اذ تشكل كل من كلمة (الرف والغابة) وما يرشح من سياق حركتهما الزمكانية داخل النص طرفي تلك الجدلية، وفي اطارها تأتي حركة الفأس وانبناءاتها الترميزية بوصفها معادلا انطولوجيا للأنا الكاتبة داخل النص، وتتضح بذلك رؤية المشهد في ثنائية الحياة المعطلة/ الحياة الفاعلة، حيث تستمد النصوص جمالياتها ورؤيتها وذلك عبر عنصرين اثنين هما الذاكرة والواقع وهما بمثابة تجليات الذات لحظة انشغالاتها الكتابية، ولحظة التحامها الوجودي في فضاء النصوص هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الخيال الجمعي يشكل عنصرا مهما في البناء الانثروبولوجي المعرفي والثقافي ،وهو بذلك يرتبط بالذاكرة، ليضفي عليها قيمة، تجعلها قادرة على التمثل والمواءمة والتشفير والافراز، الامر الذي يدفعها لتعرية الماضي وتذيب الحدود الفاصلة بين الأشياء والنص، وهي فيما تندفع توقظ عالم الطفولة في النص وفي اثره الخارجي، وبالتالي تستعيد الذات ما يسميه باشلار (اسبقية الكينونة) ويبدو عالم الأحلام مسربا خصبا، يؤدي الى احياء قوة الطفولية النمطية التي تعيد الى الذات كما يؤكد على ذلك باشلار (حس الدهشة الذي يكتشف به الطفل الحقائق لأول مرة).
مثل :
هل كان سم آبائنا
هو من سوم الطفولة بحناء غده
أو,, لا شيء يجعل الأسف معلقا
كعظمة في الحلق.
لا شيء.
حتى ولو كان المفقود إبرة ترتق هذا الشتات.
أو,, وسخا لذيذا كان يعطي الأظافر
بهاءها في الطفولة.
واذا كان الحنين ، هو المخزون الشعوري للذات ومحركه الفعال باتجاه الطفولة فهنا لا يعطي مؤشرا على وجود اندماج وتداخل وتصالح بين الطفولة/ الذات بل الإزاحات والتعديلات التي تحدثها الذات من منظور الرؤيا حين تكون اكثر اقترابا الى العود الأبدي في عالم الطفولة تترك مسافة للتجادل والتساؤل بين الذات والطفولة، تفتح بعدا او فضاء لتقاطع الأصوات وتحاورها، فهناك صوت الطفولة الذاكرة، الأنا، الواقع تتبعثر داخل النص، ولنتأمل المقاطع التالية:
لم نكن في تماط لنجفل الذباب عن
المشهد
بصراخنا
ولا عائدين برؤوس منكسة في
الغروب
أو ,, وما كنا لنأسو على لمعة في الذرى
حين فرطنا الباب، وظل بطيئا يصر مع الهبة
التي ترميها سدرة مطفأة في الباحة.
أو ,, ما اشارت له كهلة لمحته كوة
ولا تطلع الى افق يقطر بالبارود
أو,, العائد من الاقاصي
بوجهه البض
وساعديه الحديد لم يحرث شبرا
كان مخبوءا لأعوام في سواد قماش دافىء
إن بؤرة الانبعاث التي تضفي على المشهد الطابع الحركي والديناميكي في المقاطع السابقة، تكمن في استعادة المكبوت من طبقات اللاوعي ونفيه في ذات الوقت كما يؤكد فرويد على ذلك، (لم نكن - ولا عائدين - وما كنا - لم يحرث - ما أثارت - ولا تطلع) وهذا ما يجعلنا نؤكد ان الحنين الطفولي ليس سوى أداة مراوغة بيد الذات، كي تبعثر مشهد الطفولة، وتعيد صياغته من جديد على اعتبار ان للماضي الطفولي وجودا مستمرا في الحاضر والحاضر يدرك الماضي من خلال الخبرة الذاتية في النص.
وحينما نعود الى تلك الثنائية السابقة محاولين ان نتلمس دلالاتها الايحائية المندسة في ثنايا النصوص، نكون أكثر تشوفا في الكشف عن الشعرية المحتجبة ولنقف الآن على النصوص التالية:
تحت السقف الذي اسودت اخشابه تماما
حيث قطن فراش مبدد ومنحاز
تسيب مهملا على ندى عرصة
حتى فاض من السدة
عمرنا الذي ابتكرناه من حجر
أو,, فقط غار في مسلك
آخر السلالة التي تقتات بالاحجار
أو,, وتصير حياتنا حجرا كاملا
يمتدّ
من المنكب الى المنكب
ان نسلخ أيامنا، هكذا
للسبيل ذاته ثم تمحونا الرياح
لنعود أحجارا على أكتاف ابنائنا
أو,, الليلة
ذات ذبالة الجدة تنحني
لتصير السقيفة سوداء كأنها
نسيت أعمارنا في جوفها
للوهلة الأولى تشعر بثقل الوطأة المرعبة التي تقذفها حركة تكرار الصور الشعرية في المقاطع السابقة على الأنا بوتيرة واحدة وكأن الحياة/ العمر لا يتم استحضارها في دائرة النص إلا إذا تشيأت وتحولت الى مادة صماء مملوءة بالفراغ والسكون - وهنا يستثيرنا السؤال التالي: هل الصور الشعرية السابقة تسقط في نوع من الكليشيهات المبتذلة بسبب التكرار!؟,, نحن لا نركن الى ذلك، خصوصا حينما يتضح أمامنا ان السياق الشعري يتمتع بالمقدرة على إيجاد الصلات بين الصور وطاقاتها الايحائية الخفية ضمن دائرة الجدل الثنائي,, انها تحتفظ بطاقاتها الفيزيائية التي يقول يونغ عنها:
انها من خصائص الانماط العليا كلها وهذا ما يفضي الى ترك الأبواب مشرعة للمزيد من المعرفة بسيكلوجية الخيال للنصوص المبدعة ولعل الايقاع المتناغم والمولد من الحركة التكرارية للصورة الشعرية، يتجلى في شكل حركتين يدعمان بنية الثنائية ويعضدانها، وهذا التضاد نتيجة تعالق كل حركة في مكانين مختلفين, وبما ان المكان في نصوص العمري متعلق من الذاكرة، فإنه يستجيب للذاكرة أكثر من استجابته للواقع المتعين، لذا نجده ينتج الذات شعريا في تفاعل عضوي,, وفي زمن ميثي، يحتوي هذا التفاعل بكل شروطه المسبقة، الا ان حضور الذات في المكان مشروط بنوعية المكان باعتباره يحدد منظور الرؤيا/ الموقف داخل النص، فهناك الأماكن المغلقة والضيقة (المكان الرحمي) والأماكن المفتوحة واللذان يشكلان حدي الحركتين السابقتين ويشكلان المحتوى الذي يتم انتاج الايقاع من خلاله، فمثلا في المقاطع السابقة، يبرز مفهوم الاغتراب المكاني كحتمية تاريخية قارّة لم تستطع الذات ولا النص الخروج من شرنقته وتجاوز اسلبته المتمظهرة في النصوص، الأمر الذي نكتشف نوعية العلاقة القائمة بين الذات والمكان - وكما اشرنا سابقا بمشروطية هذه العلاقة - ففي الأماكن المغلقة، يأتي البعد او المنظور البصري كعلامة ايقونية في تشكيل المشهد المكاني وكأنها بذلك تعمق مفهوم الاغتراب بتعطيل فاعلية حركتها داخل المشهد:
تحت السقف الذي اسودت اخشابه
لتصير السقيفة سوداء
أو ,, تتسع الغرفة
يقطر السم من سقفها
ويتهدل العواء على الجدران
أو ,, ثم تنسل خارجا وتترك أحرفا
تتلامع في سواد الغرفة.
أما الاماكن المفتوحة، تفرض الذات حضورها في بناء المشهد الشعري غير انه حضور هامشي وغير فاعل في إزاحة أسلبة الأغتراب، ومرد ذلك، راجع في تصورنا الى هيمنة البعد النفسي ودفقه الدلالي الذي يسيج المفهوم الذي يعطي للحياة والاشياء والكائن والمنبعثة من ذهنية الشاعر على أنماط الدلالة للغة الشعرية في مجموعة علي العمري.
فمثلا: يمتد من المنكب الى المنكب/ ان نسلخ أيامنا/ ثم تمحونا الرياح.
أو,, فجأة في منحنى الشارع
تفيض زجاجة روحك
حين خطوك يسهو
فيخدش حلما بائتاً في الطريق.
واذا كان النص كما تقول جوليا كريستينا: (يمنع من المطابقة بين اللغة كنسق لتوصيل المعنى وبين التاريخ ككل خط مستقيم بما يحتويه من مساحة خصوصية للواقع والتاريخ , فإن نصوص علي العمري تنجذب ضمن دائرة الخصوصية الممتدة بين الواقع والتاريخ دون ان تغلق نوافذها على التمثلات الخارجية للنص.
ان نصوص علي العمري من خلال ترحلنا معه اثناء القراءة وعبر تموضع تجربته الشعرية في سياقها الخارجي، تثير اشكاليات وتساؤلات عديدة من الصعوبة بمكان ان نغفلها، فإنها تلح على مشهدنا الشعري وخصوصا لقصيدة النثر في لحظتها الراهنة ومن ضمن تلك الاشكاليات، ضياع المفاهيم المعتمدة على التصنيف الواعي للمسألة الاجناسية للأنواع الادبية في ساحتنا الأدبية والثقافية، ولعلنا لا نخفي بعض التساؤلات التي نطرحها على انفسنا والتي تحتاج الى مجادلة واعية، فالتساؤل الآتي,, الى اي مدى ذهبت قصيدة النثر في تشكلها الخارجي,؟
ومن هو الآخر المندس في بنيتها,,؟ وما هي الرؤى الثقافية والآليات المعرفية التي يتم التعالق بها في لحظة الميلاد؟ وكيف تم ذلك؟.
كل هذه التدفقات المربكة، تظل هاجسا يلازمنا ونحن نمارس القراءة، وربما وجدنا في نصوص علي العمري شيئا من تلك الإجابات التي باتت تلوح في افقنا الشعري.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved