Sunday 18th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 5 ربيع الثاني


ملامح البناء الشعري وخصوصياته في ديوان (أين اتجاه الشجر)
للشاعرة: ثريا العريض
خالد زغريت

تهيىء لنا الشاعرة ثريا العريض عبر قراءة ديوانها (أين اتجاه الشجر) اكتشاف صخبنا وضجيج ارواحنا في لغات صمتنا الراهن الواصفة برجفانها اللامرئي زوالنا عن تاريخ شمسنا، عن اسطورة وجودنا الخاصة ان سواد الواقع وهواته في جغرافيا انوجادنا الانساني مناخ للابتكار الشعري شرط قراءة نسيج صورته لاحكايتها، ان انفنا من رطانة الادلجة في تكريس الواقع بتسجيليته فلا يعني ذلك النضوب الابداعي لشعرية تستقرىء الوانها القزحية من الواقع لانه صورة وجودنا ولا يوجد فن مؤسس لجماليات ذات بعد ديمومي مالم يرتبط بطبيعة عصره شرط الا يكون هذا الارتباط معنى من معاني التاريخ او التوثيق او التجسدي وحسب، إن في الواقع ما يغذي الكينونة الجمالية بخصوصياته المبادرة بحيوات اشراقية تقوى على آنها الزمني,, بهذا المعنى تجتهد ثريا العريض لتحديد وريد انتمائها الشعري ويبقى الحكم على مدى اكتشافها الشعرية متقدمة مرهونا برؤيتها لاستلهام بؤرتها الشعرية وتجسيد تمثيلها الخاص، ونلتمس هذا التحديد في فهمها الدافعية كتابة (أين اتجاه الشجر) في مقدمتها لديوانها حيث تقول:
(هي قصائد عاشقة أرهقتها معاناة الرؤيا وملاحقة السراب وهجرات طيور الوطن - ليست تسجيلا للاحداث المرة بقدر ما هي تسجيل لدموع امرأة ابتليت واصطفيت بعيني زرقاء) فالشاعرة تؤكد ملامح هوية شعريتها عبر التحول من الرؤية الى الرؤيا وفق ذاتية درامية لا شخصانية, وسنحاول فيما يلي استقصاء آفاق هذا التحول وتجليات البنى الشعرية عبر العناوين التالية:
1 - جدلية المنتمي واللامنتمي:
تتوفر صورة هذه الجدلية على معادلة موضوعية متقاطبة تستشرف من خلال الانباء الشعري الذي يقوم عبر التحويل من الرؤية الى الرؤيا حيث يساوي قطب التحويل الاول ( الرؤية) قطب الجدلية (المنتمي) ونحدد مقولة الرؤية بالتالي: الرؤية الشعرية مصطلح يدل على كيفية تجسيد الشاعر للواقع من خلال إبصاره وتمليه شعريا كفعل بصري يجسد الواقع وفق رؤيته الخاصة لمنجزه بمعنى آخر هي صورته المستبصرة بشكل جلي عبر سياقات شعرية تكون لبوسه التجسيدي، ورؤية ثريا العريض هي تمثل لفكرة الانتماء الكلي بمجموع المعاني والدلالات، ونتيجة الانفعال والتفاعل بهذا الانتماء تتولد حالة متجانسة ابداعيا مع محتويات هذه النتيجة كاستقراء عناصر رؤية الواقع بنمطية يجددها وعي الشاعرة وادراكها للعلائق المتعددة لمحتوى الرؤية التي تفند درن الواقع وانتهاكاته وانحطاطه بالوقت عينه التي تعمق جذور الانتماء:
(كم توقعت حائرة
أتساءل بيني وبيني عنك
كيف أعشق فيك العذاب
,,,.
وكيف الموات يحب
,,.
(أحبك,, كل وجودي أنت
بكل جفافك,, كل الغبار
فيك العيون التي سكنتني تظل
والوجوه التي سكبت بملامح وجهي
انعكاسات اشجانها لم تزل,,)
يتجلى مفهوم الانتماء شعريا لدى العريض عبر انكشاف ذاتي ناضج عن ولع بحب الوطن، مؤسطر تعبيريا في أصغر التفاصيل فالوطن بتفاصيله يسكن جسد الشاعرة وروحها فتتحد الجغرافيتان وتتيح هذه الصوفية للشعرية انفعالا ايجابيا يمكن الشاعرة من صياغة رؤيتها خارج فنتازيتها، ويساهم الحس الشعري المصفى في ادراك واعٍ ومتدرج لعناصر رؤية الواقع المتهدم في شتى جوانبه التأزم - التقهقر الحضاري التصفيد بالتقاليد، التعلب الانساني عموما مصاقبة الوأد,,)
(كل اخضرارك بين الخليج الحزين
وذاك المحيط البعيد
مدى للكوابيس,.
(بعيني امرأة تتوحد بالصمت
وتوأد,, أو تفتدى,,)
فالشاعرة منتمية بلاحدود لكنها رافضة للمظهر المتردي فهي تعانيه بحس شعري مجابهة له وبالتالي غير منتمية للمظهر الضد المصدىء للجوهر المتعانقة معه إذ يتحول انتماؤها الى الرؤيا والتي تريد منها الرؤيا الشعرية التي تعني اداء شعريا يجسد حلم الشاعرة وتطلعها وفق مؤسسات معرفية وثقافية فالرؤيا هي التخيل الشعري وتمثل طرف المعادلة، فما دامت الرؤية هي ابصار صور الواقع المتردي، فالرؤيا استبصار تخيلي لما يتمناه الشاعر لهذه الصور، وتشكل كاشراقات موشحة بالتفاؤل والثورة والحلم:
طريق طويل إليك
عبر الشرايين مشحونة بالامل
ولابد يوما نصل,.
,,,.
رغم سقوط البراعم.
على الدرب نبقى
على الدرب حتى - نلاقيك - سوف نظل
ولابد يوما ترانا
تنادي بأسمائنا
ولابد يوما نصل
على الحجر اخطو
وارفع فوق المدى قامتي فأرى
ولكنني حين اخبرتهم ما أرى رجموني).
فالشاعرة تنتمي شعريا الى منجز الرؤيا الشعري لأنها الزرقاء ولأنها مصاقبة لكونها الشعري المؤسس معرفيا، ثقافيا، وتسعى الشاعرة عبر هذا التحويل الى استخلاص مادة شعريتها الفكرية بآلية جدلية، علاقة تأثر وتأثير نحو الشعرية.
ب - من الجدلية إلى الشعرية:
تنجز الشاعرة ما دتها الفكرية عبر الجدلية لتؤسس شعريتها بتأصل هذا المصطلح في تجربة الشاعرة وفق المفهوم السائد للشعرية اي (مجموعة المبادىء الجمالية تقود الشاعرة في قصيدتها) ويمكننا ان نرصد في هذا السياق - باقتضاب - المبادىء التالية:
أ - توليد المعنى الشعري:
المعنى الشعري في جوهره حالة انزياح من المعنى الموضوعي الى الشعري التخيلي فالخطاب لا ينبني على مقولة منطقية تقريرية وصفية خارجية,, بل يقوم على توليد معنى حلمي تخيلي شعري غير خاضع للمنطق وبمقدار ما يحمل هذا التوليد ممايزة قولية رغم انزياحها عن الموضوعي يحقق متعة في التحليق القابل للتغني لا للتمثل، أي وقاع ما يعد الواقع:
(تعثرت بالصمت
حين مددت يدي لأزيح الستائر
كان يحدق بي ساخرا وأراه
كالافعوان الرهيب
,,,.
تعلقت بالشمس مرعوبة استغيث بها,,)
الخطاب هنا محمول على مجموعة من الدلالات والانزياحات الى معان متخيلة/ التعثر بالصمت - الصمت يحدق كالافعوان/ التعلق بالشمس/ طبعا - هناك انفتاح للرمز الذي ينفتح بدوره عبر طاقات دلالية الى معنى شعري.
2 - اللغة:
تتجلى اللغة الشعرية في قصيدة المريض بيقظتها كذات انسانية اي هي ذات الشاعرة المنفتحة الى مجال دلالي وانزياحات شعرية تبدو وكأنها صحوة حيوية للمخبوء التعبيري تمزق مجالها القاموسي لتحكي حيواتها عبر انزياحات فضائية وهي لغة رغم ميلها للتعبير الواقعي منتعشة بطاقاتها الموقظة للتخييل والانزياح:
(تبرعم اشواكهم في البطاح
وتزهر اذ ترتوي بالضجيج)
أرانا نمد اليه يدينا
فيأكلها حجر ذاك الشجر).
لنلاحظ الانزياحات التي لا تغرق وتتجمد في رمزيتها في قول الشاعرة (ترتوي بالضجيج - يأكلها حجر,,) تناسج الانزياح لتشكل البؤرة الشعرية التي تؤلف خطاب القصيدة بممايزة جمالية جذابة.
3 - الصورة:
لاتتولد الصورة في قصيدة العريض من خارج حياة الشعرية، أي ليست تزيينية انها حاجة فنية تتولد وفق شروط القصيدة وتتنوع وفق هذه الشروط والحاجة فهي نقلية حينا وصفية احيانا وشرحية تارة وانبثاق جمالي حرمتوج للمعة الشعرية احيانا اخرى، وقد تكون صورة جزئية مفردة او صورة كلية مؤلفة من مجموعة صور تؤدي وظيفة جمالية تصعِّد الخطاب في لحظة انفعالية جمالية معينة.
ولنقرأ هذه اللوحة المموسقة بتقنية جمالية وموقعة فنيا نفسيا، انفعاليا.
(تعثرت بالصمت
حين مددت يدي لأزيح الستائر
كان يحدق بي ساخرا واراه
كالأفعوان الرهيب
الذي في الطفولة أرقني
يتربص بين الزوايا
وخلف انعكاس المرايا
لينسل بين الضفائر
وينفث من سمه في الشفاه
تعلقت بالشمس مرعوية استغيث بها,,)
تتناسق الصورة سواء في اشكالها الجزئية ام الصورة الام/ اللوحة/ وتنسجم من خلال هرمونية الوحدات/ العاطفية/ النفسية/ الفكرية/ الإيقاعية العضوية/ الخارجية تغذيها بمكونات بنائية تؤسس خصوصية كونها الجمالي وأفقها الشعري والصورة عند ثريا العريض لا تقتصر على/ المثل الحسي/ وان تكن منوجدة به فهي لا تقوم بالتمثيل والتجسيد والتوضيح كما هو شائع بلاغيا انها تولي الاهمية القصوى لبنى التخيل، الفكري، الجمالي القائم بشعريته.
4 - الدراما:
يعتمد الخطاب الشعري لدى العريض في جانب من بنيته عل التكوين الدرامي الشعري اي بنأي مدروس عن صورة السردية/ الحكي/ القص/ من خلال اقتناص الحدث الموجود في القصيدة شعريا عبر تخلص مرهف من السردية النثرية والحكاية وما تحتاجه بنيتها من فراغيات ووصايات اسلوبية وشروحات، ان الدراما تتولد في القصيدة بتشكيل شعري يزاوج بتجانس شعري بين الذاتي والموضوعي/ عبر ادوات الدراما - الحدث - الحوار - الفعل/ وهذا ما نلمح تشكيله الشفاف في اللوحة السابقة التي تتجلى دراميتها كونها فعلاً شعرياً يتجلى عن ومضة ترصد الفعل والحدث وتجسده شعريا إن العناصر السابقة والتي تمثل مجموعة المبادىء التي تولد شعرية القصيدة ليست بذاتها مبادىء للشعرية اذ تكمن شعريتها في تبيئة مجموعة هذه العناصر شعريا وفق هرمونية بنائية جمالية تولد شعرية القصيدة بما فيها من اساليب وصياغات وادوات تتحول عبر الاداء الشعري الى اضاءة جمالية متمايزة تشرق بشعريتها وسماتها التشكيلية الخاصة.
ج - خصوصية التشكيل الشعري:
إن ما قدمناه في دراسة الشعرية لا يخرج عن كونه اشارات والماحات مقتضبة غير مفصلة وغير محاكمة ورغم ذلك يطفو سؤال مهم وهو ما هي خصوصيات الشعرية ثمة اشكالية اخرى تجابه توجهنا في استقراء صورة واضحة في هذا المجال، اذ لا تسمح لنا به هذه الدراسة لذلك سنحاول الطواف العاجل حول ابرز ملامح هذه الخصوصيات:
تتمظهر اولى اقانيم هذه الخصوصية بطبيعة الشغل الشعري لثريا العريض وهي جذوة الهم الوطني والانتماء والارتقاء مما يفرض على ادوات الشاعرة سمة واقعية تستقرىء - تجادل - ترى وهذا ما يجنب الخطاب الشعري التحولات التجريبية والشطط الى التباس مدارس تجريبية من مثل/ السوريالية البرناسية ,,/ إن الواقعية ترتبط في توجهاتها الشعرية بجدلية المضمون والشكل وبالتالي ايلاء الاهمية للتواصل والتلقي وبالتالي البنية الشعرية مرتبطة اساسا بشروط المتلقي مما يفترض سهولة الخطاب وشفافية ادواته الجمالية الخطابية وكثيرا ما دفعت هذه الشروط الشاعرة الى مطبات الخطابية والمباشرة وتقديم التعبير عن الموقف على ابتكاره الشعري وهذا ما يميل بالقصيدة في احيان كثيرة الى الجملة الحماسية - الشعارية - التعبير المباشر - الجاهز والتفصيل والشرح:
(ولابد يوما نصل
رغم الليالي الشحيحة
رغم التخاذل,, رغم التساؤل
رغم سقوط البراعم
رغم الوجل,,)
تتصعد في قصيدة العريض الرؤيا حتى تصبح سمة عامة للشعرية اي وظيفة النص الادبي فهي زرقاء اليمامة بامتياز ويساهم التزام الرؤيا كمؤسس شعري في استشفاف الوعي الذاتي والثقافي والفني للشاعرة ومعالجتها لقضاياها وهمومها وينضبط هذا التوجه بحسه النقدي الممايز مما يخضعه في بعض الاحيان لشروط الرؤية النقدية فيطغى خطابها الناقد على شعريته.
(آه من الحلم نسرق أحلامنا
من قواميس امس مجيد
وخلف اهتراء القواميس
سيل الهجاء الرثاء الغناء البكاء
بتاريخنا والمدن
إن هذه الاشارات لا تلغي انفرادات جميلة تقوي خصوصية شعرية العريض من مثل بساطة الجمالية وشفافيتها وصوت الذات الناضج الذي يمنح دراما القصيدة بعدا شموليا يبدد في احيان كثيرة المطبات والانحرافات عن الشعرية اضف الى ذلك قوة الصدق الموضوعي في القصيدة وجمالية عضويتها البنائية وتناسق الجمال النصي المهذب من شطط الحشو والعتمات التركيبية ومعطيات اللغة الشعرية المعبأة بحرارة ووهج شعريين جميلين إننا ازاء شعرية ترسم أفقها بقوة وتتلمس سبل نضجها وخصوصيتها وهي مادامت جادة في هذا الاتجاه فإنها قاب قوسين من حلمها الشعري الذي ينضر بالتكثيف الشعري والاداء المختزل المتوهج بخصوصية جمالية متفردة باتجاه الشجر.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved