لا يبالغ الوعي المثقف اذا حث الناس من حوله على ان يحسنوا الى عقولهم، وذلك على اعتبار ان الاحسان الى العقل محاربة بطريقة أو بأخرى لمهيمنات البلادة والخمول والجبليات الطبيعية في التعامل مع الاشياء بقلب ساذج, فقد غدا كثير من الناس في ايامنا هذه مرتعبين الى درجة كبيرة من كل الاشياء التي تدفعهم الى التأمل والتفكر والانتاج الجمعي سلعيا او ثقافيا، وكأن حالهم اضحت سلعية استهلاكية مغيبة للوعي والفكر، لا حول لهم ولا قوة سوى التفنن في طرق الغياب من فضاء الوعي الثقافي عن طريق جنون الاستهلاك والخدماتية.
فماذا يعني ان يدخل شخص ما الى احد السوابر ماركت ليشتري غرضا ما، ثم يخرج بحصيلة كبيرة من المشتريات، وقد لا يشتري الغرض الذي قصده على طريقة طاش ما طاش ؟
وماذا يعني ان تسمع احدهم يحدثك عن جلوسه امام التلفاز يتقلب بين محطة واخرى لمدة قد تزيد على عشر ساعات متواصلة؟
وماذا يعني ان تكثر قراءة الصحف والاحاديث الديوانية اثناء الدوام الوظيفي الرسمي؟
وماذا يعني اقبال الناس المجنون على تناول الأطعمة السريعة المنتجة في المطاعم التجارية، بلا خوف، وبكل اندفاع؟.
وماذا يعني ان يكون في احد البيوت خادمتان، علما بان البيت لا يحوي غير الزوجين، وطفلة وان الزوجة لا تعمل.
وماذا يعني ان ينام بعض الناس النهار كله ، ويسهروا الليل كله مع اوراق اللعب واشياء اخرى؟
وماذا يعني الاحجام عن قراءة الكتب الثقافية المجدية والاقبال على كتب العواطف والطبخ والمسخ؟
وماذا يعني ان تعد الصفقة رابحة عندما تبادل زوجة شاعر ما عشرين نسخة من ديوان شعره الأخير بكتاب ردىء الطباعة عن الطبخ؟!
وماذا يعني ان تحمل ارملة مثقف ثلاثة كراتين من كتب زوجها المرحوم لتبيعها في مكتبات الكتاب المستعمل بمائة وخمسين دولارا وهو قد اشتراها بما يزيد على ألف وخمسمائة؟
وماذا يعني ان يقضي الاطفال خمس ساعات يوميا امام التلفاز، وبعض الوقت في ألعاب الحاسوب, واوقاتا اخرى في لعب الاتاري,, والوقت عندهم يضيع هباء,, والنتائج صرع مبكر,, ونظارات نظر مبكرة,, بلا وازع او رادع؟.
وماذا يعني ان يحضر آلالاف لمشاهدة لعبة كرة قدم، ويشاهدها الملايين في التلفاز في بيوتهم، في حين قد لا تحظى ندوة مهمة بحضور اكثر من ثلاثين شخصا، واذا عرضت في التلفاز، فربما يحضرها بعض المثقفين لدقائق، يقلبون بعدها المحطة الى اخرى تحت ضغوط الزوجة والاولاد لمشاهدة تمثيلية سخيفة؟
وماذا يعني ان يجبر الطلاب في المدارس والجامعات على حفظ آلاف الصفحات من الكتب الدراسية، لتهرب من عقولهم بعد اسابيع من نهاية الفصول الدراسية، ولا يعلمون كيف يكونون منتجين منهجيين ذوي عقول نوعية؟
أليس في كل الاسئلة السابقة وفي مئات الأسئلة المغيبة لفاعلية الانسان اساءة ما بعدها اساءة الى العقل اهم فاعلية في بني البشر.
فكيف نحسن إلى عقولنا إذا كنا ممن ينتفعون بالنصيحة؟
من البدهي لمن اراد ان يحسن الى عقله التركيز على اربعة عناصر رئيسة يمكن ان تنتج من الافراد والجماعات مجتمعا حضاريا ثقافيا منتجا، وهذه العناصر، هي:
1 - الاحتفال بمنهجية الكيف النوعية المنتجة على حساب منهجية الكم السطحية، وذلك لتكريس تربية ثقافية تناقش، وتحاور، وتتأمل ، وتختزل، وتفهم، وبالتالي يمكن الغاء ثقافة الكم الهامشية الباصمة!!
2 - هدم مرضية الاستهلاك والبطر، وبلورة وعي الانتاج، والفاعلية الذاتية، وذلك بمحاربة الاستهلاك الكمالي، والاكتفاء بضروريات الحياة وكمالياتها الترفيهية المعتدلة، ومن هنا يمكن بناء الذات القادرة ثقافيا على المواجهة والتحدي، وبالتالي هدم الذات المهترئة بالاستهلاك والخدمات!!
3 - تنظيم الوقت واستغلاله بما يجدي وعدم بعثرته هباء منثورا، لتعدو مسألة الوقت مسألة حضارية انتاجية، تجعل حياة الامة وثقافتها فاعلتين في بلورة وجود انساني غير غيابي, وهنا، على سبيل المثال، لماذا لا يخرج طلاب المدارس والجامعات يوما كل نصف شهر او شهر الى شوارعهم لتنظيفها وزراعتها، وتنظيم جدارياتها وفرض المخالفات على المخالفين، وتفعيل الثقافة البيئية بين الناس؟
4 - محاربة امراض الروتين والبيروقراطية والجهل والانانية,, لبلورة المجتمع الدينامي الثقافي الحي في وجوده اليومي لا الهش المتلاشي حضاريا بالامراض.
وليست هذه المحاور الا اشارات تساهم ثقافيا هي وغيرها في الاحسان الى العقل، اذ لا افضل من العقل الجمعي المثقف المنهجي النوعي، المنظم لوقته ، والمتجدد غير البيروقراطي.
فهل نفكر جديا بالاحسان الى عقولنا؟ دعونا نجرب مع انفسنا أولاا!!
|