ابراهيم الدامغ,, عرفت ديوانه واسقط بيدي أأنا أم رجل حي,, ام راحل توفاه الموت,, شيء من حزننا يسكنه,,ويسكتنا فرط اساه,.
عذاب السنين فاتحة الديوان الشاكية,, شبح للموت يتردد في هلع القائل,, لتظل صورة ام تترامى شجونها,, ويخرج منها رجل باكٍ يرسم الهم واللواعج المفجعة,, فلم يكتف (دامغنا) ببؤس الطفولة اذ شب على الشعر مفجراً دهره الصامت,, مفصحاً ودونما يريد عن لوعة هم يسكنه ويخلف في اعماقه ندبة الضياع.
قهر الشاعر لم يكن وليد أمر عارض او طارىء,, بل هو ما يبدو حالة صدامية مبكرة استحوذت على عقله واكتوى بنار الوصايا والعناء وقتل الذات حتى جاءت شعريته الباكية خيطاً تنتظم به القوافي,, لتتولد صور ومعان يكرس سيادة اليتم العاطفي:
انجبتني كليلة وهي تهذي قصة البؤس حيث يروى الشقاء |
(الديوان ص 8)
ولأن الشاعر الدامغ ولد حياً,, لكنه محترق في لهيب الموت,, بل ومتوار في مدافن الضياع ينشد الخلاص من واقع لم يعد يحتمل وجوده,, ربما لأنه مطارد ان صمت ومقموع ان افصح,, ثراء حزن يلوك البلاء والفاقة,, ويتدثر بما لدى الشاعر من غطاء الكلمات:
والترانيم لم تزل في فؤادي مثلما كان في سداها الرثاء |
(الديوان ص 11)
لا يغبر شاعر مثل الدامغ مكانة الحزن من قلبه,, ولا يسمح على الاطلاق بأن تغادر الدمعة محجريه الجامرين لفرط حرقة تسكن,, وهم يستوطن الذات الطافحة,, بويلها وثبورها الذي لا يهادن على الاطلاق.
ذئب وحمل,, تناظر الإفصاح والوجوم:
ولأن الشاعر يسترد حقوقه بالكلمات,, ويداوي جراحات مريديه بطبابة المعنى,, تظل القصيدة الثانية في ديوان (الدامغ) تناظراً منهجياً يتلازم مع كنه التدوير الكلي لمفردته الشعر فالذئب يأخذ حقه من المراعي والمفازات فيما (الحمل) يظل موعوداً بفاجعة اللحظة المبتغاة, فبين الافصاح والذئب تكتمل لعبة الانقضاض والنهش و(الهبش),, فيما يتحد صوتا الوجوم والحمل في اتساق غريزي يؤثر في القارىء والمتتبع لجملة هذا السياق الذي يتطابق في القول والفعل دون اي عوائق:
فلا ذئب ولا حمل ولكن اناس عز في دمنا الصفاء |
(الديوان ص 21)
فقد في ربيع الود:
ولأن الشاعر لا يترك الوفاء ايضاً,, ويحقق في المعنى ما يعجز عن قوله في الكلمات يفي لجملة من المداخلات الشعرية التي استخلصها من ثنايا جملة من القصائد تلك التي تبحث عن معادلها الموضوعي في لغة بين مدار الضررين (الافصاح والوجوم) او بين ما سبق واشرنا بين حمل وذئب لتنمو في هذا السياق معادلة الوفاء النادر الذي يصوره بفقد قد لا يطول تتوجه عبارة الحب لمن هم على شاكلته (كاد حسين) (معطلي القوى) (مزهوين بهدوئهم) (ثائرين على حدة القول بفنائهم) صحبة الشاعر الذين يقتفون حساسية خطابه الانساني في نظم قافية تؤثث مكانها بحرير الكلمات,, وتسبغ من مديح القول غطاء للروح التي انهكها جفاء الحاضر المر وألهب مشاعرها قول يأتي الهوى من مقتله:
الترانيم لم تزل في فؤادي مثلما كان في سداها الرثاء |
(الديوان 77)
ولنا ان ندرك في مطافنا الأخير ان ربيع الود مع شاعر كابراهيم الدامغ لن يدوم طويلاً,, بل سيصبح بطول قصائد الود والحب المقتضبة تلك التي نطالعها بين كل آهة واخرى,, نغزل منها أملا ان تتفجر افراح الشاعر,, لعل الذات تصفو وتعيد الغائب الى اهله.
حائل شعر خارج الحزن:
في قصيدة تخرج من اعطاف ديوان الشاعر الدامغ,, تلف افق الانشاد طرباً في مدينة حائل وهي القصيدة الوحيدة من بين قصائد الديوان التي خرجت من ربقة (الافصاح والوجوم) لتتخلف في لغة غزالة (عنيزة) مدينة الشاعر تتعشق الفلاة وتهذي بما يحلو لها من قوافي القصائد,, في وقت أخذت من الافصاح حاجته,,ومن الهمس كسرا لقاعدة الوجوم:
وطويت فج البيد يعصفني الطوى لأرود في الجبلين بلغة زادي دار لها برد النعيم ووشيه ورحيقه للمستهيم الصادي |
(الديوان ص 196)
توالت في صفحات الديوان تدوينات شاعر يفتك به الشعور الحقيقي لرؤية الأشياء فهو انسان قبل كل شيء يلتقط تفاصيل الحياة الدقيقة ليصورها بلغة ترقى الى حجم تأثيرها وفداحة واقعها, الذي يتمثل في فهم حجة الحياة على هؤلاء المعذبين,, فاليتم جاء واقعاً يضيف الى الذات جملة من المكابدات,, فما بالك بعيد يصوره الشاعر وهو يهل على طفولة معذبة بسهام يتمها.
إشارة:
* اسرار واسوار (شعر).
* ابراهيم الدامغ.
* الناشر شخصي (1420ه).
* (224 صفحة) من القطع العادي.