لعيون الصهيونية
أتاح الحلفاء بعد ان حطّت الحرب العالمية الأولى اوزارها، اتاحوا للصهيونية الفرصة الكاملة لحضور الاجتماعات والمباحثات التي تلت تلك الحرب لرسم خارطة جديدة للمناطق التي تم سلخها من الدول الوسطى المهزومة، اي تركيا والمانيا وحليفاتهما، وخاصة المناطق العربية التي طُرد منها الأتراك والتي من بينها فلسطين وذلك وفق مصالح الحلفاء المنتصرين في الحرب، وشمل ذلك فصل فلسطين لتكون منطقة منفصلة تُدير شؤونها بريطانيا في الاتجاه الذي يحقق نص وعد بلفور، وعُوملت المنظمة الصهيونية كما لو كانت دولة عظمى وطرفاً دولياً من الأطراف التي خاضت الحرب وانتصرت فيها وبمقتضى ذلك جاء صك الانتداب على فلسطين الذي اصدرته عصبة الأمم واضحاً جدا بالزام الدولة المنتدبة بوجوب تحقيق الأماني الصهيونية في فلسطين ووضعها اي فلسطين في احوال سياسية واقتصادية تضمن انشاء الوطن القومي اليهودي ويُعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لاسداء الرأي والمشورة الى الادارة المنتدبة في فلسطين (1) .
وقبل أن ادخل في كيفية معاملة الحلفاء للمنظمة الصهيونية استثنائياً كما لو كانت جهة عظمى لابد من التأكيد على ان نفس المعاملة الاستثنائية كانت ستحصل عليها المنظمة الصهيونية من الأطراف الآخرين في الحرب، فقد كان الالمان متحمسين جدا لفكرة تحويل فلسطين الى مستعمرة يهودية وصدرت عنهم تصريحات تدل على ذلك بالرغم من ان هذه الفكرة هي فكرة انجليزية في الاساس، فقد كان للصهاينة نشاط بارز في المانيا عند بداية الحرب، وكان هناك تعاطف قوي بين الصهيونيين وكل من الالمان والاتراك ولولا ان تطورات الحرب سارت لصالح الانجليز وحلفائهم لكان وعد مماثل لوعد بلفور قد صدر من المانيا او تركيا وليس عن بريطانيا كما حدث بالفعل (2) .
لقد اكدت احداث تلك الفترة، اي فترة الحرب العالمية الاولى بمقدماتها وبنتائجها ان الاطراف الامبريالية التي اشتركت فيها وبافتعال أسبابها واقتسام غنائمها او تحمّل تبعاتها كانت مختلفة في كل شيء حتى المتحالفين فيما بينهم كانوا مختلفين وجرت بينهم مفاوضات صعبة ومعقدة لتحديد مطامع كل فريق منهم كالذي حصل بين بريطانيا وفرنسا - مثلاً - على تحديد مناطق نفوذ كل منهما في سوريا والعراق، حيث استمرت المفاوضات والاختلافات بينهما سنين طويلة لم تنته الا بعد ان اخذت العراق ما يشبه الاستقلال عام 1936م وخرجت فرنسا من المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، اما فيما يتعلق بفلسطين فقد كانت جميع الامبرياليات المنقرضة والقائمة آنذاك متفقة على تهويد فلسطين وانكار عروبتها وحقوق شعبها حتى تصريحات الرئيس الامريكي ولسون الشهيرة التي دعا فيها الى الاقرار بحقوق الشعوب والأمم بتقرير المصير والتي كانت لها مصداقية الى حد بعيد في سياسات الدول الكبرى ازاء حركات الاستقلال والتحرر التي شهدها العالم فيما بعد حتى هذه التصريحات فقدت مصداقيتها تماماً وانتكست رأساً على عقب كلما اتى دور مناقشة الموضوع الفلسطيني في الدوائر السياسية الدولية، حيث كانت الدول الغربية الكبرى توافق على كل المطالب الصهيونية، بل ان هذه الدول تتسابق في تأييدها للصهيونية وطلب رضاها.
لقد كانت فلسطين استثناء في سياسات الدول الامبريالية وخاصة السياسة البريطانية بعد الحرب العالمية الاولى، حيث جاء صك الانتداب على فلسطين مختلفاً في صيغته عن صكوك الانتدابات على الاقطار الأخرى العربية وغير العربية، فبينما نصّت صكوك الانتدابات على ان الدولة المنتدبة تكون مسؤولة عن اعداد السكان المحليين لحكم انفسهم بأنفسهم فان صك الانتداب على فلسطين جاء خالياً من هذه الصيغة، بل تضمن نصوصاً صريحة توجب على الدولة المنتدبة تحويل فلسطين الى وطن قومي يهودي وفق ما نص عليه وعد بلفور.
لم تكن هناك نصوص في وعد بلفور او في صك الانتداب تقول صراحة بمصادرة الارض من ملاكها العرب وتشريدهم وقتلهم واستبعادهم من ارضهم واحلال اليهود المهاجرين محلهم، لكن هذه الأمور المخالفة لكل الشرائع والأخلاقيات والقوانين التي نُفّذت على ارض الواقع في فلسطين هي التي ليس لنص انشاء وطن قومي يهودي في فلسطين معنى الا بها خاصة ان الفلسطينيين اكدوا انهم سيقاومون مخطط تهويد بلادهم بكل ما يملكون ويستطيعون منذ البداية.
وعندما بدأت المقاومة الفلسطينية تأخذ طابعاً جدياً بعد الحرب العالمية الأولى وتبلورت نوايا البريطانيين والصهاينة فيما يتعلق بتنفيذ فكرة تهويد فلسطين كانت قوات الاحتلال البريطاني على اهبة الاستعداد لقمع المعارضة الفلسطينية بعنف شديد، وكلما قام الفلسطينيون بمظاهرة او انتفاضة او ثورة تصدت لهم القوات البريطانية بالحديد والنار والحقت بهم اصابات بالغة وامعنت في الانتقام والتنكيل بهم، فقد جلبت بريطانيا قوات برية وجوية وبحرية كثيفة لاخماد ثورتي عام 1929م وعام 1936م حيث ضربت المدن والقرى وطاردت الثوار الفلسطينيين في كل مكان.
وتعاظمت المقاومة الفلسطينية سنة بعد اخرى في عهد الانتداب، وتعاظم التحدي الامبريالي البريطاني لصالح الصهيونية وتنفيذ مخطط تهويد فلسطين حتى تطور الصراع ليسفر عن تحالف بريطاني صهيوني موحد في مجابهة المقاومة الفلسطينية (3) .
فاذا امعنا النظر في تلك الفترة الواقعة بين عامي 1918م - 1936م ودققنا فيما تنبض عنه تصريحات وتحركات المسؤولين البريطانيين والزعماء الصهيونيين فانه تبرز لنا مسألتان هامتان:
الأولى - الأهمية الاستراتيجية لفلسطين بالنسبة لمصالح بريطانيا وأوضاعها في المنطقة العربية.
والثانية - ادراك الزعماء الصهيونيين لتلك الأهمية واستغلالهم لها، فقد اوضح البريطانيون في تلك الفترة انهم كانوا أحرص على المضي قدماً في انشاء الوطن القومي اليهودي من اي وقت مضى، حيث كان الاستراتيجيون البريطانيون يرون ان فلسطين تقع في قلب الامبراطورية البريطانية من الناحية العملية وان اقامة دولة يهودية حاجزة في فلسطين على الرغم من انها قد تكون دولة ضعيفة بذاتها هي من الناحية الاستراتيجية شيء مرغوب فيه بالنسبة لبريطانيا العظمى (4) .
واثناء احتدام الثورة الفلسطينية عام 1936م اكد النواب البريطانيون في جلسة لمجلس العموم البريطاني تلك الاهمية في اوقات السلم والحرب على السواء وربطوا بين سلامة المصالح البريطانية وبين نجاح الصهيونية في فلسطين (5) .
وفي الوقت ذاته قام كل من رئيسيّ المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية الدكتور حاييم وايزمن ودافيد بن جوريون بابلاغ وزير المستعمرات البريطاني اورمسبي بأن الصهيونيين رفضوا عروضاً قُدمت لهم من اطراف امبريالية اخرى للتحالف معهم ضد بريطانيا، ولكن اذا انتهجت بريطانيا سياسة ترضية نحو العرب فان الصهيونيين قد يحدثون انقلاباً في تحالفاتهم يساعدون على اقصاء بريطانيا عن المنطقة (6) .
ولا شك ان الصهاينة كانوا جادين في هذا التهديد فقد كان الصهيونيون على علاقة وثيقة بالحكومة الالمانية في العهد النازي واشارت مراجع كثيرة الى الاتفاقيات المعقودة بين الصهيونيين والنازيين في مجالات الاقتصاد وفي مجال هجرة اليهود الالمان الى فلسطين وصدرت عن المانيا مناورات سياسية تؤكد تطلعاتها الى أن يكون لها نفوذ في فلسطين (7) .
وقبل الحرب العالمية الاولى كانت المانيا في عهد الامبراطور غليوم مهتمة اشد الاهتمام بموضوع تهويد فلسطين حيث اعطى الالمان وعدا لليهود نص على التعاطف مع اليهود فيما يتعلق بهجرتهم من البلدان الاخرى الى تركيا، وقد وزع نص هذا الوعد على القناصل الأجانب في القدس والمقصود بتركيا آنذاك حسبما جاء في نص الوعد الالماني هو فلسطين التي كانت تعتير أرضاً تركية من حيث ان السيادة فيها لتركيا، وكانت الحكومة الالمانية تضغط على تركيا لتقديم المزيد من التسهيلات لليهود في استعمار فلسطين ولاصدار وعد تركي بانشاء وطن قومي يهودي في فلسطين لكن بريطانيا اسرعت باعلان وعد بلفور لتقطع الخط على المساعي الالمانية التركية (8) .
فاذا اخذنا بالاعتبار هذا الامر فانه من الطبيعي ان تُسارع بريطانيا الى حماية مشروعها في تهويد فلسطين وعدم السماح لاية جهة ان تحل محلها في رعاية اليهود وحمايتهم وفي جعل فلسطين مخلب قط لها في المنطقة العربية، ولذلك رأينا كيف ان بريطانيا تصلّبت في موقفها الرافض لقبول مطالب الفلسطينيين الطبيعية في البقاء في بلادهم وممارسة ادارة انفسهم ذاتياً، فقد قامت بريطانيا بحشد قواتها العسكرية الضاربة لسحق الثورة الفلسطينية وكثّفت جهودها السياسية الماكرة لخداع العرب من اجل انجاح مشروعها العتيد.
لم تستطع بريطانيا ان تخمد الثورة الفلسطينيين عام 1936م التي اشترك فيها جميع الفلسطينيين في المدن والقرى والارياف والبادية والتي دعمها الملك عبد العزيز بالمشورة والسلاح والذخيرة والمال سراً (9) وكذلك انضم اليها متطوعون عرب من سوريا ولبنان والعراق والمملكة العربية للسعودية وتولى قيادتها بجدارة القائد العربي السوري فوزي القاوقجي اقول لم تستطع بريطانيا العظمى ان تُخمد هذه الثورة العارمة بالقوة العسكرية المحضة حيث لجأت بريطانيا الى الزعماء العرب للاستعانة بهم للتأثير على الفلسطينيين لوقف الثورة مقابل ضمانات معينة تشمل وقف الهجرة اليهودية الى فلسطين او الحد منها والعمل على تطوير ادارة فلسطينية ذاتية حيث وجه الملك عبد العزيز والملك غازي والأمير عبد الله نداء مشتركاً دعوا فيه الى وقف الاعمال المسلحة والاعتماد على النوايا الطيبة للحكومة البريطانية التي اعلنت انها ستحقق العدالة (10) .
وهنا لا بد من ايضاح امر هام يتعلق بمواقف كل من هؤلاء الزعماء العرب الثلاثة حيث كان موقف الملك غازي والامير عبد الله هو مطالبة اللجنة العربية العليا لفلسطين بوقف الثورة منذ ان قامت فقد دعا الأمير عبدالله أعضاء اللجنة للاجتماع به في عمان ليطلب منهم وقف الأعمال الثورية لكنهم ابلغوه انهم عاجزون عن ذلك، وكذلك جاء وزير خارجية العراق نوري السعيد للغرض نفسه فاقنع اعضاء اللجنة المذكورة بوقف الثورة مقابل وقف الهجرة اليهودية والنظر في المطالب الفلسطينية (11).
أما موقف الملك عبدالعزيز المبدئي فانه مع الكفاح المسلح لأبناء فلسطين بوجه خاص والسوريين بوجه عام فقد وفد اليه القادة في سوريا وفلسطين عام 1934م وعرضوا ماوصلت اليه الحال في سوريا وفلسطين فأكد لهم ان هناك مخططات استعمارية تستهدف العرب وانه من الضروري ان تتوحد كلمتهم، اما بالنسبة لفلسطين فانه حزين لما آل اليه مصير الاحزاب المتناحرة في فلسطين على السلطة وانه يرى ان الدور الحقيقي لهذه الأحزاب هو الاتحاد وتقرير مبدأ الكفاح المسلح فان الحل بأيدي ابناء فلسطين وانه على استعداد اذا ما تكاتفت هذه الاحزاب ان يساندها بالاسلحة والذخيرة.
ونقل الحاج محمد امين الحسيني هذه الرغبة التي لاقت ترحيباً لدى الأحزاب الفلسطينية فتوحدت صفوفها، وكان الامير سعود بن عبد العزيز في زيارة لبريطانيا عام 1935م فاشترى سلاحاً من بريطانيا وارسله الى السعودية وهو في الحقيقة كان يرسل الى الثوار في فلسطين (12) .
ولذلك فانه عندما اشترك الملك عبد العزيز مع الملك غازي والأمير عبد الله في توجيه النداء الى الفلسطينيين بالكف عن الأعمال المسلحة، انما فعل ذلك بعد التشاور والتنسيق مع اللجنة العربية العليا لفلسطين التي كانت راغبة في ذلك وليس استجابة لضغوط بريطانية، حيث لم يُفرق بعض الكتّاب بين موقف الملك عبد العزيز القومي وغيره من الحكام الذين كانوا يدورون في فلك السياسة البريطانية (13) .
فقد أورد الدكتور عبد الوهاب الكيالي في كتابه تاريخ فلسطين الحديث ان الزعماء الفلسطينيين كانوا متلهفين الى وقف الثورة والاضرابات (14) ويقول ايضاً ان الاسباب التي حملت اللجنة العربية العليا على الدعوة الى حل الاضراب ووقف الثورة تتصل على الارجح بتقديرها لمدى خطورة ما تطورت اليه الحالة العسكرية بعد وصول الفرقة البريطانية الجديدة اضف الى ذلك انتشار البطالة بسبب الثورة واقتراب موسم الحمضيات الذي يمس مصالح الكثيرين من الوجهاء السياسيين (15) .
لقد كشفت احداث ثورة 1936م هزال العصابات الصهيونية وانها غير قادرة على حماية نفسها او القيام بأعمال عسكرية ذات قيمة امام بسالة العرب وفدائيتهم فكان هذا عاملاً مهماً على اعادة النظر في خطة تهويد فلسطين على الصعيدين العسكري والسياسي ليس في الرجوع عن تلك الخطة سياسياً وعسكرياً ولكن بالاعداد والاستعداد لها من اجل ان تكون حقيقة واقعة من الناحيتين العسكرية والسياسية.
فعلى الصعيد العسكري كان لا بد من تكوين جيش صهيوني مدرب تدريباً جيداً، ولذلك الغرض جلبت بريطانيا احد اشد ضباطها قسوة وحماساً للصهيونية وذلك في منتصف عام 1936م وأوكلت اليه هذه المهمة، وهذا الضابط هو شارلس اورد وينجت الذي يُعتبر مؤسس الاستراتيجية الصهيونية في الفنون العسكرية حيث قام بتدريب افراد الهاجانا على القتال في مختلف الظروف وبأرقى الاساليب التي وصل اليها العلم العسكري وعلمهم اللامبالاة في ممارسة قتل الفلسطينيين العزّل وكيف ينبغي ان يقدموا على ذلك بأعصاب باردة وبهدوء تام، فكان هذا الضابط الانجليزي يدرب الجنود الصهاينة على مهاجمة القرى العربية بمفاجآت ليلية ويقتل الشبان الفلسطينيين امامهم ببرود اعصاب ويأمرهم ان يفعلوا مثله وقد اجبر جندياً يهودياً يافعاً ان يطلق النار على شاب فلسطيني بهدوء تام بحجة ان لديه معلومات يخفيها (16) .
اما على الصعيد السياسي فقد قامت الحكومة البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق - بل لجنة تسويف - في آخر سنة 1936 م للتحقيق في الاوضاع في فلسطين ومضت هذه اللجنة في اعمالها متحيزة ضد العرب الذين قاطعوها بسبب عدم وفاء الحكومة البريطانية بوقف الهجرة اليهودية، وخلصت هذه اللجنة الى اقتراح تقسيم فلسطين الى ثلاث مناطق: عربية اردنية وتشمل المقاطعات التي جميع سكانها من العرب بحيث تضاف الى الأردن، ويهودية والتي اكثرية سكانها من اليهود، وتتكون المنطقة الثالثة من مدينة القدس ذات الاهمية الدينية، ومن المواقع ذات الاهمية الاستراتيجية والتي رأت هذه اللجنة ان تبقى تحت الحكم البريطاني المباشر (17).
وقد قبل اليهود هذه المقترحات مع التمسك بشيء من المساومة على الحدود ورفضها العرب رفضاً باتاً ما عدا الامير عبد الله وعدد قليل من الفلسطينيين الذين قبلوا التقسيم لمصالح خاصة وبعض الزعامات العربية الموالية لبريطانيا (18) .
لقد اعتبر العرب عدم ايقاف الهجرة اليهودية الى فلسطين وكذلك اقتراحات التقسيم نكثاً بريطانياً للوعود التي قدمتها للزعماء العرب عن طريق وسيطها نوري السعيد عندما طلبت مساعدتهم بايقاف الثورة في آخر سنة 1936م وعندما اعلنت آنذاك انها ستحقق العدالة، ولذلك استأنف الفلسطينيون العمل المسلح في اقل من سنة واعاد الانجليز متضامنين مع اليهود سياستهم القمعية ضد الفلسطينيين، وكلما زادت المقاومة الوطنية من نشاطها وحققت انتصارات جديدة ضد الاحتلال زاد المحتلون شراسة وبطشاً، فقد قامت السلطات البريطانية باعتقال الزعماء الفلسطينيين وتمكن الحاج امين الحسيني من الافلات من قبضتهم وأدى هذا الى تصاعد المقاومة ضد مراكز القيادات البريطانية والمستعمرات اليهودية وتمكن الثوار من الحاق أفدح الاضرار بوسائل النقل والمرافق الهامة للمحتلين والمستوطنين واشترك الاهالي العزّل في المقاومة يرشقون قوات الاحتلال بالحجارة.
واسقتطبت الثورة اعداداً كبيرة من المجاهدين العرب من الاقطار العربية المجاورة، وكانت الامدادات تأتي من الداخل ومن الخارج حيث تم تشكيل لجنة مركزية للجهاد اتخذت من دمشق مقراً لها وتم تشكيل قيادات محلية ولجان ثورية في جميع انحاء البلاد، وتمكن الثوار من السيطرة سيطرة تامة على عدد كبير من القرى وصارت اجزاء من مختلف ارياف فلسطين تحت سيادة الثوار المطلقة (19) .
وعلى مدى عام 1938م بطوله الى منتصف عام 1939م قام الثوار الفلسطينيون من جهة والبريطانيون والصهيونيون من جهة اخرى بغارات متبادلة الحقت دماراً واسعاً في المراكز والمنشآت البريطانية والمستعمرات اليهودية وفي المدن والقرى العربية وادى تفوق الثوار الفلسطينيين الى انهيار الادارة المدنية للانتداب البريطاني انهياراً كاملاً (20) .
وكان لا بد للحكومة البريطانية امام ذلك الوضع ولا سيما ان نُذر الحرب العالمية الثانية اخذت تلوح في الافق من اتخاذ اجراءات تؤكد بها قبضتها القوية في فلسطين وهذا لا يمكن الا بتقديم تنازلات حقيقية يرضى بها الفلسطينيون ويقتنع بها العرب ايضا لأن بريطانيا لا يمكن ان تدخل الحرب وتكسبها اذا كان العرب ضدها، فالمنطقة العربية وخاصة فلسطين تمثل قلب الامبراطورية البريطانية من الناحية العملية حسب وجهة النظر الاستراتيجية البريطانية ذاتها.
لكن قبل ان تقوم الحكومة البريطانية بتقديم أية تنازلات للعرب رمت بكل ثقلها العسكري لإعادة احتلال فلسطين عسكرياً مستعينة بقوات اضافية جلبتها من بريطانيا وبقوات ايضاً من شرق الأردن وقوات يهودية، فضغطت على الثوار الفلسطينيين واحتلت المدن، وعرف القائد البريطاني هايننغ كيف يستفيد من العناصر المناوئة للثوار في الداخل كما استغل اخطاء الثوار لتكوين طابور خامس من الأهالي يضرب به الثورة (21) .
وفي هذا الوقت بالذات اعلنت الحكومة البريطانية ان مشروع التقسيم الذي تبنته في العام الماضي لاغٍ باعتباره غير عملي واعلنت ايضا عن وضع فلسطين تحت حكم الانتداب المباشر تمهيداً لايجاد حل يرضي العرب واليهود على حد سواء ودعت كلاً من الطرفين الى مؤتمر يُعقد في لندن لهذا الغرض، وهو ما عرف بمؤتمر المائدة المستديرة.
رحب الفلسطينيون بتخلي بريطانيا عن مشروع التقسيم ورحبوا ايضا بأن بريطانيا دعت ممثلين عن الدول العربية المستقلة لحضور المؤتمر وقبل اليهود حضور المؤتمر على مضض ليس بسبب الغاء مشروع التقسيم فحسب، بل بسبب دعوة الدول العربية لحضور ذلك المؤتمر (22) .
ورفضت الوفود العربية الجلوس وجهاً لوجه مع الوفد الصهيوني في المؤتمر، وفي 7 مارس 1939م تم افتتاح اعمال المؤتمر من قبل رئيس وزراء بريطانيا نفيل تشمبرلين مع الوفود العربية في الصباح على حدة ومع الوفد الصهيوني بعد الظهر.
وتراوحت كلمات الوفود العربية ومطالباتهم بين الصراحة التامة والشدة بوجوب حصول الفلسطينيين على حقوقهم بما يؤمن سلامة بلادهم وكرامة مقدساتهم بشكل يرضى به العرب كما جاء على لسان رئيس الوفد السعودي الامير فيصل بن عبد العزيز (23) وبين اثبات التبعية لبريطانيا وتوسلها باعطاء الفلسطينيين حكماً ذاتياً كما جاء على لسان نوري السعيد رئيس الوفد العراقي (24) .
ثم طالب رئيس الوفد الفلسطيني جمال الحسيني بحق العرب في الاستقلال والتخلي عن الوطن القومي اليهودي، وووقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الاراضي والغاء الانتداب والاستعاضة عنه بمعاهدة تحالف بين دولة فلسطينية مستقلة والحكومة البريطانية.
اما الوفد الصهيوني فقد طالب بالحفاظ على الوضع الراهن واستمرار تنفيذ صك الانتداب ومضمون وعد بلفور ورفض ان يكون لليهود وضع الاقلية في فلسطين.
وتقدمت الحكومة البريطانية باقتراحات تنطوي على انهاء الانتداب وعقد مؤتمر طاولة مستديرة في فصل الخريف القادم يُوضع خلاله دستور دولة فلسطينية تحت الحماية البريطانية على ان تتمتع الاقلية اليهودية بحماية تقترن بضمانات معينة (25) .
طالب العرب بالمباشرة في تنفيذ الاقتراح البريطاني في الحال اما اليهود فقد رفضوه وبذلك انفض المؤتمر دون نتيجة حاسمة اللهم إلاقضاء على الثورة في فلسطين قضاء مبرماً وهذا هو ما كانت تهدف اليه الحكومة البريطانية من تلك الحركة السياسية الماكرة كما بينت الاحداث فيما بعد.
ولتضمن الحكومة البريطانية مزيداً من الاستقرار لأوضاعها في المنطقة العربية والعالم بما يؤهلها لدخول الحرب المزمعة فانها كثفت تأكيداتها عما اعلنته باصدارها للكتاب الأبيض لعام 1939م الذي نص على السماح ل75 الف مهاجر يهودي جديد على مدى خمس سنوات قادمة ثم وقف الهجرة اليهودية الا بموافقة الفلسطينيين وحددت مدة عشر سنوات كفترة انتقالية ثم تُعطي للفلسطينيين حكماً ذاتياً ووضعت حلولاً لعملية بيع الاراضي وانتقالها من العرب الى اليهود وذلك بتقسيم فلسطين الى ثلاث مناطق، الاولى لا يسمح فيها ببيع الاراضي او انتقالها بتاتاً، والثانية لايجوز ذلك الا تحت اشراف سلطات الانتداب، والثالثة يكون لسكانها الحرية المطلقة بذلك (26) .
تقبّل الفلسطينيون محتويات هذا الكتاب البريطاني الابيض!! وعلى نغماته ودوي انفجارات الحرب العالمية الثانية خبأ لهيب الثورة الفلسطينية التي استمرت اربع سنوات، فقد انقطع عن الثوار المدد بسبب ظروف الحرب فاستشهد من استشهد في ميادين النضال ليلحق بمن سبقوه من مواكب الشهداء وانسحب آخرون ليعودوا الى الكفاح مرة اخرى.
ان بريطانيا بما اقدمت عليه ولعيون الصهيونية ما كانت تمارس إلا خدعة جديدة لضمان وقوف العرب معها في الحرب العالمية الثانية التي كانت تخطط آنذاك لإشعال فتيلها مع المانيا بسبب التوسع النازي على حساب النفوذ البريطاني في الدول المجاورة لالمانيا في اوروبا، فقد اكد وزير المستعمرات البريطاني ماكدونالد للزعيم الصهيوني وايزمن ان حكومته لن تضع ما جاء في كتابها الابيض موضع التنفيذ (27) .
المراجع
(1 - 6) تاريخ فلسطين الحديث ص 345 و79 و213 و99 و275 و275 الدكتور عبد الوهاب الكيالي.
(7) النشاط الصهيوني خلال الحرب العالمية الثانية ص 178 - 190 الدكتور عبد الرحيم احمد حسين.
(8) تاريخ فلسطين الحديث ص 79.
(-) يقظة العرب ص 368 جورج انطونيوس.
(9) لمحات عن القضية الفلسطينية ودور الملك عبد العزيز آل سعود ص 108 ابراهيم المسلم.
(10 - 11) تاريخ فلسطين الحديث ص 277 - 273.
(12) لمحات عن القضية الفلسطينية ص 108.
(13 - 15) تاريخ فلسطين الحديث ص 275 و275 و278.
(16) النشاط الصهيوني خلال الحرب العالمية الثانية ص 114.
(17 - 23) تاريخ فلسطين الحديث ص 284 و288 و290 و296 و297 و300.
(24 - 27) جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن ص 256 و257 و258 وص 32 صالح مسعود ابو بصير.
|