جسد توفيق الحكيم مذهبه فى الحياة والفن فى كتابه التعادلية الذى اصدره المؤلف على ما يبدو كرد على مايثار حول موقفه من عصره وكيف انعكس هذا الموقف فىمسرحياته ورواياته وكتبه ,, وقد ابرز الحكيم فى هذا الكتاب كثيرا من صور التعادل فىمجال الخير والشر ,, والفكر والعمل ,, وما يسميه التعادل بين التعبير والتفسير ,, وقد ركز المؤلف على فكرة حرية الأديب ولكنه رأى ان هذه الحرية غير مطلقة ,, وبؤرة الفكرة التعادلية هي وجود الآخر وبدون وجود الآخر ينعدم وجود الأنا نفسها فهو يقول :أنت تعادلى اذا كنت تعتقد : أن الوجود هو التعادل مع الغير الأرض لا تكون بغير تعادلها مع الشمس , لايوجد مخلوق وحده ,, كل كائن وكل صفة وكل حالة وكل وضع لايوجد فى عالم المحسوسات ولا فى عالم المعانى الا بالنسبة الى غيره ,, لابد من غيرك لتكون انت ,, التعادلية اذن تقوم على الغيرية والوجود التعادلى يتلخص فى هذه العبارة : بغير الغير لا يوجد وجود ان توفيق الحكيم يواجه بهذا المفهوم مفهوم الفلسفة الوجودية عند سارتر الذى رأى فىمسرحية جلسة سرية ان الجحيم هو الآخرون ,, والمؤلف يفصل بين سلطة الفكر وسلطة العمل , ولابد فىرأيه من هذا الانفصال حتى يحتفظ المفكر بحريته وقدرته على التأثير وهو يفرق بين استقلالية الفكر وبين انعزاليته فهو يرى ان المنعزل لا يؤثر ولايتأثر فالعزلة نفي للوجود اما الاستقلال فهو موقف يقوم على الثقة والحرية والمسئولية,, والحكيم يرى ان التحاق المفكر بالسلطة او ما يسميها العمل يؤدى به الىالتخلى عن حريته حتى يفقد فاعليته ويصبح تابعا بينما يؤدى هذا الانصياع الى طغيان ا لادارة التى لاتواجه فكرا يقومها ويعادلها , وتتمثل التعادلية فى فهم الحكيم لدور الأديب فما هى هذه التعادلية؟ يرى المؤلف ان التعادلية تقيم الأدب والفن على أساس قوتين يجب ان يتعادلا هما : قوة التعبير وقوة التفسير فالأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته الا اذا تم فيه التوازن بين القوة المعبرة والقوة المفسرة ثم يتساءل ما هو المقصود بالتعبير ؟ أهو الشكل؟ ثم يجيب: الا انه ليس الشكل فقط ,, انه شيء أكثر من ذلك ,, ولأضرب لك مثلا بسيطا فلنفرض أنك سمعت نادرة من النوادر يلقيها شخصان ,, أحدهما متكلم عادى والآخر محترف لبق موهوب هذه النادرة الواحدة تتخذ عندئذ مظهرين مختلفين فهى فى الحالة الاولى تبدو مجرد حادثة ,, اما الثانية فتبدو هذه الحادثة نفسها وكأنها لونت وأضيئت وتحركت بحياة نابضة ,, لا تدرى من أين أتتها ولاكيف نفخت فيها تلك هى قوة التعبير ,, ويلمس الحكيم جوهر عملية الابداع حين يرى ان قوة التعبير تأتى من الاستعداد الفطرى والدرس والاجتهاد الشخصي ولابد من الموازنة بين المحاكاة والابتكار فالاسراف فى المحاكاة يؤدى الى الغاء الذاتية وعدم القدرة على الاضافة الى ما أبدعه الأسلاف ,, اما الافراط فى الابتكار فيؤدى الى قطع الصلة بينك وبين الآخرين والانفصال عن سلسلة التطورات الطبيعية فىحياة الأديب أو تاريخ الفن هكذا فعل شكسبير وبيتهوفن فيما قاما به من محاكاة وابتكار ان هذه القضية الى يطرحها الحكيم تضيء جانبا من المشهد الراهن فى حياتنا الابداعية حيث اوغل الكتاب الجدد سواء كانوا قصاصين او شعراء أو روائيين فىالتجريبية التى تنفي صلتهم بالسياق التاريخي للأنواع الأدبية بحيث أدى هذا الاسراف فىالقطيعة الى ظهور الوان من النصوص تستعصي على الفهم وتتمرد على معايير النوع الأدبي التى لاتحاول الانتساب اليه مثل كثير من الخواطر التى تكتب تحت عنوان القصة القصيرة ومثل قصيدة النثر الحائرة بين طموحها وواقعها، ان الحكيم يعني بقوة التعبير الاسلوب الفني الذى يلائم بين طبيعة الموضوع وبين شكله الفني وكأن الحكيم وهو يعرض للشكل الفنى فى اعمال شكسبير التراجيدية والهزلية وبين اعمال بيتهوفن الكلاسيكية والغنائية يعود من حيث يدرى او لايدرى الىالقاعدة الذهبية للبلاغة القديمة وهى ان البلاغة انما هى مطابقة الكلام لمقتضى الحال ويرى الحكيم ان ملكة التعبير عند الاديب أو الفنان لا يمكن ان تظهر كل أشعتها وألوانها وانغامها اذا لعب بها على وتر واحد ,, مهما يكن هذا الوتر قويا وبليغا صافيا نقيا ,, ماذا كنا نفضل وماذا كان يفضل الفن الانسانى ؟ ان يخرج لنا شكسبير كل مسرحياته على نسق هاملت ؟ اسلوبا وفكرا وارتفاعا ؟ أو يكون لنا كل هذا التلوين فىالتعبير فيجد مرة ويهزل مرة اخرى ويعبس ثم يبتسم ويرتفع ثم ينبسط ويطرق متأملا ثم يقهقه ضاحكا ويكون تارة فيلسوفا وتارة مهرجا وحينا شاعرا وحينا ساخرا ,, ان عظمة شكسبير هى فى انه استطاع ان يكون كل ذلك ,, ولكن قوة التعبير هذه التى اشار اليها الحكيم لابد لها من قوة اخرى تعادلها هى ما يسميه قوة التفسير فما هو هذا التفسير ؟ يقول توفيق الحكيم :التفسير هو الضوء الذى يلقى على موضع الانسان فىالكون والمجتمع فالأدب أو الفن التعادلي يجب ان تتوازن فيه القوة المعبرة والقوة المفسرة وكان أحرى بالحكيم ان يقول ان الأدب او الفن الحقيقي بدلا من قوله الأدب التعادلي فكأن الأدب التعادلى انما هو لون جديد ابتكره وليس مجرد وجهة نظر فى حقيقة الأدب والفن وحين يعرض المؤلف لفكرة حرية الأديب يعود الى ماأورده فى كتابه فن الأدب حيث يقول :ان الأديب يجب ان يكون حرا لان الاديب اذا باع رأيه او قيد وجدانه ذهبت عنه فى الحال صفة الأديب ,, فالحرية هى نبع الفن وبغير الحرية لايكون أدب ولا فن ,, والحكيم يرىالاديب ملتزما ولكن التزامه ينبع من داخله هو ولا يمكن ان يفرض عليه ,, وهو يعارض نظرية الفن للفن ويقول عن نفسه : انا فى الحقيقة لم أكتب لأعبر فقط بل لأفسر وفيما يتعلق بحرية الإرادة الانسانية يقول توفيق الحكيم :
ارادة الانسان عندى حرة فى حدود خاصة وهذه الحدود هى قوانين وليست ارادات طاغية هي نواميس وليست مصادفات طارئة ,.
فالانسان عندى عاجز حقا امام مصيره,, ويرى الحكيم ان الكفاح ولو ضد المستحيل يبقى وحده واجب البشرية ,, وكأن الحكيم يعلن تأثره بالفكر اليوناني وبالاسطورة الشهيرة اسطورة سيزيف الذى عوقب بسقوط الصخرة التى يرفعها الى اعلى الجبل ولكنه لا يكل ولا يتوقف عن الصعود بها طالما سقطت ,, هذا قدر الانسان ,, وهذه هى رؤية توفيق الحكيم الى الوجود وهى رؤية تحمل تفاعل الفكر مع الفلسفة فى اطار الابداع الأدبي والفنى بل وفى شتى مناحي الحياة الانسانية.
|