قلم الرافعي من الأقلام العربية البارزة في القرن الرابع عشر الهجري، فقد سطر هذا القلم المجلدات التي خدمت الثقافة العربية الإسلامية فربت أجيالاً وتتلمذ عليها الآلاف من أبناء الأمة العربية والأمة الإسلامية عامة، فما كتبه الرافعي ولج إلى المقررات الدراسية، والمكاتب العامة والمكاتب الخاصة، فكتابته مقروءة من قبل الصغير والكبير، وذاك دليل على جودتها وأصالتها فكتابه تاريخ آداب العرب من أهم الكتب التي أرخت الأدب العربي، فقد انتُفع بهذا الكتاب منذ تأليفه إلى يومنا هذا، فمادته تمثل الأصالة وتعرض الأدب العربي عرضاً ينبىء عن خبرة مؤلفه ووقوفه على المصادر، والتمييز بين ما هو جدير بالعرض، وما هو دون ذلك, ومؤلفات الرافعي في إعجاز القرآن من أفضل ما ألف في زمنه.
ومقالاته الكثيرة وردوده على معاصريه تشتمل على العلم الغزير والأدب الجم والمعارف المتنوعة، فحياة الرافعي وقف على الكتابة والتأليف، منذ أول شبابه إلى أن دلف في النصف الثاني من العقد السادس من عمره، إنه من حملة القلم في ليله ونهاره، يحمله في نهاره من أجل وظيفته التي يكتسب عن طريقها عيشه، ويحمله في ليله من أجل خدمة العلم ونشر الثقافة, وقد تميز الرافعي بأسلوب خاص أهم معالمه القوة والبعد عن اللين، فمبدأ الرافعي تطويع اللغة لرؤيته الخاصة، فهو لا يرضى من اللفظ بما يرد عليه، وإنما يبحث عن الوعر والغريب والجزل الفخم، فتتكون لديه تراكيب متينة يحسن سبكها في عبارات متراصة فينتج عن ذلك أسلوب الرافعي الذي لا يقرن بأسلوب الإيجاز الجاهلي في الخطبة والتأبين والحكمة، ولا بأسلوب الجاحظ في بسطه العبارة وقرب أخذه من اللغة بما تسعفه الذاكرة في حينه، ومع أن الرافعي تتلمذ على أساليب الكتب الأدبية والبلاغية التي توارثت أسلوب الصنعة منذ القرن السادس الهجري إلى زمن الرافعي، فقد نأى بأسلوبه عنها إلى توجه جديد اختاره لنفسه، فالأسلوب الذي اشتهر به الرافعي، وعرف به هو أسلوب القوة والجزالة في جل كتبه، فهو يقرأ الصحف والمجلات فيطلع على الأساليب السهلة مثل أسلوب طه حسين، أو أسلوب المازني، أو غيرهما فلا تعجبه العبارة العصرية، بل يعدها ترجمة للأساليب الفرنسية السائدة في الكتب الأدبية, ولكن هل ثبت الرافعي على أسلوب القوة حتى وفاته؟ إن الجواب على هذا السؤال يحتاج من المجيب إلى قراءة (وحي القلم)، ليقف على مقالات الرافعي التي كتبها في السنتين الأخيرتين من حياته، وبما أن تلك المقالات تنشر في المجلات، فإن أسلوبها سيكون قريباً من الأساليب العصرية، وهذا ما نجده في مقالات الرافعي في (وحي القلم)، فقد نزل من عليائه إلى مخالطة الناس، فأخذ يكتب لهم ولا يكتب لنفسه، كما كان يفعل من قبل، فأبعد عن وعورة الأسلوب، وصحب الألفاظ المألوفة التي يدرك معناها القارىء بدون الرجوع إلى المعاجم، فتحول أسلوبه من الإنغلاق إلى الوضوح، مع الالتزام بالسمت العام للأسلوب العربي، فأسلوبه لم ينحدر إلى وهدة الابتذال، وإنما ابتعد عن الالتواء وكثرة الغريب، فأصبحت الجملة الفعلية تأخذ بزمام الأسلوب، مما أضفى على مقالاته الحيوية التي يحس بها القارىء, وصفوة القول أن أسلوب الرافعي في سنواته الأخيرة تراخى عن القوة إلى شيء من اللين، ولو امتد العمر بالرافعي لرأينا نمطا أخر من أسلوبه.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل